كافحت فريسيا لتكتم أنينها، حتّى معَ استبداد القيء بها، لم يتوقف الهمس المملوء بالمرارة والسخرية من ذاتها.
“لماذا… لماذا…”
لماذا من جاءها ليس إيزار؟ لا، كانَ من الأفضل أن يكون هذا الرجل قد وجدها بدلًا من أولئك النبلاء الوقحين.
و بصراحة…
لم تكن تتوقع حقًا أن يكون إيزار هو من سيأتي.
لو كانَ الأمر واضحًا إلى هذا الحد، لما شعرت بتلك الدهشة حين ظنّت للحظة أنه هو.
‘لكن لماذا أشعر بهذا الإحباط؟’
منذ أن فتحت عينيها مجددًا، كانت تخفض من توقعاتها، فـبتقليلها لرغباتها إلى الحد الأدنى، كانت تحمي نفسها من وقع خيبة الأمل.
ألم يقل إيزار ذات مرة : “إذا انشغلت بأمور أهم، سيكون من الصعب عليّ أن أبقى بجانبك”؟
‘لكن في الواقع، وجدني شخص آخر…’
ذلك الشخص ركع على الأرض ليتفقد حالها.
حينما كانت تُعامل كـحيوان و تغرق في بؤسها، كانَ هناك من لا يبالى إذا ما تلون ركبته بعشب الحقل.
و معَ دموعها التي انهمرت على وجنتيها، خرج من شفتيها قلبها المنكسر، الحقيقي.
“لم تكن أنت، سيدي، من أردت أن يأتي.”
“…”
“أنا… كنت دائمًا…”
كانت تعرف أنه لا يجوز لها أن تقول ذلك. لم يكن هناك وقت لتمضية الحديث في هذه الترهات.
رغم ألمها، لم ترد أن ترفع سيف المرارة في وجه أحد.
“آه…”
بيديها المتيبستين من مفعول السم، غطّت فريسيا وجهها.
في مأدبة أَنتاريس من حياتها السابقة، كانت تتمنى بالفعل أن يجدها “زوجها”، ينقذها من الظلام الذي تُضرب فيه.
يصرخ من فعل بها هذا.
‘رُبما كانَ مشغولًا حينها بمناقشة شؤون العائلة معَ الآخرين.’
و معَ ذلك…
حتّى لو كانَ الأمر كذلك، مهما بلغت سخافة الزوجة، أليس من الطبيعي أن يشتاق لها لو غابت طويلًا؟
ألا يستطيع إرسال خادم من أركتوروس ليبحث عنها؟
“آه…”
كانت الدموع التي تلامس راحتيها المخدرتين فاترًا، لكن الألم المتوهج في داخلها كانَ حاضرًا بوضوح.
كانت تتوق، و لو لمرة واحدة، لِـتشعر بأنها أغلى ما في حياة أحدهم، لو كانَ هذا الحب، لكان الأمر مثاليًا، لكن…
حتّى في هذه الحياة، بدا أن ذلك مستحيل، فـاقتنعت بأنها “مفيدة”.
كذبت على نفسها بأنها اكتفت بذلك، لكن إيزار لم يقدّرها في أي حياة.
لطالما كانت “العبء غير المرغوب فيه”.
عندما جرحها بكلمات حادة، فهمت ذلك مرات لا تُحصى.
بسبب الإمبراطور، و بسبب كراهيته للخداع، و بسبب كونها ابنة غير شرعية و راعية وضيعة.
‘لا أريد الاستمرار في محاولة الفهم…’
لكن حينها، غمرتها دفء لطيف من حول رأسها. كانَ كـأشعة الشمس تلامسها، فـرفعت فريسيا رأسها ببطء.
“سيدتي.”
كانَ ألبيريو ينظر إليها بجدية، على عكس عادته.
عيناه الزرقاوان، التي ظنتها سطحية ذات يوم، بدتا صلبتين كالصخر.
“لقد ألقيت تعويذة مؤقتة لتجعلك غير مرئية.”
“آه…”
“لا تخرجي تحت أي ظرف، إذا فعلت، ستنكسر التعويذة.”
