ها قد حلَّ أخيرًا اليومُ الذي ستُطلّ فيه فريسيا لأول مرة في مناسبة اجتماعية نبيلة، بعد نيلها بركة الكاهن. و كانت الوليمة من تنظيم دوقية أَنتاريس.
‘ما زالت الأحداث تتكرّر تمامًا كما في الماضي…’
رغم أن إيزار قد تجاهل عددًا من الدعوات، إلا أن هذه الدعوة لم يكن من السهل رفضها باسم دوقية أركتوروس. فـبيت أَنتاريس، على خلاف سائر العائلات، كانَ ذو مكانة مساوية داخل العاصمة.
و رغم أنها لم تكن تُحب ذلك، إلا أنّها فكّرت بإيجابية:
‘ربما من حسن الحظ أن لا يوجد عذر يمنع ابنة غير شرعية من الحضور.’
و إن أحسنت التصرّف في هذه المناسبة، فـحتى و إن لم يرغب إيزار بذلك، فسيكون هناك مبرر لأخذها إلى قصر الإمبراطور مستقبلًا.
و لهذا، كانت قد استعدّت لليوم على أكمل وجه.
“سيّدتي! كلّ شيء أصبح جاهزًا!”
“شكرًا لكِ، ثيا.”
بدأت التحضيرات منذ الصباح الباكر. عادةً ما تكون ثيا وحدها من تعتني بها، لكن فريسيا ابتسمت بخفوت للخادمات الأخريات اللواتي حضرن معها في الغرفة.
“و شكرًا لكنّ أيضًا…”
تبادلت الخادمات الثلاث النظرات بشكلٍ مرتبك، مستعملات اللقب على مضض.
كُنَّ يحتقرن خدمتهن لابنة غير شرعية، لكن بدافع الفضول و نصف غيرة، بدأن مؤخرًا بالاهتمام بها، بعدما أغرتهنّ ثيا بحديثها المُتباهي:
‘نعم! سيدتنا طيبة فعلًا، أليست كذلك؟ فقط أخدمنها بلُطف، و ستنهال عليكم الهدايا.’
و بما أن فريسيا سمحت لـثيا بالتفاخر كما تشاء، فقد أظهرت الأخيرة الحُلي الصغيرة التي حصلت عليها بكل فخر.
‘تواجد خادمات أكثر أفادني في جمع المعلومات.’
كانت بحاجة لمعرفة ما هو رائج في العاصمة تحديدًا، إذ لم تكن زياراتها المتكررة ممكنة.
في تلك اللحظة، نظرت ثيا إلى فريسيا بإعجابٍ صادق:
“السيّدة… هذا الفستان الذي اخترتِه يليق بكِ كثيرًا…”
“حقًا؟”
“نعم! يشبه قليلًا ما ارتديتهِ في دينيب، لكن هذا الطراز يظهركِ بأبهى صورة!”
حتّى الخادمات اللواتي انضممن بدوافع مختلفة، وجدن أنفسهن يوافقن تلقائيًا. فقد كُنَّ يخشين الإمبراطور و يُعظّمن المهر السخي من والدها.
و بفضل ذلك، حتّى إلكترا التي كانت كثيرة الانتقاد في العام الأول، لم تنبس ببنت شفة بشأن مهرها.
‘لحسن الحظ، احتوى على الكثير من الملابس الثمينة…’
كانَ الفستان الذي اختارته هذه المرة مُختلفًا.
مصنوع من الستان الذهبي الباهت و التول، خفيف الوزن، كاشف للكتفين و عظام الترقوة تماشيًا معَ الموسم، الكمّ مصنوع من الساتان الرقيق المتدلّي من الكوع، و تحيط فتحة الصدر حبات توباز صغيرة تتلألأ كـنجوم صغيرة.
لكنّها لم تختره لجماله فقط…
‘عليَّ أن أرتدي ما يكشف أكبر قدر ممكن من الجلد.’
في السابق، حينَ ذهبت إلى دوقية أَنتاريس بلباس مُحتشم يرضي ذوق إلكترا، انتهى بها الأمر بكدمات في مواضع لا تُرى.
