معَ انطلاق الصوت كأنّه موسيقى مرحة تعزف بين الجدران، ارتسمت البهجة على وجوه السيدات.
“يا إلهي، سير ألبيريو! تفضّل، انضم إلينا.”
“ما عدت أعلم أين أضع نفسي بعد هذا الترحيب الدافئ.”
ابتسم ألبيريو و ألقى التحية بعينين تلمعان بخفة، فـتوردت خدود بعض السيدات خجلًا.
كانَ ألبيريو، كما هو معتاد في بلاط النبلاء، وجهًا مألوفًا لمعظم النساء الحاضرات، يتبادل المزاح بخفة، و يتنقّل بينهنّ بودّ، لكن بعكس رجال كُثرٍ يخفون نواياهم خلف المجاملة، كانت نواياه واضحة… عبثية، لكنها بريئة، و هذا ما زاد في جاذبيته.
بل إنّ بعضهن كُنَّ يتمنين في السرّ لو أنّه تجاوز الخطّ قليلًا.
فهو و إن كان الابن الثاني، إلّا أنّ حضوره الساحر في الأكاديمية التي يمر بها حتّى وليّ العهد الإمبراطوري، جعله مطلبًا مشتهى.
انحنى ألبيريو قليلًا نحو السيدة التي تحدثت عن المصير، و غمز لها بمكر.
“و على ذِكر المصير يا سيدتي، لقد صرتِ تزورين عائلتكِ و المعبد كثيرًا في الآونة الأخيرة… سنكاد ننسى ملامح بعضنا.”
“أوه، يا سيدي… بل أنت من شغلتك الأكاديمية،
و قد سمعت أن من فيها لا يذوقون النوم حتّى يغرق التعب في وجوههم.”
“آه، يؤلمني سماع هذا، سيدتي…”
تمثّل ألبيريو مشهدًا دراميًّا حزينًا بشكلٍ متعمّد، ثم استقر بين الحاضرين كأنما كانَ في مكانه دومًا، تناول كأس النبيذ من يد الخادم و أدار السائل فيه بلطف.
“هل تعنين أنّي أصبحت من الماضي بينما كُنتُ أقبع في عُشّي؟”
“ها! توهّجك يا سيدي لا يُطفأ حتّى في أعتم الظلال.”
و بينما كانَ ألبيريو يثرثر بمرح، اقترب عدد من الرجال الآخرين، يشاركونه خفّته و أناقة حضوره.
فجأة، بدأ الجميع يتلقّى كؤوس النبيذ من الخدم المارين، و انخرطوا في أحاديث مألوفة، عن سباقات الخيول، رحلات الصيد، و المراهنات.
و إن صادف أن رمق أحدهم فريسيا بنظرة و لو مصادفة، كانَ حديث ألبيريو كافيًا لجذب الانتباه عنه.
أما فريسيا، فـكانت ممتنّة لهذا التجاهل.
‘أخيرًا… لحظة لألتقط أنفاسي.’
أخذت رشفة من كأسها. النبيذ البارد المتبّل ملأ فمها بنكهة لاذعة، عابقة.
‘حلقي جاف…’
لقد بذلت جهدًا كبيرًا كي لا ترتجف أثناء الحديث، و هي تحاول أن تشقّ طريقها في غابةٍ من الوحوش المُبتسمة.
‘خراف مثيرة للأهتمام فعلاً… مؤسف أنها تُؤكَل.’
لم تُدرك كم كانَ حقدها عميقًا عليهم… لقد أنستها انشغالاتها اللحظية غضب الحياة السابقة، لكن الجروح المنقوشة على الروح… لا تُنسى.
‘على الأقل، انتهى الحديث بسلاسة… و لو مؤقتًا.’
و بما أن أتريا قد أفلتت تعليقًا طائشًا، فمن الغد سيهمس الغائبون بـ”الراعية”… في الأرجاء.
‘على الأقل، دوقة أَنتاريس لم تتدخّل هذه المرة.’
في المرّة السابقة، حينَ غابت إلكترا و تركتها تتخبّط وحدها، أدى مناداتها لتلك المرأة بـ”أمي” إلى فوضى لم تنتهِ بسهولة.
نظرت بعين خاطفة، فـوجدت الدوقة والدوق يقفان بعيدًا، دون أدنى رغبة في الاقتراب.
و رغم كل شيء… منحها ذلك بعض القوة.
‘اصبري قليلًا فقط…’
فقط قليلٌ من التحمل، و ستعود إلى جانب إيزار، و هذه الفكرة وحدها جعلت وجودها في هذا المكان المُقرف قابلاً للاحتمال.
✧✧✧
منذ اللحظة التي أمسكت فيها أتريا بذراع فريسيا واقتادتها نحو السيدات، ظلَّ ألبيريو يُلقي نظرات خاطفة من فوق كتفه.
