بل كانَ منشغلًا بردّة الفعل الغريبة التي شعر بها حينَ تصافحا.
“لقد بدا ذلك بالتأكيد كـأثرٍ سحري…”
و من خلال تعابير دوقة أركتوروس آنذاك، كانَ من الواضح أنها لم تكن على علمٍ به.
و لكن إن كانت هناك قدراتٌ خاصّة قد ظهرت لدى أحد نسل “أنتاريس” الذي طالما انقطع، فـذلك يُعدّ حدثًا بالغ الأهمية.
“لهذا فقط أُريد التواصل معها!”
زوجها كانَ لا يُطاق و بالغ التعقيد، لذا فإن اختلاق عذرٍ لزيارتهما كـثنائي بدا أمرًا سخيفًا.
لقد نسي حتّى كيف أنه قطف التوت لزوجته، و معَ ذلك… أن يقوم دوق أركتوروس بضرب معصمه بتلك الطريقة… فهذا وحده يروي الحكاية!
“أه…”
تنهّد ألبيريو مُتأفّفًا من ذكريات تلك اللحظة، ثم تمدّد بغير اكتراث على أرض برج الأجراس.
“حسنًا، إن كُنتَ وسيمًا، يُمكنك أن تكون طائشًا بعض الشيء؛ فـالجميع يعلم أن ذلك يُضيف سحرًا…”
“تبًّا.”
لم يشغل باله لقاء امرأة من قبل بهذا الشكل.
فهو في العادة، كـالزهرة، تأتيه النساء كما النحل. لكن يبدو أن هذا القانون لا ينطبق على امرأة اسمها نفسه زهرة…
“كيف لا يُذكر اسمي و لو لمرة واحدة في رسائلها…؟! ألا يوجد أيّ مبرّرٍ للتواصل هكذا؟”
تسعة أعشار تلك الرسالة كانت شكرًا لوالديه، و لم يُذكر هوَ إلا بالكاد بسطرٍ أو سطرين. و في النهاية، كانَ ألبيريو قد عاد إلى العاصمة قبل عودة عائلته.
إن بقي هنا، فـسيعلم بوصول قافلة أركتوروس حالما يصلون.
و فيما هوَ يتنهّد للمرة الألف، جاءه صوتٌ مفعم بالضحك من خلفه:
“سير ألبيريو، ماذا تفعل هنا؟”
“سـ…سموّ الأمير! “
هبّ واقفًا بسرعة عن الأرض التي كانَ مستلقى عليها.
رجلٌ ذو شعرٍ كريميّ فاتح يصل حتّى كتفيه، مربوط بشكلٍ رخو، كانَ يبتسم بلُطف.
ابتسامةٌ ليست في شفتيه فـحسب، بل كانت تتلألأ في عينيه الخضراوتين العميقتين أيضًا، ما جعله يبدو بعيدًا تمامًا عن كونه إمبراطور المستقبل لهذه الإمبراطورية، خاصة بملابسه العادية والبسيطة.
“صاحب السموّ الإمبراطوري…! ما الذي أتى بكم من دون أيّ حاشية—”
“لقد كانَ الفارس يشتكي منك بصخبٍ شديد، فـجئتُ دون أن أجد وقتًا لاصطحابهم.”
“…”
“إن استمررت بهذا التسيّب، فـسيصعب عليّ حمايتك.”
انحنى ألبيريو في اعتذار، متذكّرًا تلك النوبة التي دفعته للهروب إلى دوقية دينيب.
“أعتذر… يا سموّ اللامير.”
“لا بأس. طالما أن نتائج البحث جيّدة، فـكلّ شيءٍ مغفور.”
تمكّن ألبيريو من إخفاء تقطيبة وجهه بأسلوبٍ يليق بنبيل. فـ”البحث” ذاك كانَ في الواقع سبب هروبه من منزله من البداية، و الذي قاده للقاء الدوقة…
الإمبراطورية لطالما مجّدت فنون القتال، و كانَ يُنظر إلى الرجل الذي لا يحمل سلاحًا كأنه لا يملك شي بين ساقيه.
لكن الإمبراطور كانَ قد حظر تمامًا على حفيده الإمبراطوري المشاركة في أيّ أحداث عنيفة بسبب تمردٍ وقع في الماضي القريب، مما جعل الأمير ينشأ أقرب إلى الكتب من السيوف.
بالإضافة إلى ذلك، فإن قامته الطويلة، و جسده النحيف، و ملامحه المصقولة، كلها كانت تُضفي عليه هالة أرستقراطية علمية.
رُبما لهذا السبب، كانَ الناس يتسرّعون في الحكم عليه بالضعف، و يُلقون عليه نظراتٍ حاقدة.