وقف ألبيريو و تحرك نحو مدخل المبنى.
“انتظري هنا قليلًا، سأذهب لأحضِر خادمتك.”
“…”
لم تجد فريسيا قوة للرد، فـأكتفت فقط بهز برأسها.
‘أريد أن أنسى.’
أرادت أن تنسى لحظة انهيارها و بكائها المذل أمام ألبيريو.
أرادت أن تنسى الألم الذي عانته من رميها هنا كـقمامة على يد الخادمات، و الاهانة في “المخزن”، و كل ما سمعته عن أمها.
أرادت أن تمحو كل تلك الذكريات تمامًا.
‘أريد أن أنسى… كل شيء…’
لكن هل كانت حاستها المخدرة بدأت تعود إليها؟ بدأ بصرها و سمعها يصبحان أوضح قليلاً مما كانا عليه سابقًا.
ثم لاحظت فريسيا ظلين ينعكسان في النافذة المقابلة لها.
كانت أتريا و إيزار واقفين معًا.
“آه… “
حينها فقط أدركت سبب توجيه دوقة أنتاريس للخادمات بتركها في هذه الرقعة الواسعة من الحديقة.
لم يكن الأمر مجرد تهديد من أولئك الرجال الحقيرين الذين رأتهم سابقًا.
بل كانَ القصد أن تُريها هذه المشهد، لتُريها كم يتناسبان هذان الاثنان معًا.
كانت أتريا تضع يديها متشابكتين، تهمس بشيء ما، و حتّى لعيني فريسيا، كانت تبدو فاتنة و ساحرة للغاية.
أما إيزار.
فقد كانَ يحدق في أتريا بنظرة شديدة التركيز، لم يوجهها لفريسيا في الآونة الأخيرة.
نظرة تتشبث بأجمل امرأة في العاصمة.
“أشعر بدوار.”
فجأة، أثقل رأسها، و عجزت عن التنفس، و مال جسدها ببطء نحو الأرض.
كم بقي من أيام عمرها الآن؟
ماذا كانَ مكتوبًا على عقد الزر الذي تركته في القصر؟
‘248…’
تبقى لها نحو ثمانية أشهر فقط.
‘لا بأس، لقد عشت معه أربعة أشهر فقط، لا يزال الوقت مبكرًا جدًا لليأس…’
امتدت السماء أمام عينيها كأنها حرير أسود لا نهاية له، حدقت فريسيا في السماء بلا شعور، و خطر في بالها أمر.
فعلاً…
‘في آخر ليلة من حياتي السابقة، لم تكن هناك نجوم أيضًا.’
و هذا العالم، أيضًا، أصبح داكنًا بالكامل.
—
‘اللعنة!’
كانَ قلب ألبيريو ينبض بعنف حينَ عاد إلى قاعة الوليمة.
‘ما الذي حدث بحق الجحيم؟’
كانَ يختلق الأعذار و يتجول في القصر كـالغريب، لأنه لم ترجع.
و لكن حينها… شعر ببقايا تعويذة يعرفها من مصافحته للسيدة، تأتي من بين الشجيرات، بدا الأمر مستحيلًا، لكن معَ تحركه، جعل المشهد أمام عينيه دمه يجمد.
و وجهها الذي ابتسم بسعادة، ثم انقلب إلى يأس عميق.
<لماذا أتيت؟>
<لم تكن أنت، سيدي، من كنت أريد أن يأتي.>
‘اللعنة.’
بالطبع، كانَ يجب أن يكون زوجها و من حوله يبحثون عنها بجنون! و كانَ كل ما عليه أن يفعله أن يعد بألا يكشف عما شاهد اليوم.
و لكن عندما نطقت تلك الكلمات، شعر وكأنها طعنت قلبه بخنجر.
‘تماسك، ألبيريو…’
نظر حوله بسرعة. كانَ من الأفضل أن يحملها إلى الداخل، لكن لو رآهما أحد في الطريق، ستُهدر كرامتها.
