في تلك الأثناء، كانت أتريا تهزّ رأسها بعدم رضا، و هي تراقب النظرات الخبيثة تتناثر من حولها.
فالكل يدّعي النُبل، لكنها، كما اعتادت والدتها القول، لا تراهم إلا وحوشًا مقنّعة، لا يسكن أذهانهم سوى الشهوات السوداء، أن تراودهم تلك الأفكار لمجرد رؤية تلك اللقيطة الساقطة…!
‘يبدو أن عليّ أن أُذكّر الدوق بذلك يومًا ما.’
لم تكن ترغب في التفكير بهذا الاتجاه، لكن… هل يمكن أن يكون إيزار قد انجذب، و لو قليلًا، إلى تلك اللقيطة؟
المسافة المتزنة بينهما لا تقول الكثير، لكن أتريا لم تغفل عن التعبير العابِر بالغضب الذي مرّ على ملامحه حينَ حيّاه الابن الأصغر لعائلة دينيب بحماس.
لكن مرارة الحياة التي لقّنتها والدتها لا تزال عالقة في فمها.
قد تبدو الفتاة التافهة بلا قيمة، لكن ضعي قناعًا على وجهها… و سيسهل على الرجال الوقوع في شِراكها.
<ابنتي، لا تخدعي نفسك بالاعتقاد أن دوق أركتوروس مختلف عن غيره، ركّزي فقط على تأمين نسلٍ نظيف و مشرّف.>
لكن أجمل ما في هذا القصر العظيم، و قائد السلالة المختارة، لم يكن سوى ذلك الرجل.
أما الآن، فماذا عنه؟
ما إن دخل إلى القاعة، حتّى وقف رؤساء الأسر بلهفة لتقديم امتنانهم.
“سموّك، نحن نُقدّر دعمكم كثيرًا.”
“لقد كانت الرحلة مرهقة حقًا.”
“لو لم تتدخل سموّك في الوقت المناسب…”
‘هل كانت هناك هجمات متكررة من الوحوش مؤخرًا في أطراف البلد؟’
أتريا، التي كانت تعيش في أحد أكثر أحياء العاصمة أمنًا، أصغت ببرود.
‘كل هذا الضجيج بسبب حفنة من الوحوش؟’
و معَ ذلك، فإن إرسال فرق الإنقاذ بطلب من كل أسرة كانَ مصدرًا ضخمًا للشرف و الهيبة بالنسبة للدوقية.
لذا، فـبينما انحنى الجميع أمام الإمبراطور الغاضب بحجّة “معاقبة التمرّد”، لم يجرؤ أحد على الاستخفاف بدوق أركتوروس.
فقد امتلك قوةً خاصة لم يكن بمقدور أي عرّاف أن يبلغها.
‘من لا يرغب برجل مثالي كهذا؟’
في تلك اللحظة، كانت تلك اللقيطة تراقب الدوق من مسافة قليلة، بينما كانت تتلقى الشكر من الآخرين بوجه جامد.
لكن خلف رموشها الفاتحة، كانت عيناها الخضراوتان الذابلتان تلمعان بعشقٍ واضح.
راقبتها أتريا بصمت… ثم ارتسمت على شفتيها ابتسامة باهتة.
‘يا لها من فتاة جاهلة.’
اليوم، يجب على أتريا أن تُفهم هذه “اللقيطة” مكانتها جيدًا، و تحث الدوق على أن يبدأ تدريجيًا بقطع علاقتها به.
“أختي… لم أكن أعلم أنكِ تعرفين السير ألبيريو مسبقًا، لم تُتِح لي حتّى فرصة تقديمكما.”
“الماركيزة قدّمت لي الكثير من الدعم بطرق متعدّدة.”
“آه، فهمت… الماركيزة.”
اتّسعت ابتسامة أتريا أكثر، و شفتاها ازدادتا احمرارًا.
هذه الفتاة التي اعتادت أن تناديها بـ”سيدتي” أيام عزلتها في الريف، باتت الآن تتصرّف بتفاخر أمام الجميع!
‘لا بأس… يمكنني تحمّل هذا القدر.’
قريبًا، ستتضح مدى سذاجتها، و كانَ لا بد من إظهار الحقيقة : أن الشقيقة الشرعية التي حُرمت من الزواج كانت هي، لا تلك الطفلة الجشعة التي تسلّلت من هامش العائلة.
