ما إن لامست يد الراعية، لا… يد فريزيا وجنته، حتّى جفَّ فم إيزار. ألم يشهد مشهدًا كهذا في أحلك كوابيسه؟ حينَ تطلّعَت إليه هذه المرأة من الأسفل بعينين دامعتين، و هيَ تلامس وجنته ببطء؟
راح عقله يترنّح معَ كل لمسة من أصابعها، التي باتت أضعف مما يتذكّر، و هيَ تمسح برفقٍ عن بشرته أوساخًا لا تُمحى، تَمرُّ بكفها على وجنته في حنوٍّ عميق.
لطالما اعتقد أن ذلك الحلم لم يكن سوى تنفيسٍ لرغبة شهوانية. مُجرّد نزوةٍ طبيعية تنشأ حينَ يضمّ أي رجل امرأةً ترتدي ملابس رقيقة.
و لسببٍ ما، صادف أن تكون هذه الراعية هيَ من اشتعلت فيها شرارة تلك الرغبة.
لكن… إن كانَ ما يشعر به مُجرّد رغبة جسدية،
فـلِمَ بدا و كأنه غارق بغباء في عينيها؟ و لِمَ اجتاحه طمعٌ جارف في أن يمتلك بريق تلك العينين النقيّتين إلى الأبد؟
حاول إيزار أن يشيح بنظره بعيدًا عن تلك العينين الخضراوتين المرتجفتين، و وبّخ نفسه في سرّه:
‘أنا.. ؟ ما هذا السخف.’
و لكن، كلما زادت تأنيباته لنفسه، ازداد شعوره بالحماقة. ألم يكن كـمن يتظاهر بالصلابة أمام الراعية؟ كـصبيّ يزهو بنفسه ليثير إعجاب فتاة؟ كـمن يتصنّع الشجاعة؟
“أنا أعلم… أنك بخير.”
“أنا فقط… كنت قلِقة.”
غير أنه للحظة، نسي أن صوت هذه المرأة كانَ مغويًا بقدر نظراتها. كل كلمة نطقتها، رغم بساطتها، بدت مثيرة للدهشة في أذنه. و الدفء الذي تسلّل من كفها إلى وجنته، بدا غريبًا…
غريبًا و مُخيفًا… و معَ أنها لم تمسّه إلا لمسة واحدة، بدا و كأن حرقًا خفيفًا ترك أثره عليه.
لم يسبق لأحد أن لامسه هكذا من قبل. لطالما كانَ هوَ المتحكّم بكل شيء، دوق أركتوروس، منذ بلغ سن الرشد.
‘رُبما كانت هناك أوقات دافئة كهذه…’
لكن إن كانت تلك الأوقات بعيدةً إلى هذا الحد، فـربما لا يَجدر بها أن تُعدّ موجودة أصلًا.
تشنّجت الأوردة في ظاهر يده التي كانت تمسك بكاحل فريسيا، ماذا لو مال قليلًا نحوها؟ في هذه العربة الضيقة، وحدهما؟ هل يمكن أن يقتربا بما يكفي لتبادل قبلة… كما في الحلم؟
و إن فعلا؟
و لو للحظة، نسي المنطق، و تجاهل الواقع الخارجي…
“دوق…؟”
لكن، معَ ارتجاف شفتيها، تراجع ذلك الدفء الذي كانَ يزحف في جسده، الدوق… صحيح، هوَ دوق أركتوروس، منذ ولادته و حتّى مماته.
و هذه المرأة… ليست سوى ابنة غير شرعية.
وصمة في نسب إحدى العائلات النبيلة… تمامًا كـأخيه غير الشقيق الذي يكرهه، و المُخبّأ في مكانٍ ما من هذا العالم…
‘ابنة زنا.’
ما إن خطرت الفكرة في ذهنه، حتّى انتفض واقفًا فجأة، الأنامل التي كانت تلامس وجنته، لم تخلّف وراءها سوى حرارة صامتة، و سرعان ما ابتعدت.
