عندما دخلت فريسيا مكتب إيزار قبل قليل، لاحظت الرسائل المتناثرة فوق مكتبه، و كانت الأظرف الملونة دليلاً واضحًا على أنها دعوات.
كمٌّ هائل من الدعوات قد وصل، و معَ ذلك لا يردّ عليها… بل هو أسوأ من حياته السابقة.
بعد الزواج، من المعتاد أن يرافق الرجل زوجته إلى مختلف المناسبات. و إن تعذّر عليه ذلك، فـعلى نساء العائلة أن يُظهرن حضورًا في الأوساط الاجتماعية.
في الماضي، كانت إلكترا و فريسيا ضمن هذه الفئة، تُظهران وجهَيهما في المناسبات و يُرهقهنّ الوقوف حتّى تكاد أقدامهنّ تنهار… و معَ ذلك، فقد تعلّمن الكثير من تلك المعاناة.
لكن، ما معنى ألّا يحدث أيٌّ من ذلك هذه المرة؟
هل بات إيزار أكثر بُعدًا عني من حياته السابقة؟
فجأة، ضاقَ صدرها بشدّة.
لو أنه كانَ قاسيًا منذ البداية، لما تألمت بهذا الشكل. لكنه… أليس هوَ من ناداها إلى غرفته و اعتنى بجراحها بنفسه؟
أن تُضمد الجراح أولًا ثم تُصفَع بعدها، لهوَ أكثر قسوة من الضرب على موضع الألم مباشرةً.
و ما زاد وجعها، أن استبعاده لها عن الدوائر الاجتماعية قد يعني أنّه لن يصطحبها إلى المناسبات الإمبراطورية لاحقًا.
‘ليس هذا وقت الفرح بغياب السيّدة إلكترا… يا لي من حمقاء.’
و بقلبٍ مضطرب، لامت نفسها بصمت.
ما مضى قد مضى.
‘ما الذي عليّ فعله الآن؟ عليّ التفكير بحل عملي.’
قبل أن تحضر مناسبة إمبراطورية، لا بُدَّ أن تُظهر نفسها في التجمعات الأرستقراطية مرة واحدة على الأقل.
و في تلك المناسبة، يجب أن تبدو بلا شائبة من حيث المظهر و السلوك، حتّى يُسمح لها بمرافقته إلى القصر دون إثارة اعتراضات.
و معَ محاولتها نسيان كلمات إيزار القاسية، بدأت تُفكر بهدوء في ما ينبغي فعله… لكنها حينَ مرّت بالممر، وقعت عيناها على حذاءٍ جلدي لامع.
“…؟”
“سيدتي.”
“آه… اللورد كارولي.”
لقد لمحته من قبل عندما كانت تغادر المكتب، حينَ تراجع مترددًا.
“إن كنتِ بحاجة لمقابلة دوقنا مجددًا، فـغرفته ما زالت مفتوحة.”
“لقد أتيت لتحييتكِ بدلاً من حضرته، سيدتي.”
“أنا؟”
رغم أنهما تبادلا التحية من قبل في أرجاء القصر، إلا أن هذا الرجل لم يكن يبادرها الحديث عادةً.
“هل سمعتِ ما قاله حضرته قبل قليل؟”
“نعم… “
<من الواضح كم تُثقل هذه المرأة كاهل هذه العائلة.>
ترددت كلمات إيزار في أذنها بوضوح تام، بالتزامن معَ نظرتها إلى وجه تشارلز.
“إن كُنتِ قد سمعتِه… فـلي طلبٌ صغير.”
“تفضل.”
“أرجوكِ، لا تُسبّبي مزيدًا من المتاعب لحضرته.”
“ماذا…؟”
“لا شكّ أن هذا الزواج مرهقٌ لكِ أيضًا… و أنا أعلم أنكِ شخصٌ عاقل.”