“أختي، تعالي. الدوق مشغول الآن، سأعرّفك على بقيّة السيدات.”
عندها فقط، أدارت فريسيا رأسها عن إيزار على مضض.
‘لماذا يزعجني أنه يمسك بكأس نبيذ؟’
كانَ مشهدًا طبيعيًا في وسط نقاشات الرجال، لكنها شعرت و كأنها تُركت خلفه…
و رُبما، نعم، كانَ من اللائق أن تكون الزوجة في تلك اللحظة بين السيدات.
لكن ما الحاجة إلى تعرّفها على أحد؟
‘كل هذه الوجوه مألوفة لي أكثر مما ينبغي.’
هؤلاء النسوة، عرفتهن أتريا منذ أن كانت تبول على بطانية مزينة بخيوط ذهبية، و كُنَّ منذ ثلاث سنوات ينهشنها بنظرات الشفقة و الثرثرة الرخيصة.
و رغم ذلك، مشت أتريا وذراعها متشابك معهن كأنهن أعزّ الصديقات.
سحبت فريسيا يدها بعيدًا، و رغم أنها كانت تودّ صفعها، كما تُصفع نعجة عنيدة، إلا أنها بالكاد كبحت نفسها.
‘الأفضل أن تأتي الضربة سريعًا وتنتهي.’
ألم تكن قد استحضرت ذكريات هذا اليوم مرارًا قبل أن تطأ قدماها هذا المكان؟ بل، حتّى في حياتها السابقة، حينَ كانت تعود إلى منزلها مكسوّة بالكدمات، مثقلة بالألم، كثيرًا ما دفنت وجهها في وسادتها و استسلمت للتفكير.
‘لو أنني كُنتُ أعلم أكثر… لما تفوّهتُ بتلك الحماقات.’
كانَ بوسعها أن تردّ كما تفعل سيدة نبيلة…
‘لكن هذه الندم بات يُثير اشمئزازي.’
و بينما استُقبلت بابتسامات لطيفة مشوبة بغموض، صلّبت فريسيا قلبها، فـها هي الحوارات التي طالما تمنّت أن تُعيد الزمن لتغيّرها… تبدأ من جديد.
كانت أولى الكلمات من إحدى صديقات أتريا القديمات، تتضمّن تلميحًا مهذّبًا عن قلة تعليم فريسيا.
“سيدتي، سمعتُ أن هذه هي زيارتك الثانية فقط للعاصمة، هل هذا صحيح؟”
“نعم، هذا صحيح، لم أغادر حدود الدوقية كثيرًا حتّى الآن.”
“همم… إذن لم تحظي بفرصة الاستمتاع بما تقدّمه العاصمة… أفترض أنكِ لم تشاهدي عرض ألتير و بيلايغا بعد، أليس كذلك؟”
ذلك القلق المزيّف كانَ يخفي سخرية مغلّفة بعباءة التهذيب، لكن فريسيا هذه المرة لم تتردّد، بل ابتسمت بثقة.
“نعم، للأسف لم أشاهد المسرحية مباشرة، لكنني اطّلعت على القصة من خلال حكايات لايرا، و أتوق لرؤية كيف تختلف حينَ تُعرض على المسرح.”
“آه، قرأتِ الكتاب بنفسك؟”
“نعم، و قد استمتعتُ به إلى حدٍّ ما.”
حكايات لايرا كانت كتابًا ثقافيًا يُعدّ أساسيًا في أوساط النبلاء، مملوءًا بلغة قديمة و نهايات أخلاقية توعوية.
‘في الحقيقة، لم يعجبني كثيرًا… خصوصًا قصة ألتير و بيلايغا.’
كانَ ألتير أمير مملكةٍ قديمة، وقع في غرام بيلايغا، ابنة الكاهنة.
لكن لأن بيلايغا وُلدت من امرأة نذرت العفّة طوال حياتها، لم تكن نظرة الناس إليها أبدًا رحيمة.
و في النهاية، و بعد أن سئمت من قسوة الحب، اختارت بيلايغا أن تعيش كـزوجةٍ لقائد العدو بعد أسرها، بدلاً من أن تهرب و تعود.