في خيالهم، كانَ اليوم الذي سيتمكّنون فيه من التلاعب بالإمبراطور الجديد قادمًا لا محالة…
ضحك ألبيريو في سرّه من تلك الأوهام الساذجة.
‘يبدو أن الجميع يُعاني من ضعفٍ في البصر.’
لكن ريغيل ما لبث أن أسدل ابتسامته، ليوبّخ ألبيريو بجدية و نبرة لا تحتمل التهاون.
“السير ألبيريو، أدرك تمامًا أن هذا البحث شاقٌ و عسير، لكن عليك أن تكون أكثر حذرًا في تصرفاتك من الآن فصاعدًا.”
فـأجابه ألبيريو بانحناءة خفيفة و صوت متهدّج فيه شيء من الخجل:
“سآخذ كلماتك على محمل الجد…”
صمتٌ قصير أعقبه استئناف ريغيل للحديث، بنبرة تنبش ما وراء المجاملة:
“و الآن، لنكن صريحين… إلى أين وصلتم؟”
أطرق ألبيريو رأسه قليلًا قبل أن يجيب:
“لقد تمّ ترسيخ المبادئ الأساسية، و نحن الآن في طور التنقيح المتواصل للأجزاء المعيبة.”
رفع ريغيل حاجبه بانتباه، ثم مال برأسه قليلًا و هوَ يحدّق في ألبيريو نظرةً فاحصة.
“و هل سيكون قابلًا للاستخدام فور اكتماله؟”
ردّ ألبيريو بصوت منخفض، كأنما يعتذر عن تقصيره:
“أشعر بالحرج أن أقرّ بذلك، لكن رغم استنباط المبادئ النظرية، إلا أننا لا نزال بحاجة إلى ضخ كميات هائلة من المانا باستمرار لنرى أي نتيجة ملموسة.”
زمّ ريغيل شفتيه في امتعاضٍ خافت، ثم سرعان ما ارتسمت على محيّاه ابتسامة خفيفة هدّأت من حدّة التوتر.
“فهمت، هذا النوع من الأبحاث لا يحتمل العجلة، و إلا كنّا سنقع في أخطاء لا تُغتفر.”
“سأبذل قصارى جهدي، سموّ الأمير… و لكن…”
تردّد ألبيريو لبرهة، إلا أنّ النظرة التي رماه بها ريغيل ــ و التي بدت كأنّها تقول “قل ما في صدرك” ــ منحته الجرأة الكافية ليُكمل:
“هل لي أن أجرؤ و أتساءل… لماذا تأمرون باستخدام هذا النوع من السحر؟”
“…”
“أخشى أن المعبد لن ينظر بعين الرضا إلى هذا الأمر.”
ابتسم ريغيل ابتسامة مريرة، و كأنّه كانَ يتوقع هذا السؤال تمامًا. فـمن منظور المعبد، الذي يستغل القوى المقدّسة في جني الثروات الطائلة، لن تكون خطته موضع ترحيب بلا شك.
لكن ريغيل لم يكن يتحرك بإيعاز من رضاهم، بل لسببٍ واحد لا يقبل المساومة.
“أنا على يقين بأن ابتكار نظام ينفع عامة الناس هو الصواب بعينه.”
“كما تأمر، سموّ الأمير.”
“سأتأمّل الجانب المتعلّق بالسحر لاحقًا… لكن تذكّر، لا مزيد من الهروب من الآن فصاعدًا.”
راقب ريغيل ألبيريو و هوَ يبتلع تنهيدةً مريرة، فـابتسم بخفة و ضحك ضحكة قصيرة خافتة.
و في تلك اللحظة تمامًا، بدأت أبراج المراقبة المحيطة بعاصمة غاليتيا ترفع الرايات الحمراء واحدةً تلو الأخرى.
و بينما انفتحت ملامح ألبيريو بالدهشة والفرح، هتف بلهفة:
“إنهم—!”
لقد دخلت قافلة أركتوروس العاصمة أخيرًا.
—
255
تحت وهج الشمس، لمع عقد الزرّ المثبّت على عنق فريسيا ببريق خافت، كأنّه يهمس لها بمقدار ما تبقى من عمرها.
رغم هجوم الوحوش، فقد وصلوا إلى العاصمة دون تأخير يُذكر، بفضل إيزار الذي نظّم القافلة وأجبرهم على مواصلة المسير دون كلل.
الشهران القادمان سيكونان زاخرين بالاحتفالات و المناسبات.
و قد بدأت بالفعل أعمال التجديد في القصر الواقع بالعاصمة، تماشيًا معَ توجيهات أليكترا التي أصدرتها منذ زمن، دون أن يخطر لأحدهم أن يسأل فريسيا عن رأيها، أو أن يبدي أدنى فضول تجاه ما تفضّله أو تكرهه.