“…”
“لذا أرجوكِ، أقول هذا من أجل راحتكِ أنتِ أيضًا.”
نظرت فريسيا إلى تشارلز ببرود.
‘هكذا إذاً… هذا هو أسلوبه المهذب في التحذير.’
لم تكن فريسيا ساذجة لتُخطئ فحوى الرسالة : “توقّفي عن إزعاج الدوق، و إلا ستجعلين حياتكِ أصعب.”
هذا الرجل، رغم لياقته الظاهرة، كانَ ممّن أساؤوا إليها قبل موتها.
لم يكن من أصحاب النمائم البذيئة، لكنه…
<تلك المرأة ليست سوى وصمة تُلطّخ شرف حضرته.>
كانَ ثابتًا على رأيه. في نظره، لم تكن فريسيا سوى شوكة تُشوه صورة إيزار و العائلة.
لكن من أمثاله كُثُر، في حياتها السابقة و الحالية. و لا فائدة تُرجى من محاولة تغيير أفكارهم.
“اللورد كارولي، لم أنسَ يومًا كيف عشتُ في تلك الأراضي… لكنني أيضًا ابنة دوقية آنتاريس.”
و معَ أنها تتحلّى بالتسامح، إلا أن هذا لا يعني أنها ستسمح لأحدٍ أن يدوس كرامتها.
أعطت فريسيا للرجل الشاحب الملامح تذكيرًا بمكانتها الرهيبة، مؤكدة له أن عائلة آنتاريس، رغم ما قد يبدو على السطح، هيَ عائلة ذات شأن رفيع و مرتبطة بقوة بالبلاط الإمبراطوري.
ثم قالت بثقة:
“و أعدك… لن أكون عبئًا على آل أركتوروس بعد الآن.”
بل على العكس، ستُعيد لتلك العائلة مجدها و كرامتها، على نحوٍ لم يستطع أي فردٍ منها تحقيقه.
تابعت فريسيا سيرها دون أن تنتظر من تشارلز أيّ رد.
‘كدتُ أن أتراجع… لكنني سعيدة لأني لم أفعل.’
لا يمكنها أن تسمح لنفسها بالتأثر بتقلّب مزاج زوجها الشاب ذي الأعوام الثلاثة و العشرين.
إن فعلت… فستقضي ما تبقى من أيامها الـ255 تصارع الألم كل يوم.
“سيدتي، لا تحزني…”
حينَ أخبرت فريسيا ثيا بإلغاء زيارة شارع مايا، خيّمَ على ثيا شيءٌ من خيبة الأمل، لكنها لم تُبدِها كثيرًا. و معَ ذلك، بدا أن فريسيا نفسها كانت أكثر إحباطًا منها، إذ لمعت على وجهها ابتسامة باهتة خلف نقاب الدانتيل.
“لا بأس، كل ما أحتاجه هوَ استلام القطعة المُخصصة لسمو الحفيد الإمبراطوري.”
“لكن، معَ ذلك…”
“آه، ها هيَ، سيدتي!”
رغم أن زيارة المنطقة الفاخرة قد أُلغيت، فإن الخروج لم يُمنع تمامًا. و بفضل ذلك، توجّهت فريسيا معَ ثيا و فين إلى ورشة الزجاج حيث وضعت طلبها سابقًا. كانَ المكان هادئًا بعيدًا عن السوق الصاخب، و يبدو أن اشتعال الفرن ساعد في إبعاد الحشود.
لم يكن الحرفي المُسن يعلم تمامًا إلى أي أسرة نبيلة تنتمي فريسيا، لكنه خرج بنفسه لاستقبال السيدة الشابة. و قد احمرّ وجهه بفعل الحرارة، لكنه أضاء بابتسامة حينَ رآها تصل.
“آه! لقد وصلتم!”
“سمعت أن كل شيء أصبح جاهزًا.”