‘أما ألتير، فقد مات يائسًا، محطمًا، في نهاية المطاف.’
و لم تُطرح هذه القصة من فراغ، بل بسبب سؤال مباشر و ذكي.
“سيدتي، ما رأيكِ في اختيار بيلايغا؟”
سؤالٌ يحمل انعكاسًا واضحًا لوضع فريسيا الحالي…
‘لو قُلتُ إن اختيار بيلايغا كانَ صائبًا، لقالوا إنني أُحلُّ لنفسي حُبّ النبلاء و كأني أهلاً له.’
‘و إن قُلتُ إنه خطأ، لـقالوا إنني أذنب لعدم رفض حب يفوق قدري.’
كانوا ينتظرون أن يروا، تحت قشرة الاحترام، أي خيار ستتبنّاه : الفضيلة… أم الطمع؟
“لا أستطيع القول إن اختيار بيلايغا للوقوف إلى جانب العدو كانَ صائبًا، لكنني أجد الظرف الذي دفعها لاتخاذ ذلك القرار… مثيرًا للتأمل.”
“آه، سيدتي… أما تعلمين ما العِبرة من هذه القصة؟”
“بلى، إنها تهدف إلى تنوير النساء بفضائل السلوك القويم، لكنني على يقين أن من حولي يُدرك ذلك أفضل مني.”
ظهر على الوجوه شيء من الدهشة.
تلك “اللقيطة” لم تكن غبية كما تخيّلوا.
—-
صوت انغلاق المروحة كانَ حادًا و قاطعًا.
سيدة من إحدى العائلات المقربة من المعبد عقفت حاجبيها في امتعاض.
“يا إلهي… الدوقة نفسها تُصرّح بهذا الكلام؟ المعبد لن يرضى بذلك.”
“ما الذي تعنينه؟”
“أليس المعبد يعلّمنا دومًا بألّا نتحدّى المصير الذي قُدّر لنا من عند آدمانت؟ و معَ ذلك، ها أنتِ تنتقدين بيلايغا لأنها لم تخضع للنظام الطبيعي لزوجها، و تلومين الآخرين بدلًا عنها.”
داخليًا، دارت عينا فريسيا في ضيق.
‘ها قد بدأ اللعب بورقة الدين… لا فوز في هذا الميدان.’
لكنها، رغم أنها لم تدرس النصوص الدينية كما يفعل الكهنة، إلا أن أذنيها التقطتا ما يكفي من تعاليم الكتب المقدسة.
“لكن… إن كانَ الأمر كذلك، أليس أولئك الذين عقّدوا حب ألتير و بيلايغا قد تحدّوا النظام الطبيعي أيضًا؟”
“كيف يُمكنك تفسيره بهذا الشكل؟”
“لأن آدمانت… لم يقل يومًا إن إيلام الآخرين جزءٌ من النظام الطبيعي.”
عند كلمات فريسيا تلك، ارتفعت زوايا شفتي السيدة النبيلة قليلًا.
“يا لها من… سيدة ذكية فعلًا.”
“يبدو ذلك.”
“و يبدو أن لديكِ طموحًا يفوق ما يبدو من الظاهر.”
كانَ المعنى واضحًا : لقد تجاوزت بسهولة ذلك الحاجز الفاصل بين الابنة الشرعية و الابنة اللقيطة.
‘الطموح… يبدو أنه مرادف للجشع عندهم.’
ثم، و بعد أن أنهت السيدة توبيخها المغلّف، التفتت نحو أتريا بنظرة محمّلة بالود والشفقة.
“السيدة الدوقة أتريا فتاة فاضلة جدًا، لا حاجة للقلق أبدًا.”
“أوه… هذا مدح يفوق ما أستحق! لكنني لست وحدي، فـحتى شقيقتي الكبرى تملك من الفضيلة الكثير…”
ترددت أتريا للحظة. كانت تراقب ملامح تلك “اللقيطة”، لكنها لم تجد فيها لا ارتباكًا و لا خجلًا.
تصرفاتها كانت مهذّبة، نعم، لكن نظراتها… باردة خالية من أي انفعال.