“هل… كل شيءٍ آخر على ما يرام؟”
“ها؟ آه، نعم…”
تمتمت فريسيا بردٍّ متلعثم، لكن إيزار لم يصغِ لها، و غادر العربة بدفعة قوية بقدمه.
لا يزال هناك الكثير مما يجب ترتيبه، و قد انتهى من معالجة الجرح. فـلِمَ إذن كانت خطواته ثقيلة إلى هذا الحد؟ كأن خيطًا خفيًا يربطه بتلك العربة، يشدّه للخلف، و يمنعه من المضيّ قُدمًا.
“هاه… “
راح يمسح وجهه مرارًا بكفّه، يتنفس كما لو أنه خرج لتوّه من حوض ماء ساخن، بينما كانَ البرد يتسلّل إلى جلده.
“عليّ الوصول إلى العاصمة… في أقرب وقت ممكن.”
رغم أن الهجوم الوحشي قد أثار ذعر الجميع، إلا أن ما دفعه للاستعجال لم يكن هو، بل الحاجة المُلحّة لإرسال هذه المرأة بعيدًا… بعيدًا عن عن ناظريه، قبل أن تتحوّل هذه المشاعر التي تشبه الشهوة… إلى شيء أعمق، و أشدّ خطرًا.
—
الخادم الذي تجرأ على دفع و أسقاط “الدوقة غير الشرعية” تم القبض عليه على الفور.
و رغم أنه أصرّ على أنه لم يدرك هويتها في الظلمة، قائلاً إنه لم يعلم أن “تلك” المرأة هيَ الدوقة… إلا أن عذرَه لم يُجدِ نفعًا. إذ لم تكن هناك امرأة أخرى ذات مكانةٍ مماثلة في ذلك المكان، لذا لم يكن ذلك سببًا كافيًا لدرء العقوبة عنه… أو لإنقاذ حياته.
في النهاية، تمزّق جسد ذلك الخادم على يد الوحوش، و دُفن إلى جانب خادم آخر قضى نحبه سابقًا. مثل هذه النهايات لم تكن نادرة في الإمبراطورية. و عادةً، كانَ الجميع يأسفون على الموت، لكنهم يتقبّلونه كـجزءٍ من الحياة.
غير أن مشاعر الناس تجاه هذه الوفاة تحديدًا كانت مختلفة.
فـالوحش الذي ظهر حينَ خُفِّضت الحراسة لم يكن عاديًا، بل كانَ مخلوقًا هائلًا يرعب النفوس.
و قد أثار قرار إعدام أحدهم بهذه السرعة فقط بسبب “شخص غير شرعي” مشاعر استياء خفية بين أفراد القافلة. حتّى الفرسان الشباب، الذين تولّوا مهام الحراسة، أخذوا يتهامسون فيما بينهم.
“أيمكن أن يكون السبب من ذلك الطرف…؟”
“أي طرف؟”
“ظهور الوحوش فجأة هذه المرة…”
ألقى أحد الفرسان الشبان نظرة خلفه و أومأ بذقنه، مشيرًا نحوَ العربة. فـبينهم، لم يكن يُسمَح بركوب العربة سوى لأعلى النساء مقامًا… لكن لم يكن أحد يعامل من بداخلها على أنها “سيدة” فعلًا.
“هاه، مستحيل.”
“لكن لا بُدَّ من سببٍ لهذا الكم من الأحداث الغريبة، أليس كذلك؟”
رُبما كانَ السماح لشخص غير شرعي بالدخول إلى بيتٍ نبيلٍ انتهاكًا لشرع الإله… و رُبما كانَ هذا الغضب الإلهي، عقابًا لتجاوز القواعد المقدّسة.
كانت فكرة لا يمكن إثباتها، لكنها في مثل هذه الفوضى، بدت مريحة بشكلٍ خبيث.
