قبيل بدء الفعاليات الرسمية في القصر الإمبراطوري، كانَ قصر آركتوروس يضجّ بالحركة كـأي قصر نبيل يتهيّأ لموسم العلاقات و المجاملات. فهذه الفترة بالذات، كفيلة إما بصناعة روابط جديدة أو بتمزيق خيوطٍ واهنة.
من حفلات الشاي إلى الولائم الممتدة حتّى ساعات الفجر، توافدت الدعوات على القصر من كل حدبٍ و صوب.
و بعد أن أمضى وقتًا غير يسيرٍ في فرزها، أطلق إيزار سخرية خافتة و هوَ يتفحّص بعض الدعوات التي كُتِبَ فيها بوضوح : “الدعوة مخصصة للأزواج فقط.”
نواياهم مكشوفة كـصفحة ماء.
بابتسامة جانبية شابها الاحتقار، أدرك بسهولة الهدف الواضح خلف تلك الدعوات : رؤية الشائبة الحيّة في سجلّ الدوق.
رغم كل شيء، فقد أبدت الراعية حسن تصرّفٍ يُحسب لها، لكنّها لم تكن بعدُ مهيّأة لخوض الأحاديث المبطّنة بالتلميحات الأرستقراطية.
لا بل لعلها لن تستوعب ما يُقال، و قد تصبح أضحوكة المجلس دون أن تدري.
مُجرّد تخيّله لتلك المشاهد، حيث تُحاصر و تُنهش بالعبارات اللاذعة تحت قشرةٍ من اللطف، جعل معدته تنقلب.
و فيما غرق وجهه بظلال الغضب، التقط تشارلز دعوةً مختومة بالشمع الذهبي داخل ظرفٍ أرجواني.
“ما رأيكم بزيارة أكاديمية السحر، سيدي؟”
“دعَونا من هناك؟”
“أجل. و قد تكون فرصة سانحة، أليس كذلك؟”
كانت الأكاديمية محطّ أنظار كل نبيلٍ يهوى العلوم السحرية، و لم يكن آل آركتوروس غريب عن هذا الوسط.
“سمو الأمير يتولّى شؤون هذه المؤسسة بنفسه. لعلها مناسبة مناسبة لعقد لقاء خاص.”
“صحيح.”
فـالمؤسسة هي إحدى الجهات القليلة التي يزورها الأمير دون موكبٍ إمبراطوري، متذرّعًا بالإشراف على التقدّم العلمي. و من ثمّ، ترتيب لقاء هناك لن يكون بالأمر العسير.
تحت هذا الإمبراطور البائس، أيّ إنجاز تحقّقه آركتوروس يُداس تحت قدم.
لذا كانَ لا بُدَّد من كسب ودّ وليّ العهد في أسرع وقت، وضمان ألّا يرث الضغائن المسمومة التي زرعها والده.
و معَ ذلك…
أخذ إيزار الرسالة و هوَ يُخفي ضيقه خلف قناع من البرود.
ترى، من هوَ صاحب المبادرة الحقيقية خلف هذه الدعوة، ما دام اسم المرسل هو مُجرّد اسم المؤسسة؟
ذلك الوغد، ألبيريو دينيب… أليس منتسبًا لتلك الأكاديمية؟
ذلك المهووس بالنساء.
فـبينما ينشغل هوَ بالأمير و أرباب السلطة، سيكون ألبيريو كذبابٍ يحوم حول الراعية، يلتفّ حولها متصنّعًا اللطف و الانشغال، غير قادر على إخفاء نشوته.
و هيَ بدورها ستقابله بابتسامة هادئة، لا تعلم ما وراءها…
‘لا… عليّ أن أتجاهل.’
هناك أمور أكثر أهمية من الاستغراق في هذه الخيالات السخيفة. لقد حان الوقت ليتقن فنّ اللامبالاة بالراعية.
“سنقوم بزيارة الأكاديمية، نسّقوا موعدًا مناسبًا.”
“أمركم و لكن… سيدي، هل لي بسؤال.”
“تفضل.”
“هل… هل نشأت لديكم مشاعر تجاه السيدة بعد حادثة الوحوش؟”
منذ أن لاحظ تشارلز تغيّر سلوك سيده بعد تلك الحادثة، بات يتعذّر عليه فهم ما يختلج في قلبه. فقد كانت تلك أول مرّة يرى فيها الدوق يتقرّب من امرأة، و إن باقتضاب.
عَقَد إيزار حاجبيه قليلاً عند السؤال.
“سؤال مثير للاهتمام يا تشارلز… هل صرت فضوليًّا إلى هذه الدرجة بشأن مشاعري الخاصة؟”
سؤالٌ مُريب، كاد يتجاوز حدود الأدب، فهو لا يتعلّق بزواجٍ مدبّر، بل بمشاعره الحميمة.
فـانحنى تشارلز بعمق، كما لو كانَ هذا آخر ما يمكنه أن يجرؤ على قوله.
“ألتمس منكم العفو، و لكن… بدأت بعض الشائعات تتسرّب بين الفرسان، بأنكم مسحورون بحب السيدة.”