‘كيف أُكسِر هذا الاتّزان؟’
فكّرت قليلاً، لكنها قرّرت أخيرًا أن لا بأس بخسارة صغيرة، فتركت كلماتها تنزلق بسُمّ خفيف :
“بالنظر للسنوات التي قضيتِها في رعي الأغنام.”
رغم أن العبارة قيلت بنبرةٍ هامسة و مرحة، فهِمَ الجالسون فورًا مقصدها، و ساد الهمس بينهم.
“يا إلهي! سمعتُ أنكِ أصلًا من الدوقية؟”
“رعي الأغنام؟! هل مارستِ أعمالًا شاقّة كـالعامة؟”
“تقولين إنها رعَت الغنم؟! هل هذا حقيقي؟”
“يا له من أمرٍ معيب! هل… هل كُنتِ تركضين بملابسك وسط الحقول؟”
“لا يمكن! هل كشفتِ عن كاحليكِ؟! ما أوقح ذلك!”
كانت الأغنام مزاجية، لكنها على الأقل كانت تستطيع ضرب إحداها بعصا حينَ تغضب… أما هؤلاء، فصفعة واحدة كفيلة بإشعال حرب بين العائلات.
‘و معَ ذلك… لا يُمكنني أيضًا أن أبتلع الإهانة و أصمت كـالعاجزة.’
هؤلاء الناس يعيشون على جهل الآخرين بكيفية الرد، و يزدادون نشوةً إن رأوا الدموع تترقرق في أعينهم خجلاً، و إن لم تستطع مجاراتهم على مستواهم… فـعلى الأقل يجب أن تردّ بابتسامة.
ابتسمت فريسيا بخفة و حذر.
“لم أكن أعلم أن رعي الأغنام يثير اهتمامكم جميعًا إلى هذا الحد، في الواقع، بإمكانكم أن تجدوا رعاةً في أي قرية، كما أظن.”
“آه، سيدتي! أأنتِ حقًا تخبرينا عن تلك الأيام؟”
“بالطبع، لقد شجّعتموني، أليس كذلك؟ فلِمَ لا؟”
كانَ النبلاء في حيرةٍ من أمرهم. لم يعرفوا كيف يتعاملون معَ فتاة ريفية تُطلق تعليقات لاذعة بهذا الأسلوب، و رُبما تمنّوا سرًّا لو أنها تصرفت كما يجب ليتسنى لهم السخرية.
لكن فريسيا نظرت إليهم بعينين لامعتين، و ابتسامة مشرقة لا تخلو من خبث.
“في الواقع، لم أكن أعتني سوى بخمسين خروفًا تقريبًا… أي ما يعادل عدد الأشخاص الحاضرين هنا في قاعة الحفل.”
“يا إلهي، خمسون خروفًا؟!”
“ذلك ليس عددًا كبيرًا، سيدتي…”
في الحقيقة، كانَ رقمًا صغيرًا جدًا.
فـالرعاة القدامى كانوا قادرين على إدارة ما يصل إلى خمسمئة خروف، أما فريسيا فلم تستطع إلا بالكاد أن تهتم بخمسين، حتّى معَ الاستعانة بكلاب الرعي التي وفّرها لها القصر.
“لكن… قِلّة العدد كانت ميزة. فقد كانَ من الأسهل مراقبة طباع الخراف، فـلو وُجد حملٌ ضعيف، لَلاحظتِ كيف تتجاهله بقية الخراف،
و أحيانًا حتّى تنبذه… إن شعروا أنه أضعف منهم.”
قالتها بابتسامة مهذّبة، و هي تتأمل من حولها بنظرة تحمل الكثير.
تمامًا كما فعلتم أنتم بي.
فهل التقط أحدهم اللدغة الخفية؟
كما توقّعت… خدود السيدات اللواتي دفعنها للحديث عن ماضيها كـراعية تشنّجت بوضوح.
“كائنات مثيرة فعلاً، أليست كذلك…؟ من المحزن أنها تُذبح في النهاية و تُقدَّم كـوجبة.”
إنهم يسخرون منها دائمًا، و معَ ذلك… شوكة صغيرة كهذه جعلتهم يتلوّون كما لو لُدغوا من نحلة.
و فجأة، شقّ الجو صوتٌ مرِح، نابض بالحيوية، كأنه انقضّ على الجمود:
التعليقات لهذا الفصل " 52"