“شقيقتي في صالة الاستراحة، يبدو أن النبيذ سبّب لها غثيانًا شديدًا.”
“أرجوكِ، أخبريني أين هيَ—”
“دوق.”
قاطعت أتريا إيزار، و في عينيها بريق ناري. كانت تدرك تمامًا أن تلك اللقيطة تجرأت على إضمار مشاعر قذرة تجاه هذا الرجل. كانَ واضحًا للجميع أن تلك العينين، الممتلئتين حتّى الحافة بمشاعر جارفة، كانت تتوق إليه.
لكن المشكلة الحقيقية… كانت هذا الرجل.
‘أنا لا أفهمه… لا يمكنني سبر أغواره’.
طوال تفاعله معَ النبلاء الآخرين، لم يُظهر أي اهتمام خاص باللقيطة، و لم يلمسها قط. حتّى حينَ سحبَتها أتريا إلى مجموعة نسائية أخرى، أدار لها ظهره بثبات.
‘لكن، لماذا إذًا تُزعجني لا مبالاته لهذه الدرجة؟’
شعرت و كأن إيزار يتعمد التظاهر بعدم الاهتمام.
رفعت أتريا ذقنها عاليًا، و قد عقدت ذراعيها بثقة.
“لا تقل لي… أنك بدأت تُكن مشاعر تجاه تلك اللقيطة؟”
“سيكون أمرًا خطيرًا إن نسيتَ اتفاقنا.”
كانت بحاجة لتذكيره بقوة مكانتها، فـالعلاقات تتطلب فرض الهيبة أولًا.
“بفضل والدتي و بفضلي، يمكنك محو وصمة تلك اللقيطة من نسب آل أركتوروس إلى الأبد، أليس كذلك؟”
“هاه…”
“دعني أذكّرك، أنا لست متساهلة كـوالدتي. قد أتقبل وجود امرأة من الطبقة الدنيا كـعشيقة، لكني لا أطيق رؤيتك تتعامل معَ لقيطة و كأنها زوجتك.”
رفع إيزر رأسه نحو السقف، و أطلق تنهيدة طويلة. لمّا رأت ذلك، شعرت أتريا بنشوة النصر.
فـوالدها يصدر هذا الصوت تمامًا حينَ يخسر جدالًا معَ والدتها، و يُدرك أنه لا حجة لديه.
‘نعم، لا شك أنه عاجز عن الردّ’.
لكن حينَ خفض إيزار رأسه ببطء، خطت أتريا خطوة إلى الوراء دون وعي، بدا و كأنه تمثال من الرخام الأبيض و الجليد.
إلا أن عينيه الذهبيتين، اللتين تلألأتا في الظلمة، كانتا تحملان شراسة مفترس.
“السيدة أتريا… لقد خدعتِني حتّى يوم الزفاف، فمن أين لكِ هذه الوقاحة لترفعي رأسك أمامي؟”
“…! دوق، ذلك كانَ —”
“ألستِ من ابتسم ببهجة أمام جلالة الإمبراطور؟”
تقلّصت أتريا في مكانها، و قد دبَّ الرعب في أوصالها بفعل نبرة صوته الغاضبة و هالته المهيبة، بدا و كأنه يخاطبها لا بصفتها نبيلة، بل كـمحتالة سوقية.
“بعد أن قبضتِ المكافآت لقاء خداعك، تتصرفين و كأنكِ سيدة محترمة، بينما أنتِ لا تختلفين عن نصابة وضيعة.”
تمسكت أتريا بحافة فستانها بيدين مرتعشة، هذا الفستان الأزرق الثمين صُنع من قماش منحها إياه الإمبراطور كـمكافأة على خداع إيزار.
“أ-أنا لم أعلم الحقيقة حتّى اللحظة الأخيرة…”
“و الآن تتحدثين عن نسب آل أركتوروس؟ ها!”
ضحكة داكنة، حادة، انطلقت من شفتيه.
أن تتجرأ و تتحدث عن نسبه! لقد كرس حياته لحماية هذا النسب منذ اليوم الذي رأى فيه والده ينتحر بعمر العاشرة.
“هاه…”
لكن للمرة الأولى، شعر أن هذا الواجب لم يكن شرفًا… بل لعنة. و كأنّ عليه أن يتجاهل أكثر الأشياء إنسانية بداخله.
و معَ ذلك، في هذه اللحظة، كانَ عليه أن يُلقّن هذه الفتاة المرتجفة درسًا، فتاة لم تستطع تحمّل نظرات فريسيا، و معَ ذلك تجرأت على تهديده بكل هذا الغرور.
“لا تكوني وقحة، السيدة أتريا.”
“دوق…”
“إن هددتِني مجددًا بذلك الاتفاق، فـكوني على يقين أن عائلتكِ ستكون آخر من يتلقى مساعدتي.”
