بالنسبة لفريسيا، كانت سترتجف بمجرّد تلقي الدعوة، غير أنها لم تطأ يومًا الأرض.
لهذا السبب، كانت إقامة عائلة أَنتاريس في العاصمة تفوق بسنين ضوئية فخامةً مقرّات آل أركتوروس أو غيرهم من الأسر الأرستقراطية التي ما زالت تعتز بمنازل أجدادها.
القصر العظيم، بجدرانه من الطوب المحمّر و سقوفه الزرقاء المتناقضة، كانَ يتباهى بحديقة مترفة، يتمايل فيها الطاووس الذكر متغطرسًا بين الأشجار المزهرة.
أما حفلاتهم، فـبينما تبدأ الولائم الرسمية عادة في أوائل المساء، فقد عُرفت مناسبات آل أَنتاريس بانطلاقها المُبكّر و المبتهج. و لم يكن ثمة شك في ذلك، لا من ضحكاتهم الصاخبة و موسيقاهم المرتفعة، و لا من قوارير النبيذ الفاخرة المشبعة بالتوابل الثمينة و التي بدأ تداولها منذ ساعات بعد الظهر.
و حينَ أُخبِر ربّ الأسرة بوصول عائلة صهره، خرج بنفسه ليستقبلهم.
“دوق أركتوروس، أهلًا بك.”
“مضى وقت طويل، يا دوق أَنتاريس.”
و بينما تظاهر الأول بمرح مصطنع، كانَ صوت الآخر أبرد من الجليد.
كانَ دوق أَنتاريس أقصر بكثير من صهره، كما أضفى شاربه طابعًا خاضعًا على هيئته، يكاد يُشبه به خادمًا أنيقًا لا سيدًا نبيلاً.
و بنظرات مترددة، أدار عينيه نحو فريسيا التي وقفت خلف إيزار بخطوة. و إحجامه عن تحيتها على الملأ، رغم نظرات الحاضرين، لم يكن إلا دليلاً صارخًا على جبنه.
“أه… فريسيا، هل استقرّ بك المقام في الدوقية؟”
“بفضل عنايتكم، عشت بطمأنينة. دُمتَ في رعاية آدمانت، يا سموّك.”
لم تجرؤ على ذكر كلمة “أبي”، خوفًا من أن تُسحب مجددًا إلى ما يُسمى بـ”غرفة التخزين”.
و معَ ذلك، نظرت بطرف عينها إلى الدوق أَنتاريس الذي تحاشى التقاء نظراتها.
‘لا أطيق هذا الرجل إطلاقًا.’
فـبالرغم من أنه أسوأ من تخلّى عن والدتها، لم تشعر تجاهه بأدنى إحساس بالقرابة…
كيف يعقل أن نصفها تكوّن منه، و لا تربطها به أدنى صلة دموية؟
‘رُبما، مُجرّد ربما… تلك الأحاسيس المصيرية ليست سوى مبالغات شعراء.’
رغم محاولتها البقاء متماسكة، لم تستطع منع وجهها من التصلب حينَ تقدّمت النساء الواقفات خلف الدوق.
كانت الدوقة أَنتاريس، بشعرها الأسود الفاحم الخالي من أي خصلة بيضاء، تبدو ببشرتها النضرة و كأنها أختٌ كبرى لابنتها، لا والدتها.
أما نظراتها الضيقة الداكنة، فقد كانت عصيّة على القراءة.
“فريسيا … مر وقت طويل.”
و هناك وقفت أتريا، مبتسمةً بابتسامة مائلة بجوار والدتها.
“أختي… أن تكوني في العاصمة طوال هذا الوقت دون أن تتواصلي معي؟ ألا تعلمين كم هذا مؤلم؟”
طويلة، بجسد ينساب بانسيابية داخل فستان حريري أزرق، بدت كأنها خرجت من لوحة كلاسيكية. شعرها الأشقر المتلألئ، مرفوع بأناقة و مطعّم بزينة من الألماس، كانَ كافيًا ليُطالب الناس بتخليد جمالها في جداريات أو لوحات ملكية.
‘آسفة يا ثيا.’
لا بد أن الخادمة التي كانت تنتظرها في الحديقة تأسفت على كل الجهد الذي بذلته في تجهيزها، عبثًا.
لكن ما حرّك في أحشاء فريسيا شعورًا أقرب للغثيان، لم يكن مظهر أتريا الواثق… بل تلك الابتسامة المغرية التي وجهتها نحو إيزار.
“يا دوق، تصل إلى العاصمة و لا تُبلغنا بكلمة؟”
“حينَ يحين الوقت، كانت لتتقاطع طرقنا، يا سموّك.”
و كانَ إيزار لا يُطيق حتّى التعامل الرسمي معها.
أتريا، الابنة الوحيدة لتلك الأسرة الرفيعة في العاصمة، و أرفع النساء مكانة بعد غياب الملكة أو أي أميرة، لا يمكن مخاطبتها باستخفاف.
