أدركت فريسيا ذلك في اللحظة التي أفلتت فيها الكأس من يدها.
“أنا… أآه… أووه…”
كانَ رأسها يدور، و معدتها تنقلب بقوة، كأن شيئًا يعتصرها من الداخل. الأرض تهتز تحت قدميها، و العرق البارد يتصبّب من جسدها كـالمطر. رفعت عينيها نحو الخادم الذي يسندها، لكنها بالكاد استطاعت تمييز ملامحه أو حتّى إدراك إلى أين يسير بها.
‘ما الذي وضعوه في الشراب؟… إلى أين يأخذونني؟’
حينَ رأت ذلك الخادم يملأ كؤوس الجميع، خفّضت حذرها. لكن رائحة التوابل النفّاذة كفيلة بإخفاء أي رائحة غريبة، مهما كانت دقة الخداع. و معَ ذلك، لم يكن بوسعها التقيؤ في قاعة الولائم، فـاضطرت للسماح له بجرّها إلى الخارج.
كانَ الجميع دومًا مستعدًا للسخرية منها، لكنها لم تكن تحتمل فكرة أن تنهار بهذا الشكل المخزي أمام إيزار.
لحسن الحظ، لم تكن قد أكلت شيئًا طوال اليوم بسبب انشغالها بالتحضيرات. و بينما تُسحب خارج القاعة، بدأت تتقيأ بعنف، لكن كل ما خرج كانَ مرارةً لاذعة من حمض معدتها المخلوط ببقايا النبيذ.
“تسك! مقرفة!”
تمتم الخادم بامتعاض، كأن منظرها قد أثار اشمئزازه، و بينما تجاوزا منطقة مظلمة، هبّت نسمة باردة في المكان، لكنها لم تكن مريحة، بل مؤلمة، جعلت فريسيا ترتجف من قسوتها.
و ما إن اقتربا من مبنى ما، حتّى خرج تأوّه خافت من بين شفتيها.
“آه…”
إنه… مخزن العقوبات.
“لا…”
كانَ العالم يدور حولها، و الدوار امتزج بالخوف العميق. ذاك المبنى الذي يُقال للعامة إنه مكان لحفظ المجوهرات و التحف الخاصة بالسيدة أَنتاريس و ابنتها أَتريا… لكنه في الحقيقة كانَ المكان الذي تُخزّن فيه الأشياء المُهملة… و المكان الذي كانت تُجلد فيه الخادمات.
“دعني… آآه…”
لكن هذه المرة مختلفة، لم تكن قد نطقت بكلمة “أمّي” حتّى، بل كانت أَتريا هي من بدأت بالسخرية منها علنًا، مناداتها بـ”راعية الأغنام”.
رغم ذلك، فُتح الباب و دُفعت أرضًا بقسوة.
“آه!”
“ابقَي هنا حتّى تصل السيدة.”
فـحتى لو كانت “دوقة أركتورس”، فـبعيونهم، لم تكن سوى ابنة زنا في ثوب فاخر، و إن لم يُعامَل من يُساق إلى هذا المكان بعنف، فإن السيدة أَنتاريس كانت تُنزل العقوبة بخادمها أيضًا، و هكذا، صرخ الخادم بتهديد صارم ثم تركها و رحل.
التصقت جبينها بالأرض الباردة، تتنفس بصعوبة.
“هاه… آه…”
‘لا بأس. لن تموتي، هم لا يريدون قتلك، فقط إذلالك… فقط حفنة أخرى من الألم المؤقت.’
لقد اعتادت الألم، كانَ كـالأكسجين… شيء لا يفاجئها.
“سيمرّ، كما كل شيء…”
لكن نسمة باردة أخرى هبّت فجأة، تبعتها أصوات أقدام…دخل أحدهم الغرفة، بل أكثر من شخص… ثلاثة، أو أربعة…
“آهٍ، يا للخسارة… هذا الفستان الجميل قد تلطّخ بالكامل.”
“أفف…”
“معَ هذه البقعة، سيكون من الصعب إصلاحه. يا للأسف.”
السيدة أَنتاريس وقفت كـقاضٍ، ملامحها خفية في الظلال، لكن شفتاها انفرجتا بابتسامة باردة.