‘هل ستكون بخير؟’
كانَ واضحًا أنهُنَّ جلبنها إلى هناك… فقط لإطلاق طعنات ناعمة بالكلمات.
في ساحة المعركة بين النساء، يُعدّ تدخلُ رجل بلا وعيٍ إهانة، لا نجدة.
فـالنبيلة التي لا تملك حيلة للدفاع عن نفسها، و تحتاج إلى حماية رجل لتسكت غيرها، سرعان ما تجد نفسها معزولة، متوارية خلف ظلّ ضعفها.
و معَ ذلك، كانَ هناك شخص واحد يملك عذرًا منطقيًا للتدخل… لكن بدا أنه لا يملك أي نية لذلك.
‘ذلك الزوج…’
كانَ إيزار يتعامل بفتور معَ أحد النبلاء نائب بارون يشكره على دعم فرسانه في وقت الحاجة، لكن الفكّ المتيبّس، و الكتفين المشدودتين، كشفا أنه يتجاهل زوجته عن عمد.
سواء كانت تُهان أو تُسحب نحو موقفٍ مُذل…
لم يحرّك ساكنًا.
‘يا له من أحمق بلا جدوى، لِمَ تزوجتها من الأساس إن كنت ستتصرّف هكذا؟’
و حينَ ضاق صبر ألبيريو، انسحب بهدوء من بين الرجال.
لكنه لم يكد يخطو بضع خطوات بحثًا عن مجموعة أخرى ينضم إليها، حتّى اقترب منه شقيقه الأكبر، سيدار دينيب، و قد كانَ يراقبه بصرامة، و همس له بحدة:
“راقب تصرّفاتك، يا ألبيريو.”
“أخي؟ ما الأمر الآن؟”
“الجميع يعرف شغفك بالمزاح معَ النساء.”
“و هذا أمرٌ تعرفه أنت و والدانا جيدًا…”
“دعني أكمل، ألبيريو.”
قاطع سيدار أخاه بنبرة تأنيب لا تقبل المزاح.
كانَ يعلم، أو على الأقل يظن،ما الذي جعل شقيقه الأصغر متهورًا على هذا النحو.
في إمبراطورية سيليستيكا، كانَ الابن الأكبر ينال الألقاب و الثروات، بل و حتّى كل انتباه العائلة، و لم تكن ماركيزية دينيب استثناءً عن هذا العرف.
كانَ الجميع يظنّ ببساطة أن الابن الثاني اللطيف و الموهوب بالسحر سيشقّ طريقه في الحياة بسهولة، لكن بمرور الوقت، بدأ الناس يدركون أن ألبيريو صار يحظى بشعبيةٍ متزايدة في البلاط، بفضل وسامته و لسانه الساحر.
‘و معَ ذلك، لم يسمح لأحدٍ قطّ أن يقترب منه حقًا.’
كانَ يسخر من أمور مثل “الحياة الريفية” و يراها تافهة…
لكن هذه هي المرّة الأولى التي يرى فيها سيدار أخاه مهتمًا بشخصٍ ما إلى هذا الحد.
“إن كُنتَ تتصرف هكذا بسبب تلك المرأة،
فـمن الأفضل أن تُقيّد نفسك. ما تفعله قد يُعدّ جريمة جسيمة.”
“…”
“تذكّر… العيون ترصدك من كل مكان.”
و بينما يوبّخه بصرامة، ألقى سيدار نظرةً خاطفة خلفه، نحو ظهر “الدوقة اللقيطة”.
أن تكون لقيطة أمرٌ بحدّ ذاته يُثير الجدل…
لكن الأخطر من ذلك، أنها “دوقة أركتوروس”.
تلك العائلة لم تكن من النوع الذي يتساهل معَ نزوات البلاط، فـجوهر ذلك البيت… كانَ مزيجًا من الفروسية و الشرف.
“أتظنّ أنني أجهل ذلك؟ هاه…”
تمتم ألبيريو بوجه عابس، ثم ما لبث أن هزّ كتفيه مستهينًا بتحذير أخيه، و أدار ظهره له.
كان له أسبابه.
من أجل التأكد من بقايا السحر التي شعر بها حينَ صافحها مودّعًا… كانَ من المهم أن يُبقي على رابطٍ ما.
‘لقد تصافحنا و اتفقنا أن نظل أصدقاء، أنا أعلم حدودي.’
و هكذا، كانَ ما يفعله… مُجرّد تقديم يد العون لصديقةٍ تمرّ بمحنة.
جمع حوله حفنةً من الرجال العُزّاب المعتادين على صحبته، و اتّجه بهم نحو دائرة السيدات.
و لأن عائلات النبلاء غالبًا ما تربّت متقاربة،
لم تستغرب السيدات انضمام الرجال إليهنّ.