“هاه…”
تنهدت فريسيا و هيَ تنظر إلى انعكاسها في المرآة.
‘على الأقل، حينَ كانت السيّدة الكبرى بجانبي، كانَ هناك مبرر يُدعى التدريب.’
في أراضي أركتوروس، كانت السيّدة الكبرى تنضم إلى باقي السيّدات لمضايقتها، لكنها لم تكن تتسامح معَ إهانة فريسيا من قِبل الغرباء.
حتّى إن لم تكن تحمل لقب الدوقة رسميًا، فقد كانت فخورة بكونها من «عائلة أركتوروس».
علمتها قواعد السلوك، و جعلتها تُكرّر الشعر الرسمي، و صقلت حديثها و تصرفاتها و كأنها تنقّي معدنًا غاليًا من الشوائب.
و لو أردنا التوسّع في الوصف، لقلنا إن ذاك التدريب، رغم قسوته، قد أثمر نتائج جيدة.
‘لكنّ سيّدة أَنتاريس كانت… مختلفة تمامًا.’
فـفي السنة الأولى، حينَ خففت فريسيا حذرها، عرفت كيف يمكن أن تنقلب تلك المرأة داخل الوليمة… و تقلب معها حياتها.
كانت تلك مجرد بداية، في الوليمة، كانت النساء النبيلات يتجمّعن حول فريسيا … و ما سيأتي لاحقًا، لم يكن مُجرّد كلمات… بل سهامًا مطلية بالسُمّ.
رغم أنها تعلّمت بسرعة كيف تُخفي اضطرابها بأسلوبٍ مهذّب، إلا أن فهمها لأسئلة النبيلات التي انهمرت عليها في العام الأول ظلَّ بعيد المنال. كانت كـحيوان صغير يحاصر وسط مخالب ضارية، لا لشيء سوى ليتسلّوا بافتراسه.
حينها، و بينما كانت فريسيا ترتجف خوفًا كأنها ستُلتهم في أية لحظة، تقدّمت السيدة أَنتاريس نحوها.
”أوه، لا تُفزعن ابنتي هكذا يا عزيزاتي.”
قالت ذلك مبتسمة، و ربتت على كتف فريسيا بحنان زائف.
“فريسيا، سيدة آل آركتورس… إن كنتِ بحاجة للمساعدة، لماذا لم تناديني؟ أنا… والدتك؟”
آنذاك، بدا مناداة المرأة التي قتلت أمّها بـ”أمي” تصرّفًا سخيفًا.
لكن… تحت نظرات النبيلات المليئة بالاحتقار، كُنَّ مرعبات إلى الحد الذي جعلها تتشبّث بأقرب وهمٍ للنجاة، ولو كانَ على هيئة المرأة التي مزّقت حياتها.
في تلك المناسبة، اقتادتها خادمات السيدة أَنتاريس إلى ما سمّي بـ “غرفة التخزين”
“و من أذن لك بمناداتي أمي؟”
أنتِ… أنتِ من قُلتِ لي أن أفعل.
لكن الكلمات لم تجد طريقها إلى لسانها، لم يكن السبب الخوف وحده، بل لأنهنّ غطين وجهها بغطاءٍ ثقيل حتّى لا يُسمَع صراخها
فـلو تسببت تلك “اللقيطة” بفضيحة، قد يخرج إيزار ليتحقق بنفسه.
“ناديني بـ(سيدتي) بكل احترام، من تظن نفسها ابنة عاهرة حتّى تتجرأ هكذا؟”
رنّت ضحكتها في الظلمة، ثم بدأت الضربات تنهال.
لم تكن الضربات في حدّ ذاتها الأشد ألمًا…
نعم، كانت تؤلم، لكنها لم تبلغ قسوة “تأديب” إلكترا. ما كانَ لا يُحتمل فعلًا، هو الجهل بمكان الضربة القادمة، ذلك الإحساس المرعب تحت الغطاء.
بعد جلسة طويلة من الضرب باسم “التأديب”، تركوها تترنّح خارجًا. جسدها كانَ مليئًا بالكدمات التي غطّتها الثياب، و أصبحت المشيَة نفسها عذابًا… لكن إيزار حينها لم يعلم شيئًا.