“أجل، أجل، هذا صحيح. أتساءل فقط من أين سمعتِ عن هذه الورشة لتطلبي شيئًا كهذا…”
ثم أخرج الحرفي بحماسة قطعة مغطاة بقماش كتان.
“حينَ صنعتُ هذا، سخر مني الجميع و قالوا إن الفكرة غريبة.”
“حتّى عمل الأستاذ يُحكم عليه تبعًا لمدى رقي ذائقة من ينظر إليه.”
كانت القطعة التي ناولها لها عبارة عن نظارة قراءة بدائية جدًا. عدستان دائريتان من الزجاج، موصولتان بقطعة صغيرة في المنتصف، تُمسكان باليد أو توضعان على الأنف أثناء القراءة.
و في المستقبل، ستُضاف إليها عظام و حواف خشبية منقوشة بعناية، لكن ذلك الوقت لم يحن بعد.
“آه… هذا يدوّخني كثيرًا.”
لأن نظر فريسيا سليم، فقد أبعدت النظارة بسرعة عندما بدأ كل شيء يبدو أكبر من حجمه. إلا أن الحرفي ظلَّ يضحك بودّ على دوار السيدة خلف نقابها.
“إن لم تكن رؤية من سيستلم هذه النظارة مطابقة، يمكنكم مناداتي في أي وقت.”
“همم… سأفعل ذلك.”
لكن إن جاء الحفيد الإمبراطوري بنفسه، فقد يُصدم هذا الرجل المسن لدرجة تُرهق قلبه…
تمنّت فريسيا في سرّها ألا يصيبه التوتر إن حصل ذلك.
طلبت منه ألا يبيع هذا النوع من النظارات لأي شخص آخر لفترة، و بعد أن ضمنت الحصول على القطعة الثمينة، خرجت لتجد الشارع أكثر صخبًا من قبل.
كانت هناك أصوات هتاف عند مدخل الشارع…
“سيد فين، ما الذي يحدث؟ لماذا الشارع مزدحم؟”
“من نغمة الموسيقى، أعتقد أنه…”
لكن قبل أن يكمل فين، بدأ مصدر الضجة يتضح شيئًا فشيئًا.
كانَ هناك صفّان من الناس يرتدون أرديةً كهنوتية بيضاء تدل على أنهم رسلٌ للإله، تتدلى منها شرائط أرجوانية و عباءات ذهبية خفيفة، و على رؤوسهم أكاليل من زهور الزنبق البنفسجية الفاتحة. خلفهم كانَ يسير كورال المعبد و مساعدوهم، ما أضفى على الموكب أجواءً مُهيبة.
هؤلاء كهنة جاؤوا من الأقاليم إلى المعبد المركزي في العاصمة.
خلال هذا الموسم، تُختار أفضل الكفاءات الكهنوتية من كل منطقة للترقية إلى مرتبة كهنة العاصمة. أما أركتوروس، فقد كانَ ممنوعًا عليهم نيل هذا الشرف منذ فضيحة الجيل السابق.
كانت فريسيا تراقب الموكب بفضول، لكنها اتسعت عيناها فجأة عندما وقعت على وجه مألوف.
“آه…!”
كانَ الكاهن الشاب من دينيب بينهم.
رغم أنها رأته مرةً واحدة فقط، فإن ملامحه المميزة وسنّه الصغير وسط الموكب جعلاه محط الأنظار. حتى الجمهور أبدى دهشة و إعجابًا أثناء مروره.
“يا إلهي…”
“نادرًا ما نرى كاهنًا شابًا هكذا.”
“هل هوَ كاهنٌ فعلي؟ أم لا يزال متدرّبًا؟”
“حسب ملابسه، يبدو أنه رسمي.”
حتّى فريسيا شعرت بالانبهار. فقد رُقي إلى معبد العاصمة و هوَ في مثل سنها تقريبًا، اعترافًا بذكائه ومهارته.
التعليقات لهذا الفصل " 48"