في معبد العاصمة، كما قالت ثيا، كانَ طابورٌ طويلٌ من الناس ينتظرون الحصول على بركة الكهنة الجدد الذين رُقّوا مؤخرًا.
لكن فريسيا، و للمرة الأولى، شعرت بالامتنان لمكانتها النبيلة، إذ سمح لها ذلك بتجاوز الصف الطويل الذي بدا وكأنه لا ينتهي، خاصّةً في هذا الطقس القاسي.
لحسن الحظ، لم يسألوني كثيرًا بسبب الزحام.
التمييز بين النبلاء و العامة كانَ واضحًا من خلال اللباس وحده، و وجود فرسان و خادمة معها كانَ كافيًا لإثبات مكانتها النبيلة، و إن لم يُكشف عن هويتها تحديدًا.
و خصوصًا أن المعبد كانَ يُعلن على الملأ محبة آدمانت المتساوية للنبلاء و العامة، لذلك لم يكن بمقدورهم إظهار مشاعرهم الحقيقية أثناء هذا الحدث الخارجي الكبير.
و سرعان ما قُدّمت فريسيا إلى شخصٍ لم تتوقّع رؤيته، الكاهن القادم من دينيب. و في اللحظة التي تقدّمت فيها، رفع الرجل الجالس على المقعد الرخامي الأبيض رأسه.
عيناه الحمراوان تلألأتا بدهشة.
“أنتِ—”
اتسعت عينا فريسيا في صدمة حينَ رأت النظرة التي ملأت عيني الكاهن. كانت تتذكره، لكن… هل هوَ أيضًا تذكرها؟
لكن بدلاً من أن يعلن بصوت عالٍ هويتها بصفتها “الدوقة”، ابتسم الكاهن باحترام ومدّ يده اليمنى.
آه.
كانَ يعني بذلك أن تسلّمه الشيء المُراد مباركته، و أن يُصلّيا معًا. فـسارعت فريسيا إلى إخراج الهدية المغلّفة بالقماش الكتاني، و ركعت أمامه بهدوء.
حينَ لمس الكاهن القماش أثناء الصلاة، لامست يداه يد فريسيا للحظة. كانَ إحساسًا أشبه بوهج نجمٍ يتسرّب عبر أناملها، إحساسٌ غريب لم تختبره من قبل، هيَ التي لم تمرض قطّ بفضل قسوة نشأتها.
لكنها ما إن رفعت رأسها بذهول، حتّى تراجعت فجأة.
‘…؟ هل… ابتسم قليلًا؟’
كانت ابتسامة غريبة، يعلوها شيءٌ من الجشع، كما لو أنه عثر على كنز غير متوقع.
“يا حضرة الكاهن…؟”
“أوه، أعتذر.”
لكن و كأن شيئًا لم يكن، عاد تعبير وجهه إلى الابتسامة الهادئة الموقّرة، و كأنّ نظرتها السابقة كانت مجرد وهم.
سحب يده بلطف، و همس:
“يسرّني أن أراكِ بصحة جيدة، سيدتي.”
“و كذلك أنا، مبروك ترقيتك إلى معبد العاصمة.”
“مبالغة لطيفة.”
ضحك الكاهن بحرارة، و ساعد فريسيا على النهوض بهدوء.
“أن نلتقي مجددًا بهذا الشكل لا بُدَّ أنه تدبيرٌ من الرب…”
ثم قادها نحو غرفة الاستراحة، و قال و هوَ يشرح:
“إن واجهتِ أي مشقّة، تعالي و ابحثي عني. بما أنكِ مهتمة بالعقيدة، فقد أكون عونًا لكِ.”
“أشكرك على لطفك، أيها الكاهن، ما اسمك؟”
“آه.”
تردد الكاهن للحظة، ثم ابتسم مرة أخرى و أجاب:
“كانوبوس، ابحثي عن كانوبوس من دينيب.”
—
انتهى موكب البركة معَ حلول المساء.
الكهنة الجدد، الذين أنهكتهم الانتقال من بلداتهم إلى العاصمة، بدؤوا يظهرون علامات التعب في صالة الاستراحة.
لكن كانوبوس بقي يتأمل مشهد العاصمة من الممرّ، يُحرّك يده ببطء. ذاك اللقاء العارض أكّد له الأمر.
‘تلك المرأة مباركة من الرب… مثلي تمامًا.’
لطالما تساءل سابقًا : هل قوتها بدأت للتو بالاستيقاظ؟ أم أنها كانت كامنة؟ لكن الآن، بات واثقًا.
الوحوش ليست سوى رسل تنذر البشرية من الفساد. و لهذا، فـحقيقة أن بإمكانه استدعاء الوحوش ما هيَ إلا دليلٌ على أنه المختار، الذي سيعاقب هذا الإمبراطورية الفاسدة.
أما تلك المرأة…
بعد الهجوم الأول، أرسلت وحوش الذئاب عدّة مرات نحوَ قافلة أركتوروس.
