لماذا دائمًا ما تُصاب أو يُلقى بها في أوج الألم كلما تُركت وحدها؟
”كانت حالتها سيئة جدًا حينَ وجدتها، يجب أن نحضر طبيبًا فورًا، لذا—”
صوت ألبيريو المزعج كانَ يطنّ في أذنه، لكنه بالكاد وصل إلى وعيه، إلى أيّ مدى تدهورت حالتها حتّى أنها لم تستطع المجيء معه، حتّى معَ شخص تعرفه؟
‘ما الذي جرى بينها و بين الخادم في وقتٍ سابق؟’
لكن كل تلك الشكوك القذرة التي كانت تتصاعد في حلقه، تلاشت تمامًا حينَ رأى ما أمامه.
بين الشجيرات المظلمة، لمح ألبيريو رجلًا ينحني و يتلفّت حوله.
“أوه… ما هذا؟”
الضحكة التي امتزجت بموسيقى القاعة، كانت تنضح بالحقارة.
“هاها، كُنتِ مغمىً عليكِ قبل قليل، و ها أنتِ ذا ممدّده هكذا؟”
في تلك اللحظة، شهق ألبيريو و هو يركض إلى جانب إيزار.
‘اللعنة!’
التعويذة التي ألقاها لإخفاء السيدة قد انحلت بالفعل، لكن قبل أن يتمكن من تحريك يده لاستعادة التمويه، دوّى صوت ارتطام العظم بقبضة يد.
الرجل الذي مدَّ يده نحو السيدة المستلقية على الأرض لم يحظَ حتّى بفرصة للصرخة، بل اندفع جانبًا و ارتطم بالأرض.
«آه!»
تقيّأ الرجل دمًا و سنًا أماميًا على التراب، و هو يحدّق مذهولًا.
إيزار، الذي وجه له الضربة بظهر يده، لم يلتفت إليه، بل ركع على الفور إلى جانب المرأة الممددة.
من أخمص قدميه إلى قلبه، شعر كأن الثلج يسري فيه، كانَ قد ظنّها جميلة بشكلٍ مبالغ فيه عند ركوبهما العربة، و ظنَّ الأمر ذاته حينَ دخلا الحفل…
لكن الآن، لم تكن إلا بقايا إنسان، كـجثة متروكة في غابة موحشة.
“فريسيا.”
جثا بسرعة، و رفع جسدها العلوي إلى حجره.
كانت أكثر خمولًا مما كانت عليه من قبل، وجهها غارق بالعرق البارد، و جسدها يرتجف كأن الحمى تلتهمها.
“فريسيا، استفيقي. فريسيا!”
ناداها بقلق، بصوت مبحوح، لكن عينيها ظلّتا مغمضتين، كأنهما أغلقا إلى الأبد، لم يسبق له أن شعر بمثل هذا الذعر من قبل.
بسرعة، لفّها بردائه و رفعها بذراعيه، كانَ جسدها المتجمّد يُشعره و كأنه هو من يتجمد.
و قبل أن يدخل القاعة، ألقى نظرة على ذلك الرجل… ذلك النذل الذي يأنّ و يتلوّى على الأرض.
ألم يكن هذا الفاسد ابنًا لأحد النبلاء الذين لطالما تقرّبوا منه بكلمات الشكر؟
“أنت.”
«يـ-يا صاحب السمو…”
رغم كونه من نبلاء العاصمة، إلّا أن كونه الابن الثالث و المنبوذ من عائلته جعله يرتجف رعبًا.
بينما كانَ ثملاً، سمع أتريا تذكر عرضًا أن أختها خارجًا «تروّح عن نفسها»، فـانطلق يتسكع…
ظنّها مجرد لقيطة من الريف، و تخيّل أنها قد تحمرّ خجلًا لو داعبها بكلمة… بل و أثارته حالتها المُنهارة، فـانحنى، و هو يتوسّل:
“أقسم، لم أكن أنوي شيئًا سيئًا! فقط… ظهرت فجأة، و— أوغ!”