الزوجة التي كانَ يُفترض أن تكون من نصيب دوق أركتوروس.
و رُبما لهذا السبب، و إن كانَ للحظة عابرة… كرهت فريسيا وقوفها بينهما.
فـبعكس أختها النبيلة حقًا، كانت طريقة إيزار في التعامل معها مختلفة تمامًا.
‘مختلفة… عن طريقة حديثه إليّ.’
رُبما كانَ ذلك بقايا عادة اكتسبها من تعامله مع رعاياه؟
إذ كانَ إيزر يخاطب فريسيا دومًا بنبرة آمرة و متعالية.
حينَ شعرت بالدونية تزحف من أسفل قدميها و تصعد شيئًا فشيئًا، هزّت فريسيا رأسها داخليًا بعناد.
‘ثمّة أشياء لا يمكن تغييرها ببساطة… مثل نبرة الصوت.’
حينَ لا يفهمك الآخر، تصبح الكلمات عبئًا لا ضرورة له، بل مثيرة للشفقة. و معَ ذلك، ظلَّ شعور خفيّ بالخذلان يرفع رأسه بتكبّر، يأبى أن يُقمع.
‘أما كانَ بوسعه، و لو من باب اللباقة، أن يمسك بيدي؟’
و لوهلة، و كأن عقلها أصابه اضطراب، خطرت لها فكرة التعلّق بكُمّ إيزار. تسللت بنظراتها إلى ملامحه الجانبية و إلى يده، لكنها لم تجد أي فسحة تنزلق يدها خلالها.
و عندما دخلوا إلى قاعة الوليمة، كانَ البذخ الخانق يضرب العيون من كل حدب وصوب.
أول ما لفت الأنظار كانت أبراج “الفاكهة الزائفة” المتلألئة بلون أبيض كـحبّات الثلج الصغيرة.
كانت منحوتات متقنة من السكر الصلب… مأدبة مترفة لاستخدام السكر وحده، ذلك الذي لم تتذوقه فريسيا قط حينَ كانت راعية أغنام.
بل و صُدمت عندما عرفت أنها ليست مخصصة للأكل.
رُبما سيتسلل أحدهم و يأخذ قضمة خفية…
الزجاجيات النادرة كانت تتلألأ تحت الأضواء كأنها أحلام مُضيئة، و الهواء مشبّع بعطر التوابل الثمينة.
الذين وُلدوا في هذا العالم، تعاملوا معَ هذا الترف برشاقة و كأنهم وُلدوا له.
أما هي، فـحتى في حياتها الثانية، ما زالت تشعر أنها دخيلة… قطعة زائدة لا مكان لها بين النبلاء.
“آه…!”
لكن فريسيا لم تكن تتوقع شيئًا واحدًا فقط هذه المرة، ظهور وجوه مألوفة.
‘عائلة دينيب… إنهم هنا أيضًا!’
رُبما لم تتذكّر ذلك، لأنها كانت تقضي معظم حياتها السابقة برفقة إلكترا؟
فـليس فقط الماركيز و الماركيزة، بل حتّى ابنهما الأكبر الذي تراه الآن للمرة الأولى عن قرب إضافة إلى ألبيريو دينيب، كانوا جميعًا يتجهون نحوهم.
في تلك الأثناء، كانَ من الواضح أن إيزار قد توقّع هذا اللقاء.
‘ذلك الوغد مهووس بها.’
ما إن وقعت عيناه على وجه ألبيريو، حتّى هوى مزاجه الكئيب إلى أقصى درجات السواد.
رغم غياب أي هدف واضح لعلاقة نبيلة، لا يفوّت ذلك الرجل لحظة إلا و وجّه فيها نظراته الغاضبة نحو تلك الراعية.
و ما يمنعه فقط عن التصرف بأسوأ مما يفعل، هوَ الحد الأدنى من اللباقة تجاه من يدين لهم بجميل.
“لِتحلّ عليكم بركة آدمانت، ماركيز و ماركيزة دينيب.”
أما ألبيريو، فـغمغم ساخرًا داخله، دون أن يأبه ببرود إيزار أو هيبته.
‘آه، هذا الرجل… طبعه كريه بالفعل.’
كانت الهالة الباردة التي تنبعث منه كفيلة بأن تُذبل تلك السيدة الصغيرة من شدة قسوتها.
و معَ ذلك، وسط سُحب القتامة المحيطة بها، كانت تبرق ببريق غامض… و كأنها خُلقت من نور القمر الذهبي ليلة اكتماله.
و كانَ هذا… يثير غيظه بلا حدود.
‘أنا من لاحظها أولًا، بعد كل شيء.’
قليل من الصقل، و ستُصبح تلك الدوقة لافتة بما يكفي لِـيلتفت لها الجميع، بل إنه، في لحظة ما، ظنّها ملاكًا مستدعاة بالخطأ داخل القصر.
‘كما توقعت تمامًا… جمالها خارق.’