“سخافة.”
“و معَ ذلك، إن كانَ في قلبكم شيء لها، فـمكانها المناسب -بحكم أصلها- هو أن تكون محظية، لا زوجة شرعية.”
“…”
“مكانتها قد تجرّ المزيد من الوحل إلى اسم العائلة، سيدي.”
حينها، أشاح إيزار بوجهه عن تشارلز بلامبالاة، رافضًا الخوض أكثر.
كونها ابنة غير شرعية يتعارض صراحة معَ تعاليم عقيدة آدامانت، لذا لم يكن تشارلز مخطئًا تمامًا، حتّى و إن كانت تنحدر من أنتاريس. لكن…
مسحورٌ بها؟
أهكذا تُوصَف الجاذبية التي تشدّه إليها كأنها نداء لا يُقاوَم؟
و فوق ذلك… محظية؟ أن تُصنّف تلك الراعية كـمحظية بعد أن يتزوّج امرأةً أخرى شرعيًا؟
“هاه…”
أطلق إيزر ضحكةً باردة، خرجت منه دون أن يشعر.
فـفي تصوّره، أن يهمل زوجةً شرعية و يلاحق فقط راعيةً مخصصة لجناح الجوارِ، ثم يخصّ أبناءها بالحب و الاهتمام… ما هوَ إلا تكرار بائس لنمطٍ كانَ يحتقره.
تمامًا كما حدث معَ والدته… و ذاك الدوق السابق لعائلة أنتاريس.
“تشارلز، لن أجعل تلك المرأة محظيتي.”
“و لكن يا سيدي…”
“لم يتغير شيءٌ في قراري بطردها، هل هذه الإجابة كافية؟”
‘لعلّه لن تكون هناك حاجة لاستخدام العقار الذي عهدت به إليّ السيّدة.’
أما إيزار، فقد أراد بكلماته أن يُطمئن تشارلز… و رُبما ليكبحَ تردده الداخلي أيضًا.
“لا تقلق. سأتحدث معها بنفسي… في الوقت المناسب.”
“هل لي أن أعرف ما تنوون قوله، سيدي؟”
كانت الكلمات اللازمة واضحة كـوضوح النهار.
زواجنا كانَ باطلًا منذ البداية، و لا يجمعنا شيء.
لم يرغب بها زوجة، و لم يكن مستعدًا لأن يُقيّد نفسه بأوهامِ رجلٍ يظلّ مُسْتعبَدًا لمشاعرٍ سخيفة، مقابل وصمةٍ تشوّه اسم عائلته.
فقط… ابقي هنا بصمتٍ حتّى يحين موعد رحيلك.
معَ كل القيود التي فرضتُها على دورها كـزوجة، ماذا عساها أن تفعل؟
و معَ ذلك، لم يكن هناك داعٍ للإفصاح عن كل شيءٍ بهذا الوضوح المؤلم.
تحوّلت نظرات إيزار للحظة إلى باب الغرفة.
“هيَ عبءٌ واضحٌ على هذا البيت.”
“…”
“لكنها ليست امرأةً حمقاء، و ذلك وحده يجب أن يكون كافيًا.”
“مفهوم، سيدي.”
أومأ تشارلز بصمت، ثم انسحب بهدوء من الغرفة.
لكن إيزار، دون أن يُدير رأسه، كانَ يدرك تمامًا… أن هناك من لا يزال واقفًا خلف الباب.
“لم أكن أعلم أن لديكِ عادة التنصّت.”
“أعتذر، لم أكن أقصد الاستماع…”
“حسنًا.”
كانَ واعيًا تمامًا لوجودها خلف الباب. فـبمجرّد أن تنتبه لوجود شخصٍ ما، تبدأ حتّى أخفّ خطواته في صدى واضح لا يُخطئ.
<من الواضح كم تُثقل هذه المرأة كاهل هذه العائلة.>
لهذا السبب بالتحديد، تعمّد إطلاق تلك العبارة حينَ شعر بوجودها، لا ليذكّر نفسه فحسب، بل ليوصل الرسالة مباشرة إلى تلك الراعية أيضًا.
لقد تحدثت ذات مرة عن الحب… لكن حان الوقت لتكفّ عن تلك المشاعر الحمقاء، من أجلها هيَ أولًا.
لهذا، تجاهلها عمدًا، و ركّز فقط على المهام الملحّة، مثل مشاركة المعبد بالمعلومات حول اضطراب الوحش الأخير.
“ما الذي جاء بكِ؟ لا أظن أن هناك ما يسبب لكِ الضيق في القصر.”
“لم يكن هناك أي ضيق… فقط، أنا و خادمتي كنا ننوي زيارة قصيرة إلى حيّ التجارة في العاصمة، فـأردت أن أطلب الإذن مسبقًا.”
“و هل مثل هذه النزهة بحاجة إلى إذن رسمي؟”
“كنت أنوي استلام الغرض المُخصّص لصاحب السموّ الأمير الإمبراطوري… كما أردت زيارة شارع مايا أيضًا.”