“…!”
اتسعت عينا أتريا في ذهول.
“لِنَرَ كم من الوقت ستصمدين في العاصمة، بعد أن تُمزّق وحوش البراري أراضيكم.”
تجمّدت أتريا بالكامل عند هذا التهديد الصادق. فـحتى و إن لم تكن قد رأت وحشًا في حياتها، كونها تعيش في أكثر مناطق العاصمة أمانًا، فقد سمعت الشائعات مؤخرًا عن تزايد ظهور الوحوش، حتّى خارج مواسمها المعتادة.
و رغم ما تملكه عائلة أَنتاريس من سلطة في العاصمة، فإن أرض النبلاء و أملاكهم الزراعية هي جوهر قوتهم.
ردّت أتريا على عجل، بنبرة مهذبة تحاول من خلالها حفظ ماء وجهها:
“لم أقصد أن أزعجك، يا صاحب السمو… كنت فقط قلقة…”
جمعت يديها أمام صدرها، و في عينيها دموع توشك أن تنهمر.
“هل يمكنني أن أصدق حقًا… أنك لا تحمل أي مشاعر تجاه شقيقتي؟”
لم تُظهر أي نية للانسحاب دون إجابة واضحة. كانت تحدّق فيه بعينين واسعتين، لكن لا شيء فيها يُشبه فريسيا… و ذلك وحده كانَ كافيًا ليُثير اشمئزازه.
أجابها بحدّة نافدة الصبر:
“نعم، لا مشاعر على الإطلاق. لا الآن… و لا يومًا ما.”
—
حدّقت فريسيا في الفراغ، بينما كانت الخادمات يُعدلن مظهرها.
لا تزال الحركة صعبة للغاية بسبب آثار السم، التي لم تتلاشَ بعد.
لكن حينَ لمحت ما جلبنه، ارتجف طرف فمها بمرارة. حتّى البقعة التي لوّثت ثوبها… حاولن تمويهها بقماش مبلّل، ليبدو الأمر و كأنه دم حيض.
‘كم من المتعة شعرن بها و هُنَّ يعاملنني كـحيوان؟’
و بنبرة خالية من الاهتمام، أصدرت الدوقة أَنتاريس تعليماتها ببساطة كأنها تتحدث عن قطعة أثاث.
“اتركن هذه الفتاة في المكان الذي أخبرتكنّ به.”
“أمركِ، سيدتي.”
“و إن سأل أحدٌ عنها… قلن إنكن لا تدرين أين هي.”
“نعم.”
ما إن غادرت الدوقة أَنتاريس، حتّى رفعت أيادٍ خشنة جسد فريسيا عن الأرض. معَ كل خطوة، تصاعد ألم لاذع في ساقيها، و صرخت عضلاتها المُنهكة احتجاجًا. و لم تُطلق أنّةً إلا بعد أن أسقطتها الخادمات في زاوية مظلمة من الحديقة.
“آه…”
“هه، هذا المكان مناسب تمامًا.”
تبادلت الخادمات الهمسات و هنّ يلقين نظرة ساخرة على فريسيا التي بالكاد رفعت جسدها المرتعش.
كظمت فريسيا أنينًا آخر. من بينهن، كانت آنا… نفس الخادمة التي طلبت مساعدتها لرؤية إيزار قبل العشاء.
<“شكراً لكِ يا آنا، لمساعدتي.”>
<“أوه، لا شيء على الإطلاق.”>
<“خذي هذا، و إن كانَ بسيطًا.”>
<“يا إلهي، لم يكن عليكِ ذلك.”>
لكن رغم قبولها للقطعة الثمينة من المجوهرات، لم يظهر في عينيها أي أثرٍ للرحمة.
ليس بالأمر الغريب.
فريسيا لم تتذكر أحدًا أحاطها بلطف منذ أن بدأت تعي ما حولها.
من والدتها… إلى عائلة أَنتاريس … إلى سكان دوقية أركتوروس… إلى نبلاء العاصمة… و حتّى خدم القصر، الجميع كرهها.
الجميع… عدا إيزار.
الرجل الذي أنقذها ذات يوم عند البحيرة.
عليّ أن أتعافى بسرعة…
كانَ عليها أن تعود إليه. حتّى و إن لم يكن يهتم بها الآن، لن يقف مكتوف الأيدي إذا علم بما حصل.
لكن عليّ أن أقف أولاً…
و في تلك اللحظة، سمعت أصوات رجال تتسلل من الظلام. قرب الحديقة، بجوار قاعة الوليمة، كانَ المكان ملائمًا لتهدئة سُكرهم في الهواء الليلي.
“سمعت إن اللقيطة تستريح هنا.”
“ههه، و إذا وجدتها، مالذي تنوي فعله؟”
“فقط أحييها.”