ركلة من قدم إزار ارتطمت بأنفه مباشرة، فتناثرت عروقه تحت الجلد، و طار سن آخر من فمه.
“آه! إن فعلتَ هذا… أوغ!”
“و لِمَ لا؟ أخبر الجميع بما حصل.”
يداه ما زالتا تحتضنان فريسيا، المتجمدة في حضنه، لكن صدره يشتعل بنار لا تُطفأ.
“قُل لهم إنكَ ضُرِبت لأنك حاولتَ تلويث شرف زوجة إيزار أركتوروس.”
“لـ-لا! الأمر ليس كما—!”
“بدءًا من اليوم، لن تتلقى عائلتك دعمًا واحدًا من بيت أركتوروس.”
“أه… أرجوك، يا سموّ الدوق—!”
فالفرسان العاديون لا يستطيعون قتال الوحوش، وحده إيزار، و نخبة فرسانه، من يمكنهم سحقهم دون أن يُسفك دم احد.
دون ذلك الدعم، كانت عائلته ستضطر للقتال وحدها، يائسة، للبقاء، خصوصًا في ربيع الوحوش، أو وسط “التغيرات الغريبة” التي أخذت تتفشّى مؤخرًا…
لكن كل ذلك لم يكن يعني شيئًا لإيزار في تلك اللحظة.
ما يهمّه الآن… هو العودة فورًا إلى قصر أركتوروس.
منذ أن دخل إيزار القصر و هو يحمل فريسيا بين ذراعيه، انقلب المكان رأسًا على عقب.
أيّ تفصيلة كانت الأشد وقعًا؟
أنَّ السيد، الذي اعتاد إحاطة نفسه بجدران من الجفاء، قد حمل بنفسه تلك الابنة غير الشرعية بين ذراعيه؟
أم أنه قد أصدر أوامره للطبيب بعنفٍ أن يُجري الفحص بدقة؟
أم أن حالة المرأة نفسها كانت بالفعل حرجة للغاية؟
جسدها كانَ يرشح بالعرق البارد، يلتوي و يضطرب، تتقيأ و تكافح لالتقاط أنفاسها و هي غائبة عن الوعي.
الطبيب، الذي كانَ يتصبب عرقًا هو الآخر، لم يتوقف عن التحديق في إيزار طلبًا للإذن أو الموافقة.
“يا صاحب السمو… حسب التشخيص الظاهري… يبدو أنها تعرّضت لنوعٍ من… السُمّ.”
“هذا واضح من البداية.”
زمجر إيزار و هو يكبت رغبته الجامحة في تحطيم الجدار، و نظر للطبيب بنظرة تكاد تخترقه.
“بما أنك عرفت أنه سُم، فلا شك أنك عرفت نوعه؟ ومضادّه؟”
“نـ-نعم، نعم، يا سيدي… إنه مُجرّد مُرخٍ للأعصاب، و إذا لم تكن قد تناولت كمية كبيرة، فـستُصاب بحمى شديدة ثم تتعافى تدريجيًا.”
“مجرد مرخٍ؟ هاه…”
كأنَّ الأمر بسيط، لكن بالنسبة لمن يعانيه، فإن مُجرّد التنفّس يتحول إلى صراع.
“تبا…”
كاد يطلق لعنةً أقسى، لكنه عضَّ لسانه ونظر إلى فريسيا.
حينَ كانت إلكترا تلهب ظهرها بالسياط الشائكة حتّى نزفت، كانَ يشعر بغصة مشابهة…
لكن ما يعصف به الآن لا يُقارن، على الأقل، حينها كانَ قد عاد للتو من مذبحة ضد الوحوش.
أما الآن… فقد كانَ قريبًا… و رغم ذلك، لم يستطع حمايتها.
لقد تجاهل فريسيا.