“هل صدّقتِ فعلًا كلام تلك المرأة؟ أيّ امرأة عاقلة تسمح لابنة زنا أن تناديها بأمّها؟ مقزز.”
“احفري هذا في ذاكرتك، أنتِ لا شيء، مُجرّد أداة بأيديهم.”
‘نعم…في عالمهم المصقول الجميل… أنا لست سوى “ابنة غير شرعية”… مجرد حيوان.’
‘هذه المرّة… لن أسمح لكلماتهم أن تزلزلني، لن أُمهلهم حتّى فرصة للتهكّم عليّ.’
و معَ تصلُّب ملامح فريسيا بعزمٍ خافت، رفعت ثيا صوتها فجأة و كأنها تؤدّي دورًا متقنًا.
“يا إلهي، سيدتي… تبدين في غاية الجمال هذا اليوم، فـلِمَ يبدو عليكِ التعب؟”
“آه، ثيا، لا تبالغي في المديح.”
“ليست مبالغة، و لا كلمات جوفاء!”
حقًّا… يا لها من سيدة وُلدت بين الرعاة، ثم تحوّلت إلى امرأة نبيلة بملامح لا تُصدّق.
‘هل اعتدت ملامحها لكثرة رؤيتي لها؟’
بشرتها و شعرها يلمعان بصفاء، و ملامح وجهها الصغيرة التي كانت شاحبة في الماضي امتلأت بالحياة، تشعّ بهالة تليق بنبيلة من علية القوم.
و فجأة، أدركت ثيا أن هذه الهالة لم تكن وليدة اللحظة، بل بدأت بالظهور منذ ذلك اليوم الذي وبّختها فيه فريسيا لأول مرّة.
حينها… بدأ سلوكها يتناغم معَ النبل، و أصبحت هالتها الراقية أكثر وضوحًا.
“سيدتي… أنتِ حقًا مدهشة منكِ.”
“أنا؟ بأي معنى؟”
“أم… منذ أن رأيتك أول مرة، بدا لي أنكِ نبيلة بحق. و الآن… بات ذلك جليًّا أكثر.”
“أترين ذلك؟”
“نعم! هل تعلّمتِ بهذه السرعة في منزل أَنتاريس؟ هل هناك سرٌّ خاص؟”
“همم… إن جاز القول…”
ابتسمت فريسيا بخفّة، و أجابت بحقيقة مجرّدة لا أكثر:
“لا سبب محدد… فقط… ضُرِبت كثيرًا.”
“ماذا؟! يا سيدتي!”
يا لها من جملة مخيفة تُقال ببرود!
“رؤيتكِ بهذا الجمال اليوم… لا بُدَّ أن تُحرّك مشاعر الدوق!”
لكن فريسيا لم تملك سوى أن تهزّ رأسها بصمت، لعلّها كانت قلقة من أن يُقال عنها زوجة لا تُحب.
“إيزار … متأثرٌ بي؟”
حتّى في حياتها السابقة، حينَ تشاركا فراشًا واحدًا، لم يُلقِ عليها ولو كلمة مجاملة عن مظهرها.
حتّى أتريا، التي كانت تُلقّب بـ”زهرة العاصمة”، لم تَسلم من بروده.
فكّرت بذلك بسخرية، ثم أطلقت ضحكة خافتة، ساخرة من الأمل الذي لا محل له.
—
رغم الفتور بين العائلتين، لم يكن قصر أَنتاريس بعيدًا عن مقرّ آركتوروس، فـقصور النبلاء في العاصمة تتقارب عمدًا لتيسير المناسبات الاجتماعية.
و بما أن الليلة كانت حفلًا رسميًا، رافقها إيزار بنفسه في العربة.
ربما كانت هذه أقرب مسافة جسدية بينهما، لكنها أيضًا كانت أكثر اللحظات صمتًا منذ بداية حياتهما معًا.
و كانت هذه أيضًا أول مرة تراه بعد أن طردها ببرود من مكتبه.
جلس عاقدًا ذراعيه، ناظرًا إلى الخارج بجمود، و فريسيا اكتفت بمراقبة انعكاسه على نافذة العربة.