و معَ ذلك، كانَ هناك سببٌ واحد يجعل من الصعب على الفرسان تبنّي هذه الفكرة أو التحدّث بها علنًا.
“لكن، ألم يكن الدوق بنفسه من اعتنى بها؟”
“بل إنه عاقب السير دريك، قائلاً إنه لم يتمكن من حمايتها.”
كانت الأوضاع فوضوية و مظلمة، لكن من الصعب ألا تُلاحظ أحداث كهذه. كانَ معروفًا بين الجميع أن إيزار قد احتضن تلك الزوجة غير الشرعية و اعتنى بكاحلها المصاب.
حتّى و إن كانَ ذلك في إطار اللباقة، أليس جوهر العلاقة بين الرجل و المرأة في النهاية تقرُّب الأجساد؟
“آه، هل يعقل فعلًا؟ إنها ليست حتّى السيدة آتريا، الدوقة المستقبلية.”
“همم… و لكن معَ ذلك…”
عاد الفرسان يرمقون العربة بنظرات متشككة.
حينَ أُحضرت أول مرة من العاصمة، كانت تبدو حقًا عادية لا تُلفت الانتباه. فقد أنهكها العمل المتواصل، و حرقة الشمس، و الفقر، فـغدت أشبه بهيكلٍ عظمي متعب.
لكن، رُبما لأنها ابنة امرأة مجنونة كانت ذات يوم جميلة؟ لم تكن بشرتها ناعمة بيضاء كـنساء البلاط، و لم يكن جسدها ممتلئًا ملفتًا، و معَ ذلك، فإن ملامح وجهها بدت كـجنّية تراقب بصمت من عمق غابة قديمة… و تركت أثرًا لا يُنسى.
جسدها لم يكن ممتلئًا بل نحيفًا، و بشرتها المرنة بدت واضحة حتّى من تحت الثياب الرقيقة.
و تلك الهالة النقية المنبعثة من ملامحها الدقيقة، كانت قادرة – إن استُغلّت جيدًا – على أسر قلوب الكثير من الرجال. إذ يمكنها أن تبدو بريئة نهارًا، ثم تتحوّل إلى فاتنة مبهرة داخل الغرف المغلقة…
“رُبما… أُغرم بها سيدي بالفعل؟”
“هممم.”
و بينما كان الفرسان يتلذذون بهذه التخيلات المتهوّرة، دوّى صوت تأنيب حاد من خلفهم.
“ما الذي تتحدثون عنه هناك؟”
“سـ – سير كارولي!”
“حينَ يُطلب منكم التيقّظ، تنسون الانضباط؟”
تصلّب الجميع في أماكنهم و بدأ العرق يتصبّب من جباههم.
اللعنة، إنه تشارلز كارولي، المقرّب الشاب من الدوق. كـالثعلب الذي اعتلى القيادة بغياب الأسد، كانَ الفرسان الصغار يتحسّبون لهذا الرجل بالذات.
“نـ-نعتذر، سيدي!”
“الدوق يريد الوصول بأسرع وقت، فـكونوا على يقظة تامة و راقبوا المناطق المحيطة، مفهوم؟”
“نعم، سيدي!”
و بينما ظلّوا يعتذرون، تنفّسوا الصعداء داخليًا.
‘لحسن الحظ، أنه ليس السير دريك.’
لو أن فين قد سمعهم، لكان مصيرهم العقوبة القاسية بلا شك.
‘و بما أن السير كارولي لم يقل شيئًا… فـلعله لم يسمع.’
لكن، و على عكس ارتياحهم، كانَ تشارلز قد استمع إلى همساتهم منذ البداية. بل كانَ يتعمّد استخدام كلمات الآخرين، ليمتصّ شكواهم دون أن يتّهمهم صراحة.
رمق المكان الذي كانوا يتهامسون فيه بنظرة حادّة.
‘قال السيد إنه لم يقضِ الليلة معها…’
حينَ سُئل إيزار عن الأمر، اكتفى بنظرة توحي : (و لماذا تسأل؟) لكن تشارلز، الذي لازمه لسنوات، لم يكن ليكذب عليه.