كانَ ينوي بعد نهاية الحفل أن يُعلن ببساطة أن “هذا الزواج لاغٍ و لا يُعتد به”…
ظنَّ أن دوقة أَنتاريس لن تتجاوز بعض “المضايقات”…
رأى من قبل كيف تعامل النساء زوجات ازواجهن السابقات أو بنات الهوى، و كيف يُحتقر أبناء الزنا في بلاط النبلاء.
لكنه الآن… بحاجة لسماع الحقيقة من فريسيا نفسها.
“لا يمكنني الوثوق بكلمة واحدة من أفواه آل أَنتاريس.”
حينَ كانَ يستعد للمغادرة من قصرهم، كانت الأم و الابنة في منتهى الثقة، باستثناء الدوق المذعور.
<يا صاحب السمو، أعبر عن أسفي حقًا، فريسيا رغبت في استنشاق بعض الهواء، و خادماتنا أساءن في رعايتها.>
و ما إن أبدى اعتراضه، حتّى قدمت له الدوقة بنفسها الخادمات و قد بدت آثار الجلد واضحة على وجوههن، و ملابسهن القطنية المتسخة بالدماء الداكنة.
إحداهن كانت تلهث كأنها على وشك الموت إن لم تُعالج فورًا، لكن وجه دوقة أَنتاريس لم يحمل سوى الأسى المصطنع.
<كانَ عليّ أن أكون في الغرفة أيضًا… يؤسفني ذلك بحق. انشغلتُ كثيرًا باستقبال الضيوف فلم أفكر حتّى بالاطمئنان على ابنتي.>
<ابنتك؟ تقصدين ابنة المرأة التي قتلتِها بيدك؟>
<…>
<تركتِ جثتها لتتعفّن حتّى التهمتها الديدان، و الآن تزعمين أنك تهتمّين بابنتها؟>
لم يستطع إيزار كبح احتقاره، فـنطقها علنًا دون مداراة. لكن الدوقة لم تهتزّ، بل اكتفت بابتسامة باهتة.
<لكنك رأيتني، يا دوق، و أنا أركض خلف فريسيا، أليس كذلك؟>
كانَ سؤالها كمن يقول: “أنت تعلم كم أكره أبناء الزنا… فلِمَ تتفاجأ؟”
كانَ يظنّ أن زوجة أبيه صعبة المراس… لكن زوجة دوق أَنتاريس جعلتها تبدو وديعة بالمقارنة.
“امرأة مجنونة…”
على الأقل، إلكترا لم تكن تثير الفوضى علنًا أمام الناس. كانت تعتز باسم أركتوروس.
أما دوقة أَنتاريس … فلم تكترث لأي شيء، بل كأنها تتلذذ بالإهانة العلنية تحت سقف قصر زوجها.
<دوق أركتورس… لا تغضب كثيرًا، أرجوك.>
قالها دوق أَنتاريس بتردد، محاولًا تهدئة عاصفة “صهره”.
حتّى يتمكن من كشف حقيقة ما جرى في تلك الليلة، كان لا بُدَّ أن تستيقظ فريسيا.
“آه… أُهغ… أَه…!”
“فريسيا، تماسكي… خذي نفسًا، أرجوك!”
لكن لم تكن هناك وسيلة لإيقاظ امرأةٍ تعصف بها الحمى و النوبات طوال الليل.
خلال كل نوبة، كانت فريسيا تختنق، تنكمش على نفسها و تتلوى من الألم. و إيزار، الجالس إلى جوارها عاجزًا، شعر و كأن شيئًا يحترق بداخله، كأن الهواء انقطع عنه هو الآخر.
قبض على يدها الباردة بقوة، يكاد يسحقها بين أصابعه، ثم زمجر بالأمر بأسنانه المطبقة:
“أحضِروا فورًا أكثر من يملكون قوى إلهية في المعبد! حالًا!”
التعليقات لهذا الفصل " 57"