ألم تكن أجمل من أي وقت مضى؟ ذلك الجسد الهزيل يشعّ بهدوء ذهبي كـزهرة تتشارك اسمها.
‘اللعنة…’
ألم يصفها يومًا بازدراء بأنها زهرة هشّة سقطت تحت مطرٍ قاسٍ؟ فـهل هذا الألم في صدره الآن هو ما يُعكّر رؤيته؟
و رغم حذر فريسيا المعتاد منه، لم تستطع مقاومة سرقة نظراتٍ أكثر جرأة نحوه.
من يدري كم فرصة تبقّت لها لترى زوجها متأنقًا بهذا الشكل؟
هيبته المتأصلة و أناقة مظهره خلقتا تناقضًا غريبًا.
بذلته الزرقاء القاتمة، المُفصّلة بدقة على جسده العريض، لمعت بتطريزٍ ذهبي على الأكمام و الأزرار، كـنجوم ليلية تتناثر فوق عتمة.
و ربما لأنه سرّح شعره الأسود بعنايةٍ نادرة، فقد بدا، للحظة، شبيهًا بذلك الرجل الذي عرفته حينَ كانَ في السادسة والعشرين.
و بينما كانت مشاعر الحنين تتدفّق داخلها، همست أخيرًا، بصوتٍ طالما رغبت في إطلاقه منذ صعدت إلى العربة:
“سيدي الدوق… “
“ماذا.”
“اليوم… إن أمكن… حينَ لا تنشغل بالحديث معَ الآخرين… هل لي أن أطلب أن تبقى بقربي؟”
يا للغرابة…
حينَ اقتيدت إلى هنا أول مرة بعد مقتل والدتها، كانت تقاوم بكل ما أوتيت.
‘لكني الآن، أشعر بالخوف…’
كانت مُجرّد فكرة تكرار تلك الوليمة الكريهة كفيلة بأن تُلهب حلقها بحرقة مريرة، لقد أعادت تذكّر ما جرى مرارًا، راجعت كل التفاصيل، ظنّت أنها استعدّت جيدًا… و معَ ذلك، كانَ الخوف ما يزال يحاصرها بقسوة.
و إن سُحبت مجددًا إلى “غرفة التخزين” تلك…
فـكل ما كانت ترجوه، هو أن يأتي للبحث عنها.
يكفيها فقط أن تعلم… أنه يهتم لأمرها.
“فقط هذه المرة، أرجوك…”
استدار إيزار عن النافذة، و حدّق بها بدهشة صامتة.
كانت فريسيا منكمشة على نفسها، مظهرها الأنيق بدا و كأنه لا يخصّها، و كأنه لباس لا يليق بهذا الضعف العميق.
‘هل سبق أن رأيتها خائفة إلى هذا الحد؟’
كانت أشدّ شحوبًا من تلك الليلة التي تعرّضا فيها لهجوم الوحوش، في طريقهما إلى العاصمة.
‘على الأرجح، لأنهم اقتلعوها من حضن والدتها فجأة…’
فـهي من تسللت خفية من ذلك القصر، لتحذّره بنفسها من هذا الزواج… فـكيف لا ترتعد الآن، و هيَ تعود إليه تحت عيون قاتلي أمها؟
نقر بإصبعه بخفة على إطار النافذة، فـارتدّ الصوت خافتًا، كأنه يكسر السكون المتجمّد.
نعم، هذه الوليمة لا يمكنه أن يتغيّب عنها.
يمكنه أن يتجرّع الإهانة… لمرةٍ واحدة فقط.
فـهو كانَ يخطط بالفعل، حينَ يعودا من قصر أَنتاريس، أن يحدّثها بالحقيقة الكاملة عن زواجهما.
“حسنًا…”
“ما لم أكن مشغولًا بشيءٍ مهم.”
“آه، شـ-شكرًا لك…”
احمرَّ وجه فريسيا بامتنان حارّ من رده البسيط،
و عندما وقعت عينا إيزار على وجنتيه المتورّدتين، أدار وجهه سريعًا، و كأن في النظر إليها خيانة لحاجزٍ لم يشأ أن يُكسر.
التعليقات لهذا الفصل " 50"