شارع مايا، المُسمّى تيمنًا بالإمبراطورة التي حظيت بمحبّة خاصة من الإمبراطور، كانت منطقةً تحظى برعاية شخصية منه، و لهذا عُرف بأن المتاجر هناك ليست مما يُمكن أن يقصده النبلاء العاديون بسهولة.
نظر إيزر إلى الراعية عبر غطاء الرسالة.
تبا…
بدت أكثر إشراقًا من ذي قبل، و كأنها خرجت من شرنقتها لتتحوّل إلى فراشة تنشر أجنحتها في ضوء الشمس.
كاد أن يسأل إن كانَ السير دريك سيرافقها بصفته المرافق، و هوَ يعلم مسبقًا ما ستكون عليه الإجابة.
في هذه المرحلة، قد ينتهي بي الأمر حتّى إلى تعنيفه على بقائه أعزبًا!
كانَ هذا سخيفًا بحق. و معَ ذلك، كما عزم سابقًا، توجّه إليها بلهجة صارمة:
“ما أوقحكِ بالذهاب إلى مكانٍ كهذا.”
“آه…”
“زيارة مثل هذا المكان لن تنتهي إلا بصفعةٍ على وجهكِ عند الباب… كونكِ ابنةً غير شرعية.”
“…”
“بدلًا من أن تجرّدي نفسك من الكرامة أمام العاصمة، توجّهي فقط إلى ما هوَ ضروريّ.”
شعورٌ بالغثيان المُرّ صعد من داخله معَ كل كلمةٍ نابية، و راح يُمزّقه من الداخل كلما وجّه سُخرية نحوها.
إن كانت تُريد فساتين أو حليًّا و هيَ داخل القصر، فـبإمكانها استدعاء التجّار متى شاءت ليُحضِروا لها ما تشاء، حتّى تلك التي تُحاكي أسلوب دينيب المزعج… أو قلاداتٍ من الزبرجد تشبه لون عينيها…
تقطّب جبينه، و أضاف بلهجة أقسى:
“اخرجي. و لا تعودي إليّ ما لم أطلبكِ.”
“حسنًا…”
انحنت الراعية انحناءة عميقة، ثم غادرت الغرفة بصمتٍ تام.
و حينَ أُغلق الباب خلفها، بلع إيزار مرارةً لم تكن جديدة.
“آه…”
ألمٌ كانَ يظن أنه نسيه عاد يزوره من جديد، يترافق معَ شبح ذكرى لوالده… ذاك الرجل الذي كانَ، ذات ليلة، يحتسي الخمور لا بقصد التسلية، بل لينسى.
في حالٍ مزرية لا تُحسَد…
رغم أن والده سيظل قدوته للأبد، إلا أن السير على نفس الطريق نحو الهاوية لم يكن خيارًا واردًا.
لم يكن إيزار من محبّي الكحول، لكنه في تلك اللحظة… شعر برغبةٍ عارمة في الشرب.
و كأن كأسًا واحدة قد تخلّصه من فوضى قلبه.
—
—
و بعد أن طُردت من غرفة إيزار، سارت فريسيا بصمتٍ في أروقة القصر، قبل أن تتمتم لنفسها:
“يبدو أنني مدينةٌ باعتذارٍ لـ ثيا.”
كانت ترغب بردّ الجميل لها، و لو بجولةٍ ممتعة في بعض الأماكن. و لم تُنكر أنها هيَ الأخرى أرادت خوض تجارب جديدة.
صحيح أن أهم ما كانت تطمح إليه هوَ أن يُبدي إيزار شيئًا من الحزن بعد موتها، لكن الهجوم الوحشي الأخير… و طلب ثيا البسيط، غيّر شيئًا ما في أعماقها.
في العام القادم… لن أكون هنا بعد الآن.
أولئك الذين قُتلوا في هجوم الوحش… هل كانوا يتخيلون أن تلك ستكون نهايتهم؟ الموت في هذا العالم يأتي دون سابق إنذار، و بأبشع الأوقات.
‘لذا، أن يعرف المرء موعد نهايته… لعلّه نعمة، بطريقةٍ ما.’
لذلك، أدركت مجددًا أن لتجربة الحياة حتّى اللحظة الأخيرة معنى عميقًا… أليست الذكريات هيَ ما يظل محفورًا حتّى في آخر لحظات الروح؟ لكن…
<من الواضح كم تُثقل هذه المرأة كاهل هذه العائلة.>
<ما أوقحكِ بالذهاب إلى مكانٍ كهذا.>
لأوّل مرة منذ أن وُلدت من جديد، شعرت و كأنها تُركت تمامًا… كما لو أنها قد طُرِدت و أُلقي بها إلى الشوارع.
رُبما، مهما بذلت من جهد، لن يبقى لها شيءٌ في النهاية.
و معَ ذلك، كانَ هذا اليأس مصحوبًا بشعورٍ أشد… شعورٌ بالخطر.
‘اللورد إيزار بات يرفض الدعوات أكثر من حياته السابقة…’
التعليقات لهذا الفصل " 47"