“لماذا؟”
ما الذي فعلته؟ لماذا جاء بها إلى المخزن بهذه القسوة؟ أكثر مما حدث في حياتها السابقة…
“حتّى وأنتِ تتألمين… عيناك ما زالتا متّقدتين.”
قالت أَنتاريس، و هي تركع أمامها و ترفع ذقنها بأصابعها الباردة.
أرتعش جسد فريسيا… لمسَتها جمّدت بشرتها، ثم لسعتها كالنار.
“أتعرفين لماذا جئتِ إلى هنا؟”
“آه… أووه…”
“يا للأسف، يبدو أنكِ لا تستطيعين النطق بسبب الشراب.”
سقطت فريسيا أرضًا مجددًا، بعد أن أمسك بها خادمتان من ذراعيها، أرادت أن تتملّص، أن تُقاوم… لكن ما في النبيذ قد سلبها قدرتها على الحراك.
و معَ ذلك، استطاعت أن تسمع صوت تلك المرأة بوضوح.
“لننهِ الفحص بسرعة.”
فحص…؟!
أدارت فريسيا رأسها بجهدٍ بالغ، العجوز التي وقفت بجانب السيدة أَنتاريس، ظهرها محني و عيناها خاليتان من الحياة…
إنها… القابلة الخرساء.
تعرفت عليها من استعدادات الزفاف، هي التي تفحص دورتها الشهرية و صحتها العامة بيديها وعينيها.
لكن رؤية الأدوات في يدي القابلة جعلت جسدها كله يرتجف.
“سمعتُ شيئًا مثيرًا للاهتمام يا فريسيا.”
“آه…”
“تقول الشائعات إن الدوق يُبقيكِ قريبة. لذا، أردتُ التحقق من شيء ما.”
“توقفي… لا…”
“هل قضى دوق أركتوروس الليلة معَ لقيطة؟”
مدت الخادمات في الظلال أيديهن و ثبتن ساقيها.
لامست الأدوات الباردة ساقيها، و كادت صرخات أجشّة أن تخرج من حلقها.
لكن حتّى تلك الصرخات كتمتها تحذيرات السيدة أنتاريس الرقيقة.
“من الأفضل لكِ أن تلتزمي الصمت، ألم تلاحظي عدد الرجال هنا الليلة؟”
“آه… آه…”
“إذا رأوكِ هكذا… ماذا تعتقدين أنهم سيفترضون؟”
“أنكِ عاهرة، بالطبع، سيظنون أنكِ تفردين ساقيكِ كـعاهرة، هذا ما أنتِ عليه حقًا.”
أتسعت حدقتا فريسيا خوفًا، لقد عرفت هؤلاء الأشخاص لثلاث سنوات، لكنهم لم يهددوا شرفها و سمعتها بهذه الشدة من قبل.
و إذا سمحت السيدة أنتاريس للرجال بالدخول إلى هنا “عن طريق الخطأ”…
لو رأوها في هذه الحالة البائسة…
‘يجب علي أن أتحمل.’
عضت فريسيا شفتها السفلية بقوة.
لكن السيدة أنتاريس انحنت وهمست في أذنها.
” هل تعلمين؟ هنا فقدت أمك لسانها.”
“……!”
“أنتِ أقوى من أمكِ، تلك المرأة بكت و صرخت لحظة استُلّت منها الشفرة…”
أغمضت فريسيا عينيها بشدة، محاولةً حجب الكلمات المسمومة.
“كانت لديها الشجاعة لمدّ ساقيها أمام زوج امرأة أخرى، لكنها تبولت على نفسها عندما طعنها خنجر، كانَ الأمر مقززًا للغاية، تخيلي أنكِ مستلقية في نفس المكان الذي كانت فيه.”
“نزفت بغزارة لدرجة أنني خشيت أن تموت هنا، لكنها نجت، حتى وهي حامل بك.”
لا أحد يستطيع البقاء هادئًا تحت تهديد الموت. السخرية من شخص يُكافح من أجل البقاء خطأ.
“ولكن كم هو قذر.”
ضحكة الفرح التي تلت ذلك تجمدت في ذهن فريسيا. لم تلاحظ ذلك خوفًا وألمًا، لكن أتريا كانت جزءًا من المجموعة.
بينما كانت تُعامل مثل الماشية، كانت أتريا لا تزال تتألق ببراعة.