‘خادمة السيدة… لابد أنها تلك التي جاءت معها من القصر، أليس كذلك؟’
كانَ من المحتمل أن الخدم الذين جاؤوا معَ كل عائلة في غرفة انتظار الخدم الآن، فقط موظفو العائلة المضيفة للوليمة يمكنهم التحرك بحرية داخل القصر.
كانَ عليه أن يضغط على خادمه ليجد خادمتها، و إذا ما كانت السيدة قد تعرضت للأذى على يد الدوقة أنتاريس…
‘لا يمكن.’
مهما كانت ابنة غير شرعية، هل يمكنهم فعلاً فعل ذلك في مكان مكتظ بكل هؤلاء الناس؟
امتلأ قلبه بالخوف، لكنه كان بحاجة إلى استدعاء شخص لا ينتمي لهذا البيت.
و في تلك اللحظة، و هو يدور في ممر القصر، واجه الشخص الوحيد القادر على حل هذه الأزمة بسرعة.
“دوق أركتورس!”
“السير دينيب.”
عبس إيزار في وجه الرجل الذي سد طريقه.
كانَ مزاجه سيئًا بالفعل، بعد تأخره بسبب إصرار أتريا على تأكيد آخر.
<أختي العزيزة رُبما ترقد الآن في ردهة خالية للنوم، خادماتنا يعتنين بها.>
كانَ يعرف أي غرفة تلك، فلم يكن الوقت مناسبًا للتوقف.
و لكن لعدم فقدان أعصابه مرة أخرى، أمر ألبيريو ببرود و باختصار.
“انصرف، السير دينيب.”
“ها…”
التفتت شفاه ألبيريو إلى ابتسامة مُرة من سخافة الموقف، كانَ يرى بوضوح من يقف في نهاية الممر.
لا يمكن أن يخطئ في تلك المرأة الشقراء ذات الشعر البراق كانت أتريا، نظرت إلى إيزار بابتسامة ثم أدارت ظهرها بلا مبالاة.
‘ما هذا؟ هل يلتقيان سرا؟’
هل كانت صدفة؟ في وقت كانَ الجميع فيه يضحكون و يتحدثون في قاعة الوليمة؟
في هذه اللحظة بالذات، كانت زوجة إيزار تعاني وحدها في الخارج، تتصبب عرقًا باردًا و دموعًا.
تلك المرأة أخطأت و ظنت أن الرجل هو إيزار و ابتسمت بدموع مشرقة…
“ماذا تفعل؟”
“ماذا؟”
توقف إيزار فجأة عندما حاول ألبيريو تجاوزه.
بسبب حادثة الرعية، كانَ مدينًا لعائلة دينيب، فـكان يحتمل هذا الأحمق، لكن الآن يحدق به بغضب بلا خوف.
‘مجنون مهووس بامرأة.’
مدت يده تلقائيًا و أمسك ياقة ألبيريو.
“كيف تجرؤ…!”
“زوجتك قد انهارت!”
“…!”
“وماذا كنت تفعل حتّى الآن…؟!”
“أين هي الآن؟”
عند سؤال إيزار الملحّ على وجه السرعة، عاد ألبيريو إلى وعيه بعدما غمره الذعر.
لو أظهر الدوق أي نوع من اللامبالاة، لكان انفجر غضبًا، حتّى لو عاقبه أبوه و أخوه لاحقًا.
“أجبني! أين هي؟”
لكن الآن، امتلأ وجه إيزار بكل المشاعر المتدفقة.
كانت عيونه، التي بدت تحت حاجبيه المقطبين، تشتعل بشراسة جعلت ألبيريو يشعر و كأنها قد تحرق كل شيء إلى رماد لو ظلت تحدق فيه لثوانٍ أطول.
‘لابد أن السيدة كانت تنتظر أن ترى هذا التعبير من الدوق.’
بدلًا من أن تُسعف بواسطة طرف ثالث مثله.
ابتلع ألبيريو الطعم المرّ و الحارق الذي ارتفع في حلقه، لم يكن هناك وقت لمثل هذه الأفكار.
فـالرجل الذي يقف أمامه هو الوحيد القادر الآن على إنقاذ السيدة.
“اتبعني، أسرع، من هنا!”
التعليقات لهذا الفصل " 56"