فـلن يتبدّل هذا الإهمال الجليّ إلا إن حققت أمرًا عظيمًا يجعل وجودها ذا قيمة.
كل ما عليّ فعله هو الصمود حتّى مهرجان الصيد.
كانت تخشى أن تقودها أمنياتها إلى خيبة أمل، لذلك امتنعت عن التطلّع لما قد يحدث بعد نجاتها من حادثة مقتل حفيد الإمبراطور.
لكن لا بد أن الأمور ستكون أفضل ممّا هي عليه الآن. و حتّى إن ظلّت “الدوقة اللقيطة” كما يلقّبونها، فـلربما تُعامل ببعض الإنسانية في أيامها الأخيرة…
“سيدتي…”
“نعم؟”
اقتربت ثيا بخطى خفيفة من فريسيا، بعد أن أنهت ترتيب الأمتعة. كانت عيناها مليئتين بالتوق، و ابتسامتها تنضح بخبثٍ لطيف لا يخلو من الدهاء.
“كنت على وشك الخروج… لأتفقد إن كانت تلك… النظّارات؟ قد تمّ تجهيزها.”
“و؟”
“هل تودّين مرافقتي إلى السوق، سيدتي؟”
“همم…”
“المدينة هنا ممتعة أكثر بكثير من أركتوروس! و أنا أعرف كل الزوايا والأماكن الجديرة بالزيارة!”
“هممم…”
“ثم إنك تحتاجين إلى تصميم ثوب جديد، أليس من الأفضل أن تريها بعينيك؟”
رغم أسلوبها المُنمّق، فإن فريسيا لم تجد صعوبة في إدراك رغبة ثيا الحقيقية، فـابتسمت ابتسامة جانبية ساخرة.
لا شك أن ثيا أرادت الدخول إلى أماكن أعلى شأنًا من تلك التي يُسمح للخدم بدخولها. أرادت ببساطة أن تجرّب عالمًا آخر.
لكن، هل سيرحب بي ذلك العالم أصلًا؟
فكرت فريسيا برفض العرض. فـلم تكن مهتمة بالحصول على ثوب، إذ كانت تلك أدنى أولوياتها.
غير أن نظرة الرجاء في عيني ثيا جعلتها تتراجع.
لم تكن فريسيا تنوي أبدًا أن تفتح قلبها لثيا خلال ما تبقّى من حياتها. فـفي حياتها السابقة، كانت ثيا مجرد عبء، و الآن لا تزيد عن كونها خادمة بيعت ولاؤها بشرائط الحرير و القلائد.
و لو أن السيدة أليكترا مارست بعض الضغط، فإن ثيا لن تتردد في خيانتها.
لكن، هل يمكن حصر علاقتنا ضمن هذه الحدود فقط؟
في عالمٍ يُرمى فيه حتّى الأطفال، و يُدفع بالبشر ليكونوا طُعمًا للوحوش، لم تقم ثيا بدفع سيّدتها اللقيطة لتكون درعًا بشريًا أمام الموت…
و إن كانت حقيقة الإنسان تُكشف حينَ يواجه حافة الهلاك، فـربما لم تكن طبيعة ثيا ملوّثة كما ظنّت فريسيا.
“حسنًا… لنستعد للخروج.”
“حقًا؟! شكرًا لكِ، سيدتي!”
“أمّا عن الدوق، فـ…”
توقفت فريسيا عن الحديث فجأة، و أطبقت شفتيها دون إكمال الجملة.
ما إن وصل إيزار إلى مقرّ الإقامة، حتّى استعاد بروده المعتاد، و انصرف دون أن يمنحها حتّى وداعًا عابرًا.
هاه… كنت أظنّ أن ما حدث خلال هجوم الوحوش قد يُغيّر شيئًا.
مهما حاولت التفكير، لم تكن قادرة على فهم زوجها البالغ من العمر ثلاثة و عشرين عامًا. فـفي يوم، تلوح في عينيه مسحة دفء خافتة، و في اليوم التالي، يرمقها بنظرة حادّة تكاد تخترق صدرها.
و حينَ تكون مشاعر الآخر متقلّبة، فإنها سرعان ما تتحوّل إلى جرح مباشر.
و إذا أبى الإفصاح بالكلمات، فـلن تملك فريسيا وسيلة لفهم ما يدور في داخله، و كُلّ ما ستجنيه هوَ مزيدٌ من الألم.
كنت فقط أرغب في إرسال ثيا لإبلاغه بأنني سأخرج، لكن…
لكنها، ما إن وقع نظرها على الرقم 255، حتّى عضّت شفتيها لتمنعها من التراجع، و استجمعت شتات نفسها.
“سأتولى الحديث معه بنفسي، ريثما تخبرين السير دريك، أرجوكِ.”
التعليقات لهذا الفصل " 46"