امتزجت ضحكاتهم القذرة بالليل، و اختلطت كلماتهم بين لؤم العامة و نفاق النبلاء. ارتعش جسد فريسيا من الرعب.
يجب أن أهرب من هنا.
في الريف، كانَ القرويون ينبذون فريسيا، خشية أن ترث جنون والدتها. تلك الهمسات القلقة حدّت من أطماع الرجال… و كانَ ذلك النبذ هو بداية وحدتها، لكنه كانَ أيضًا درعها.
لأن والدتها كانت مجنونة.
لأن لسان والدتها قُطع بطريقة وحشية، لم يبقَ منه سوى جذع مشوه.
و الآن، أصبح مصيرها مرهونًا بقدرتها على تحمّل الرعب و الألم الذي يُلقى فوق جسدها الممزق.
“هه…”
و بينما تكافح للحركة، أفلت منها ضحكة مكتومة.
الدوقة أَنتاريس هي من قطعت لسان والدتها.
لم تكن تعرف… أو لعلها كانت تشك… لكنها لم تكن تريد أن تعرف الحقيقة بصورتها الوحشية.
لو كانَ لسان والدتها ما يزال سليم… لما وصلت إلى هذا الحد من الجنون. كانَ جنونها نتيجة الخوف… و العجز عن التعبير.
و لو كانت تملك صوتًا… لربما لم تكن طفولتها بهذه الوحشية.
“امرأة فظيعة.”
همست فريسيا، و صوتها محموم بالألم.
إنسانة شريرة… ملعونة… منحطة.
لم تستطع أن تفهم كيف تعتبر امرأة مثل تلك، مُجرّد وجود ابنة زوجها إهانة شخصية لها. بينما الحقيقة… أن وجود فريسيا هو ما منحهن كل هذا النفوذ و الرضا الإمبراطوري.
لن أغفر.
لم تكن ترغب في تلوّث سنتها الأخيرة في هذه الحياة بالكراهية. كانت حياتها مرهقة بما يكفي، و كانت تتمنى أن تحظى ببعض الصفاء في ما تبقّى لها.
لكن هذا مستحيل.
كانت تحاول فقط أن تحافظ على كرامتها… و لو بالقليل. لكنهم لا يحتملون حتّى هذا القليل. و كأنهم مصممون على سحق كل ما بقي منها… ليجعلوها تنحط مثلهم.
“آه…”
لكن ساقيها لم تقوَيا على حملها، فـانهارت إلى جانب جدار المبنى. لم تعد تكترث إن اتّسخ الثوب.
<إن رأى الناس ما أنتِ عليه الآن، بين الرجال… سيظنون أنكِ بعتِ شرفكِ. سيظنون أنكِ فردتِ ساقيكِ القذرتين.>
“لا… ستكون هذه نهايتي.”
إن عثر عليّ أحدهم على هذه الهيئة، فسيُلقى بي كما تُلقى القمامة، بكل ما تبقى لها من وعي، زحفت خلف الشجيرات محاولةً الاختباء، لكن الدوار كانَ أقوى منها، و ثقل الفستان كانَ كـالسلاسل حول قدميها.
“هذا… فوق احتمالي.”
صوت خافت لخطى تقترب، يزيح صاحبها أوراق الشجر، و كأنّه يعرف تمامًا أنها هنا.
“مَن…؟”
رفعت رأسها بصعوبة، و رؤيتها تلطّخت بالسواد، لكن خيال الرجل بدا مألوفًا… طويل القامة، قوي البنية…
“هل… يمكن أن يكون؟”
نبض قلبها بعنفٍ غير مسبوق، كأن الحياة اندفعت فيه من جديد بعد موت طويل.
“هل جاء… إيزار؟”
الدموع التي ظلت تُقاوِمها منذ الحظيرة، منذ التخدير، منذ المهانة… بدأت تلسع عينيها.
“آه…!”
رغبة جارفة بالسعادة اجتاحتها، متوهّمة: إيزار لم يخذلها.
<هل يمكنني أن أطلب منك أن تبقى بجانبي؟>
<حسنًا. طالما أنني لست منشغلًا بمحادثة مهمة.>
لم تكن هناك وعود تُقَال باسم طفلٍ مدفون تحت الأشواك، لكنها كانت تأمل، فقط لهذه المرة…
“إيز—”
“سيدتي؟”
“…!”
“سيدتي، ما الذي تفعلينه هنا؟!”
كانت على وشك الابتسام وسط دموعها، لكن الكلمات جفّت في حلقها، حدّقت في ملامح الرجل المليئة بالذهول، و قد انهار كل شيء في لحظة.
كيف أمكنها أن تخطئ بهذا الشكل؟
كيف خلطت بين رجلٍ وُلد من الجليد… و آخر من وهج الذكرى؟
التعليقات لهذا الفصل " 55"