ما الحاجة إلى الإنكار إن كانَ قد أخذ امرأة لنفسه؟
في أي طبقة حاكمة، من الطبيعي أن يتّخذ الرجل امرأة للمتعة إن أراد.
و لو لم يكن ذلك الأمر يلمس وترًا حساسًا لدى إيزار، لربما حدث منذ زمن.
‘لكن أن يُسحر بسبب تلك النكرة… فـذلك مختلف تمامًا.’
في البداية، حين لاحظ أنها تعرف “كيف تُعامل سيدة”، ظنَّ أنَّ تلك اللقيطة استثناء بسيط…
‘لكن بعد التمعّن، أليست ماكرة ماجنة؟’
خاصةً في هذا الوقت الحرج، أن تتسبّب في إشراك إيزار و أخذه إلى مقاطعة دينيب…
منذ البداية، كانت تلك الثعلبة التي زرعت الفتنة بين سيّدة القصر و إيزار، غير مُحبّبة له.
‘سير تشارلز، أنت وحدك من أستطيع الوثوق به الآن.’
حينَ أخبر سيدة القصر أن “تلك المرأة قضت الليلة في غرفة السيد”، بكت و توسّلت.
نساء آل كارولي كنّ دائمًا وفيّات لعائلة الدوق، و قد نلن جميعًا فضل السيدة إلكترا.
أن تُعامَل تلك المرأة كـرهينة ثمينة، و تُفصل قسرًا عن مصيرها الطبيعي بصحبة تلك النكرة… لهو ظلمٌ لا يُغتفر.
<لن أتمكن من مرافقتكم إلى العاصمة هذه المرة… لكن أرجوك، تأكد أن إيزار يسلك الطريق الصحيح.>
<هل ثمة شك في ذلك، سيدتي؟>
<و إن حدث، إن أساء التصرف حقًا… فـهل ستساعده؟>
فكّر في الصندوق الخشبي الصغير الموجود داخل أمتعته، ثم أطبق شفتيه بجمود قاتم. مثل هذه الأفعال لا تليق برجل… لكن، و في أسوأ الحالات، سيكون عليه أن يتدخّل.
ليضمن ألّا يظلّ أركتوروس يحمل وصمة العار بسبب امرأة لقيطة، كما كانَ السيّد يرغب منذ البداية.
—
عاصمة إمبراطورية سيليستيكا، “غاليتيا”، كانت أكثر ضجيجًا من المعتاد بسبب اقتراب موعد المهرجان.
العائلات النبيلة التي تتمركز في المقاطعات بدأت تفتح أبواب قصورها المُزيّنة حديثًا في العاصمة، بينما كانت المناسبات الاجتماعية بين الأصدقاء تضجّ نشاطًا في القصر الإمبراطوري.
غير أن هناك مكانًا واحدًا بدا و كأن هذا الجوّ الحيوي قد خفت فيه قليلًا، و هو أكاديمية السحر الإمبراطورية، الواقعة تحت القصر مباشرة.
كانَ المبنى، ذو الأسطح المثلثة الحادة، بلون نحاسي عتيق. و قد غطّت جدرانه نباتات اللبلاب التي التهمت الحجر معَ مرور الزمن، ما كان يكشف بسهولة عن قِدم تاريخه.
لا يهم من أي نافذة نظرت، كانَ الهدوء يخيّم على المكان، بين أولئك المنهمكين في مطالعة الكتب القديمة. لكن، في الأيام القليلة الماضية، كانَ هناك رجل ذو شعر ذهبي كـلون الشمس يتنهّد بعمق من أعلى برج الأجراس.
“آه…”
تمتم ألبيريو بتذمّر، بنبرة لا تليق بسنّه، إذ كانت ملامحه مشرقة لدرجة جعلته يبدو أصغر بكثير.
“متى سيصلون؟”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 45"