لكن بعد أن شعر أحد الوحوش بالخوف منها مرة واحدة، لا بد أنه نقل رسالته لبقية الوحوش، إذ لم يجرؤ أي منهم على الاقتراب من منطقتها بعد ذلك.
رُبما … فقط وحشٌ أقوى يمكنه الاقتراب.
‘امتلاك القدرة على بثّ الرعب في قلوب الوحوش، حتّى يمتنعوا عن الاقتراب منها…’
قَمَعَ كانوبوس نشوة الإثارة التي اشتعلت في صدره، بأن مرّر أصابعه على شفتيه.
“ها…!”
قوةٌ متناظرة تمامًا معَ قوته، إنها مختارةٌ مثله تمامًا.
تلك المرأة…
و رُبما، كانت الأنسب تمامًا لعائلة أركتوروس، كأنها الرحمة الأخيرة التي وهبها آدمانت لتلك العائلة الملعونة، لتمحو الوحوش من الوجود!
لكن ماذا عن مظهرها اليوم؟
تزعم أنها “دوقة”، و معَ ذلك لا ترافقها سوى خادمة واحدة و فارس واحد! سواء في دينيب أو حتّى في العاصمة!
“هاها…!”
غطّى كانوبوس فمه و انحنى للأمام و هوَ يضحك بصوت مكتوم، ثم رفع رأسه ببطء، و قد ارتسمت على شفتيه ابتسامة واسعة.
“ذلك الأحمق التافه.”
أخوه غير الشقيق، النجم الهاوي، إيزار.
يسعى لاستعادة مجد العائلة، بينما يغفل عن البركة التي سقطت في حجره دون أن يدركها.
و خدم تلك العائلة الملعونة، عائلة أركتوروس، لم يكونوا أفضل حالًا.
هاه… أتساءل كيف سيكون تعبير وجهه عندما يعرف الحقيقة؟
في البداية، كانَ يأمل فقط أن تصبح تلك المرأة نقطة ضعف إيزار …
لكن، هل حان الوقت لتغيير الخطة وقتلها؟
فإن كانت هيَ الأخرى مختارة من الرب، أفلن ترى العالم كما يراه؟ سيكون من الرائع أن يجد من يفهم الحياة بالطريقة ذاتها.
‘لكن، هناك ما يجب فعله قبل لقائنا التالي.’
لقد حان الوقت لاستكشاف الأسرار المخبأة داخل معبد العاصمة… وسط هذه الإمبراطورية الفاسدة.
منذ العصور القديمة، كانت القلاع تشتهر بجدرانها المتينة و هيبتها العظيمة أكثر من اهتمامها بالجمال المعماري، لا بسبب الحروب الإقليمية فحسب، بل تحسبًا أيضًا للوحوش التي تظهر مع بداية كل عام جديد.
لكن القصر الإمبراطوري في بيتيلجوس، الواقع في العاصمة الآمنة، كانَ يزهو بأبهى حلله بلون العاج الأنيق، و بغابة صيدٍ مُعتنى بها جيدًا.
و بما أن الإمبراطور كانَ يكره “الأحداث الخطرة”، فقد استُخدمت تلك الغابة لغرضها الأصلي مرةً واحدة فقط كل عام.
و معَ اقتراب موعد الحدث، دبَّ النشاط في أرجاء القصر.
“آه آه، لم أكن أريدك أن تُهين عدوك صراحة، و لهذا اقترحت أن تُرسل ابنتك اللقيطة.”
لكن الإمبراطور أطلق ضحكة خافتة بينما كانَ يتصفّح التقرير السنوي المعتاد بشأن التحضيرات، ثم رمق دوق أَنتاريس الجالس أمامه بنظرة جانبية، و قد بدا عليه الانزعاج بوضوح.
“ألَم تُدرّبها بحماسةٍ مفرطة، يا دوق أَنتاريس؟”
“ليس الأمر كذلك، يا صاحب الجلالة، إن والدتها… كانت، في الواقع، أكثر انضباطًا مما توقعت…”
“تسك! إلا إذا سقطت من السماء… رُبما ذاك الدوق الشاب أركتوروس مُجرّد محظوظ كبير.”
فـبعد تزويج ابنته غير الشرعية لذاك الدوق، كانَ الإمبراطور يأمل سرًا بأن يسمع أخبارًا تُخجل عائلة أركتوروس.
و لأن والدة إيزار، التي فقدت أبناءها، كانت من أسرةٍ نبيلة متواضعة، فإن تشويه سمعتها لم يكن مسليًا كفاية، فـبقيت عائلة أركتوروس نفسها هدفًا وحيدًا لسخريته المسمومة.
و ما دام الابن الأكبر و زوجته قد ماتا، و الابن الثاني لا ينوي العودة، فإن هذا الاستهزاء المرير سيستمر.