كانت تلك العيون تنظر إليها و هي تتلوى من الألم على الأرض وكأنها تشاهد مشهدًا متواضعًا.
“حقا، لا يوجد شي أكثر قذارة منك…”
“أوه، آه!”
“ما فائدة التهذيب للحيوانات؟”
لكن السيدة ابتسمت و هي تمسك بكتف ابنتها برفق، و بالنظر إلى تعبيرات القابلة و حركاتها، كان واضحًا أن فريسيا لم تقضِ الليلة معَ زوجها.
“اطمئني يا عزيزتي، يبدو أن الدوق يعرف كيف يميز بين الأمور.”
“أوه… هذا أمر مريح.”
ضغطت أتريا على أنفها بأصابعها، ناظرةً إلى فريسيا التي كانت على وشك الإغماء، في يوم كهذا، حتّى أضعف رائحة دم كانت كريهة للغاية.
“راعية قذرة، تحاول التصرف بذكاء.”
سواءً كانت اللقيطة حمقاء، أو حكيمة، أو متملقة، أو تحاول التحلي بالحذر، فقد أرادت أتريا أن تُلقّنها درسًا قاسيًا. لم يكن جسدها صالحًا لإنجاب طفل نبيل، ناهيك عن النظر إليها بعيون شهوانية كما لو كانت زوجته الحقيقية.
“كيف تجرؤ على النظر إلى إيزار بهذه العيون.”
ابتسمت أتريا و هي تسير نحو باب “المخزن”.
“أمي، هل يمكن أن تعطيني لحظة واحدة؟”
“بالطبع، أتريا.”
لم تستطع فريسيا أن ترمش لسماع حديث الأم و ابنتها العاطفي، لم تكن تدري ما هو التعبير الذي كانَ على وجهها.
نظرت السيدة أنتاريس إلى فريسيا بابتسامة لطيفة.
“صلي من أجل أن تولدي في المرة القادمة من أم صالحة.”
معَ هذه التعزية القاسية، فقدت فريسيا وعيها.
***
‘الراعية – لا…’
‘لقد اختفت فريسيا.’
خلال النقاش الجاد حول صيد الوحوش، استندت فريسيا على ذراع أحد المرافقين و اختفت، كانَ طرف فستانها ملطخًا بسائل أرجواني داكن، تبعتها السيدة أنتاريس بأناقة، مبتسمةً لإيزار و هي تمر.
“يبدو أن فريسيا لم تعتد بعد على هذا النبيذ القوي يا دوق، سأعتني بها و أعود قريبًا.”
‘تلك المرأة تعتني بفريسيا؟’
‘لا أثق بها لرعاية كلب ضال…’
لقد سلّم دوق و دوقة أنتاريس اللقيطة بكل قوتهما لمصلحة الإمبراطور، كانَ إيزار يعلم أن والدة فريسيا المجنونة قد ماتت على أيديهما أيضًا.
<هل يمكنك البقاء بجانبي؟>
تذكر توسلاتها اليائسة، تذكر كل شيء، وجهها الشاحب، و شفتيها المرتعشتين، و ثقتها الشديدة به و شوقها إليه.
لكن إيزار أومأ برأسه في صمت و استدار.
كانَ ينوي إخبارها الليلة بأن زواجهما باطل، كانَ من الأفضل أن يمنحها سببًا لقطع مشاعرها تجاهه، أفضل من رؤيتها تبكي.
‘بغض النظر عن مدى قسوة السيدة أنتاريس، فهي لا تستطيع أن تؤذي المرأة التي سأعيدها إلى المنزل الليلة.’
مرّ الوقت، و لم تعد فريسيا إلى المأدبة، ازدادت الأصوات من حوله تشويشًا في أذنيه.
‘اللعنة، ماذا شربت؟’
هل كانَ مُجرّد توتر؟ لم يعد يحتمل، فـتجاهل النداءات و اتجه إلى الممر المضاء بضوء الشموع.
لو استطاع أن يجد خادماً ليخبره بمكان فريسيا…
“يا إلهي، دوق.”
و لكن عندما اتخذ خطوة، ظهرت أتريا، و هي تضحك بهدوء من الظل.
التعليقات لهذا الفصل " 54"