لكن، رغم محاولاتها في التماسك، كانت شفتاها الرقيقتان تنقبضان بتوتر واضح. و بحكم وضعها، بدا أنها تزور تجمعًا أرستقراطيًا بهذا الحجم للمرة الأولى في حياتها.
‘هل سيكون من الأفضل لو كُنتُ أنا من يمسك بيدها؟’
أخفى ألبيريو اضطرابه خلف ابتسامة هادئة، مجاملة منه من أجل التحية ليس إلا.
‘زوج كهذا… مزعج ومقيت على الدوام، و أنا أدركت ذلك منذ حادثة التوت البري.’
لكن حينَ اقتربت فريسيا، ابتسم ألبيريو بصدق، متمنيًا أن يكون هناك، على الأقل، شخص واحد يفرح برؤيتها بصدق.
“سيدتي… مضى وقت طويل. هل كُنتِ بخير؟”
“باركك الله، سيدي، أشكرك على اهتمامك.”
“كُنتُ آمل أن تحين فرصة أخرى للقائنا خلال إقامتكم هنا، رُبما زيارة إلى أكاديمية السحر؟”
“آه… “
“ماذا عن زيارة تجمعكما معًا؟”
رمقت فريسيا وجه إيزار بنظرة خاطفة.
كانَ جامد الملامح كـعادته، لكن شدَّ العضل في فكّه كانَ كافيًا ليفضح نفوره من الموضوع.
لم يكن بيدها سوى أن تبتسم بهدوء، و ترد برد دبلوماسي مبهم.
“أنا أيضًا أترقب اليوم الذي سيمنحنا فيه آدمانت تلك الفرصة.”
لكن الحقيقة؟ لم يكن الأمر بيد آدمانت… بل في مزاج زوجها وحده.
و فوق رأس فريسيا، كانَ الرجلان يتبادلان النظرات في صمت، نظرات تتشابك فيها المبارزات الخفية.
‘ليس كلبًا تابعًا… بل وقح لا يعرف حدوده.’
‘و إن لم يعجبك؟ ما الذي ستفعله؟ ستأتي على أية حال.’
لكن كليهما – إيزر و ألبيريو – حينَ ألقيا نظرة أوسع على قاعة الحفل، خطرت لهما الفكرة ذاتها.
‘…هاه؟ ما هذا؟’
‘غريب… زرتُ هذا المكان من قبل، لكنه هذه المرة… مختلف؟’
فـمقارنةً بالسنوات الماضية، بدا أن عدد الرجال الذين يتجوّلون في أرجاء قصر أَنتاريس أكبر بكثير، و كانت نظرات بعضهم… مشبوهة وخفية.
—
و لم يكن ذلك وهمًا.
فـالحقيقة أن عدد الرجال الموجودين هذا العام في القصر كانَ مرتفعًا على نحو غير معتاد.
للتحديد، أولئك الذين عادةً ما يُخفَون في الغرف الخلفية أو أروقة الترفيه… قد تم جلبهم إلى قاعة الولائم.
‘أوه… هكذا تبدو بعد أن زال عنها حجاب العروس؟’
‘همم… مختلفة عمّا كنت أتصوّر.’
فـمنذ الزواج، انتشرت الشائعات عن “ابنة أَنتاريس النبيلة غير الشرعية”.
فـتارةً يُقال إنها مغطاة بالسخام و بقع العشب، ترتدي فستان قطنٍ عتيق دون مشدّ حقيقي امرأة منبوذة، و تارة تُصوّر على أنها حورية إغواء، أسرت مُذنَّبًا فـحُمل بها إلى السماء.
رغم تنوّع الروايات حول “دوقة أركتوروس”، إلا أن هناك توقعًا واحدًا مشتركًا بينها جميعًا…
لم يكن ثمة شكّ في أنّها مبتذلة.
ومع ذلك…
‘همم… أقلّ فتنةً مما تخيّلت، وأكثر رصانة مما توقعت.’
مقارنةً بما اعتاده الناس من فجور النبلاء، بدت أقلّ تلوّثًا، بل إنّ كتفيها العاريين الرقيقين لم يُخفيا انحناءة انثوية واضحة أسفلها، و خصرها النحيل كانَ كفيلًا بأن يُجفّف الحلق عطشًا.
لا شكّ أن هذا الانطباع كانَ نتيجة التناقض الصارخ بينها و بين جسد زوجها الضخم.
‘هل يُعقل أنها نامت فعلًا معَ ذلك الرجل العملاق؟’
ترى، كيفَ كانت ملامح وجهها و هيَ تتلوّى تحت ذلك الجسد الهائل؟
و حينَ استسلم البعض مبكرًا لمثل تلك الخيالات الفاحشة، أحسّوا بتيبّسٍ في ظهورهم، و كأن أجسادهم انعكست فيها نار الفكرة.
‘رُبما، إن شُغِلَ الدوق عنها اليوم… قد تتاح لنا فرصة لرؤية تلك النظرة في عينيها؟’
التعليقات لهذا الفصل " 51"