لكن للأسف، لم يرد أيّ خبر يفيد بأن ذلك الدوق فقد ماء وجهه بسبب تلك اللقيطة.
“حتّى الفوضى الأخيرة للوحوش لم تجلب إلا الحظ الجيد لذلك الدوق أركتوروس.”
كانَ ذلك يثير غيظه بشدة. أراد أن يُذلّ ذلك الفتى المغرور كما يليق، لكنه لم يستطع أن يُحرجه أمام نبلاء استفادوا من مساعدته.
و معَ ذلك، رمى الإمبراطور نظرةً خبيثة باتجاه دوق أَنتاريس و هوَ يضحك ساخرًا:
“ما رأيك بدعوة تلك الابنة و زوجها لحفل مائدتكم؟ سيكون حدثًا منتظرًا من الجميع.”
“سيكون ذلك شرفًا لنا، يا صاحب الجلالة. لقد ضمّتهما زوجتي بالفعل إلى قائمة المدعوين.”
“آه… جيد. سيكون وقتًا ممتعًا لزوجتك أيضًا.”
“كما تأمر، يا صاحب الجلالة.”
ابتسم دوق أَنتاريس ابتسامة متكلّفة و هوَ يحاول إرضاء الإمبراطور. و إن أراد الإمبراطور مهرجًا يُسليه، فـليكن، هكذا حافظت سلالة أَنتاريس على وجودها.
لكن في داخله، كانَ الدوق يضرب صدره غيظًا.
‘هاه، كيف علقتُ معَ تلك المرأة؟’
كانت امرأةً مجنونة، اقتُلِعت منها لسانها لأنها فقدت صوابها.
فتاةٌ، كانت جميلة حينَ خرجت من الريف، لم تكن سوى تسلية عابرة، لكن بعد أن اكتشفتها زوجته، وقع في فخٍ لا مفر منه.
لذا شارك طوعًا في قتل المرأة المجنونة و تشويه سمعة دوق أركتوروس…
‘لكن تلك اللقيطة ليست ابنتي.’
لطالما آمن دوق أَنتاريس بأن تلك الفتاة غير الشرعية ليست من نسله. بدأ هذا الشعور عندما قطعت زوجته لسان المرأة الحامل.
صحيح أنه لم يكن رجلاً عفيفًا، لكنه يتذكر جيدًا تلك الليلة. و كلما استرجع الأمر، تذكّر كيف كانت تلك المرأة تمانع بشدة قبل أن تستسلم له.
«أنا أحمل بذرة رجُلٍ نبيل… لا يمكنني أن أكون معك، أيها الدوق، أرجوك، توقف»
ظنَّ آنذاك أنها تتدلّل أو أنها لم تجده جذّابًا مثل رجالها السابقين.
لذا ضربها ضربًا مبرّحًا.
لكن حينَ يسترجع كلماتهـا الآن، يشعر بوخزة غريبة في صدره… و كأن رفضها كانَ حقيقيًا تمامًا.
‘لكن، ما عساي أفعل بعد أن تسرّعت زوجتي؟’
ما كانَ بوسعه سوى الانصياع، عندما قطعت لسان تلك المرأة داخل الإسطبل، و غطّت المكان بالدماء، ثم صاحت ببرود:
«القتل عقوبة يُنزلها آدمانت… أما أنا، فـسأكتفي بهذه الرحمة : النفي.»
بصراحة، حينَ أمسكت زوجته بالخنجر الملطّخ بالدماء و ابتسمت بذلك الوضوح المخيف، تبوّل دوق أَنتاريس على نفسه قليلًا في تلك اللحظة.
و مهما أصرّ على أن تلك البذرة ليست من صلبه، لم تكن لتستمع إلى هرائه.
العزاء الوحيد آنذاك، أنه بعد أن أُلقي بتلك المرأة بعيدًا في أراضي أركتوروس، لم تُظهر زوجته ذلك الوجه المرعب مجددًا.
و بتنفيذ أمر الإمبراطور، قدّم الابنة غير الشرعية بلا تردّد… لكن معَ مرور الأيام، بدأ شعورٌ بعدم الارتياح يتسلّل إلى قلبه شيئًا فـشيئًا.
“ماذا لو أن والد اللقيطة الحقيقي لا يزال على قيد الحياة؟”
كم ستتعقّد الأمور حينها؟
و إن قررت تلك المجنونة اتهامه هوَ و زوجته بعد أن بُتر لسانها، فـكم سيكون الوضع مزعجًا و محرجًا؟
على أي حال، من الواضح أنها ابنةُ زنى. و إن لم يتقدّم أحد للاعتراف بأبوّة تلك المرأة، فـالأمر منتهٍ بالنسبة له.
على الأقل، كانَ قد أعدّ لها مهرًا سخيًّا قبل الزواج، لذا لا يشعر بوخز في ضميره.
فلا أحد سيجني شيئًا من نبش ماضٍ غارقٍ أصلاً في الوحل.
التعليقات لهذا الفصل " 49"