لكن، كما يحدث دومًا… ما أن تخفّ وطأة المجاملات، حتّى يتحوّل الحديث إلى موضوع الزواج.
و كانَ أحد الجالسين إلى جانب ألبيريو قد ابتسم بخبث، و هو يرمق الجمع بعينه:
“بالمناسبة، ألبيريو، متى تنوي الاستقرار؟”
“هم؟ و من هي الروح الطيبة التي سترضى بأن تأتي لابن ماركيزٍ ثانٍ مثلي؟”
و ما إن نطق بهذه الكلمات، حتّى ارتجفَت لا إراديًا بعض السيدات اللواتي تمنين في السرّ أن يكنّ تلك “الروح الطيبة”.
ألبيريو غمز لصاحبة الرجفة الأكثر وضوحًا.
كانَ معتادًا أن يحوّل مثل هذه الحوارات المُحرجة بابتسامة ساحرة إلى مزاحٍ عابر.
لكن بما أنه في سنّ الزواج، لم تتوقّف الأسئلة المُرهقة عن التدفق نحوه.
‘لنفكّر في الأمر كـشيءٍ إيجابي.’
فـبفضله، نالت الدوقة الجالسة هناك فرصة لالتقاط أنفاسها.
حتّى بعد انضمامه، كانت شاحبة الوجه، لم يتغيّر لونها، يداها المرتجفتان حول الكأس زادت قلقه عليها.
‘هل هي بخير…؟’
أراد أن يطلب لأجلها شخصًا ما، لكنه خشي أن يُلفت الأنظار.
في تلك الأثناء، واصل الرجل الحديث عن الاستقرار، وضغط عليه.
“ألبيريو، هذه المرة، لا تتهرب من السؤال. أجبنا أمام الجميع… ما نوعك المفضل من النساء؟ لا ضرر في أن نعرف، أليس كذلك؟”
“همم… معَ كلّ هؤلاء السيدات الجميلات من حولي، لقد فسد ذوقي تمامًا…”
بينما كانَ يوزّع الابتسامات على الجميع،
كانَ داخله يعبق بالسخرية.
‘لا أحد منا سيتزوج عن حِبّ على أية حال، فلِمَ نُضيّع الوقت بهذه الأسئلة السخيفة؟’
الحُبّ في زيجات النبلاء… أمر مرغوب، لكنه ليس ضروريًا، فـالعديد من العائلات قامت على الاحترام و المودة دون عشق.
تمامًا مثل والديه.
لكن فجأة، خطرت بباله جلسة الشاي تلك…
التي شاركها معَ الدوقة.
<هو لا يتذكر شيئًا… أما أنا، فما زلت أحتفظ بذلك وحدي، شكرًا لك، سير دينيب.>
استعاد ألبيريو تلك الكلمات، و فكّر:
“يا لحظّه العاثر… ذلك الإيزار أركتوروس.’
أن تتلقّى نظرةً منها… بذلك الحنان، بذلك النقاء،
تلك العاطفة اللامحدودة التي لا تزال تُضيء عينيها رغم الألم…
ترى، كيف سيكون شعور المرء لو رأته امرأةٌ بهذا الشكل؟
‘كفى، لا بأس، يمكنني أن أعيش هكذا…’
أكتفي ببهجة هذا العالم السطحية، بتلك الإطراءات الخفيفة الحلوة… و إن كانت هشّة كـغلاف حلوى السكر.
لكن شفتَيه كادتا تتحركان من تلقاء نفسيهما.
“نوعي المفضل؟”
‘شخصٌ ما…’
شخصٌ يجيد رمي الحجارة… بعينين خضراوتين…
تحطّـم!
صوتٌ حادّ مزّق سكون اللحظة، قاطعًا تلك الانزلاقة اللاواعية من فمه، لكن الصوت لم يأتِ من المجهول… بل من الشخص ذاته الذي تردّد في ذهنه للتو.
الكأس انزلقت من يدها و تحطّمت على الأرض.
الدانتيل الذهبي الباهت لفستانها تلطّخ بشراب النبيذ.
فورًا، انتفضت السيدات حولها، يرفعن أطراف تنانيرهن، و تدافع الخدم من أرجاء القاعة لمساعدتها.
“سيدتي، هل أنتِ بخير؟”
“معدتي… أشعر…”
“إن كُنتِ لا تشعرين بالراحة، فـسأرافقك إلى صالة الاستراحة.”
الدوقة الشاحبة أومأت سريعًا، متشبّثة بذراع الخادمة، و كانت قطرات العرق البارد على جبينها كافية لإغراق قلب ألبيريو بالقلق.
و معَ ذلك، استطاعت أن تجمع ما تبقّى لها من قوة لِـتنحني بانحناءة مهذبة.
التعليقات لهذا الفصل " 53"