قبل أن تتمكّن فريسيا أو أيّ شخصٍ آخر من الإمساك به، دوّى صراخٌ حادّ و صوت سحقٍ رهيب تردّد في الهواء.
و في لحظة، توهجت عيون صفراء وسط العتمة.
ثُمَّ انطلقت الوحوش الشاحبة كـالسيل من قلب الظلام.
“آه!”
“سيّدتي!”
و قبل أن يتمكن فين من الوقوف كـدرعٍ بينها و بينهم، اصطدم بها أحد الفارّين، فـاصطدمت كتفها و سقطت أرضًا.
ثُمَّ داست قدمٌ مسرعة على فخذها، فـخرج منها أنينٌ مكتوم مؤلم.
لكن و في غياهب الظلمة، لم تستطع فريسيا أن تستوعب ما يجري حولها و هيَ تتدحرج على الأرض، بل حتّى شعرت بذرات التراب تدخل فمها، تقطع أنفاسها للحظة وجيزة.
و معَ ارتباكها، انبثق صوتٌ مألوف يناديها بإلحاح:
“سيّدتي! هل أنتِ بخير؟”
“ثيا…؟”
تعلّقت فريسيا باليد التي رفعتها عن الأرض، و استعادت وعيها شيئًا فـشيئًا. كانَ جسدها يئنّ من الكدمات، لكن لحسن الحظ، لا عظام مكسورة.
“ثيا… أين الآخرون؟ أين نحن؟”
“الجميع ينسحب الآن، و السير دريك يحاول صدّ الوحوش، لكن-“
بُتر كلام ثيا فجأة.
فـمن بين الأشجار الكثيفة، برزت عيون لم تُرَ من قبل، تومض بضوء شرير. ستّ كرات متوهّجة تشعّ كأقمارٍ نحسة في عمق العتمة.
وحشٌ على هيئة ذئب بلونٍ فضيّ مائل للبياض، ينفث من حوله رعبًا يكفي لِـيُسقط الإنسان على ركبتيه دون مقاومة.
تشنّج جسد ثيا و هيَ تشدّ على فريسيا، و راحت ترتجف من شدّة الذعر.
“سي… سيّدتي…!”
لم تكن هذه سوى المرّة الثانية التي ترى فيها فريسيا وحشًا عن قربٍ كهذا.
كادت ذكرى قديمة و مرعبة أن تنهش عقلها، لكنها استجمعت قواها بصمت.
‘ما الذي يمكنني فعله…؟ لا يوجد شيء يمكنني الإمساك به أو رميه عليه.’
الرجم… لم يكن لينفع سوى معَ جبين ألبيريو دينيب، أما الأحجار التي لم تُبارك، فلا يُرتجى منها قوةٌ قاتلة.
‘لو أنّي أملك العصا التي كنت أستخدمها حين أرعى الأغنام…’
كانت لتُسعفها في هذه اللحظة. كانَ بإمكانها أن تطعن بها إحدى عينيه، أو تدسّها في فمه لتفاجئه، و تغتنم الصدمة للهرب…
لكن الوحش… كانَ قد اقترب بالفعل.
ظنّت ثيا أنَّ الأمر قد انتهى، فـأغمضت عينيها بشدة وعضّت على شفتيها من شدّة التوتر.
رغبتها في الفرار كانت تصرخ داخل عقلها، لكن الخوف الطاغي شلَّ حركتها تمامًا.
فريسيا تصورت كل الاحتمالات، إلا أن تُقتل على يد وحش قبل أن تمضي مئتا يوم بالكاد من حياتها المتبقية… لم يخطر ذلك ببالها قط.
غير أنّه، وفي اللحظة التي تجمّدت فيها أنفاسها، بدا أن الوحش…
قد توقّف فجأة، و ظلَّ يحدّق بها دون أن يهاجم.
‘ما هذا…؟’
كأنَّ خطًا غير مرئيّ قد رُسِمَ بينهما، لا ينبغي للوحش أن يتجاوزه.
كانت وضعية تردّده غريبة، غير منطقية. ثُمَّ … استدارَ ببساطة، و اختفى في عتمة الغابة، كما لو كانَ … يهرب منها.
و في لحظة، تبخّر التوتر الثقيل الذي كانَ يخنق صدريهما، و خرّت كلٌّ من فريسيا و ثيا على الأرض، و كأنَّ ركبتيهما قد خذلتهما.
‘كيف…؟’
وحشٌ يهرب من البشر؟
يترك فريسةً حيّة على بعد خطوات منه دون أن يمسّها؟ لكن قبل أن تغوص أكثر في ذهولها، أعادها صوت باكٍ بجانبها إلى الواقع.
“سيّدتي… هل ما زلنا على قيد الحياة؟ نحن لم نمت، أليس كذلك؟”
“ثيا… هااه… رجاءً، إن لم تُفلتي يدي، فقد أموت فعلاً…”
تألّمت فريسيا من شدة قبضتها، متأففة من الألم في كتفها.
أي خادمة تلك التي تتمسك بسيّدتها كما لو كانت طوق نجاتها؟
‘لكن بالنظر إلى ما مررنا به، لا ملام عليها.’
و بينما كانت تلتقط أنفاسها، خفتت عواءات الوحوش تدريجيًا.
و عاد العالم من حولها ليصدح مجددًا بأصوات صيفية مألوفة، حفيف الرياح، و زقزقة الحشرات، و نداءات الفرسان المذعورين.
“سيدتي!”
“سيّدتي، أين أنتم!”
راحوا يلوّحون بالمشاعل و يهتفون في الظلمة. فـنهضت فريسيا و ثيا معًا، و لوّحتا بأذرعهما بعنف للفت الانتباه.
“هل… رحلت كل الوحوش بالفعل؟”
تمامًا كما ظهرت فجأة دون توقّع، رحلت بلا تفسير، و هذه المرّة أيضًا، لم يكن الدافع مفهومًا.
ألم تكن هذه مجددًا… متغيرًا غريبًا؟
ثُمَّ خطر في بال فريسيا أمرٌ كانت قد غفلَت عنه:
‘مهلًا… لقد كانَ هناك شيء غير طبيعي أثناء تلك المطاردة أيضاً.’
وقتها، كانت غارقة في الرعب، و لم تُعر الأمر اهتمامًا، خاصّةً بعد موت حفيد الإمبراطور.
غضب الإمبراطور طغى على كل شيء، و لم تتح لها فرصة التأمل بعمق، حتّى جاءت هذه الحادثة لتوقظها من غفلتها.
لماذا ظهرت الوحوش في ذلك التوقيت، في ذلك الفصل من السنة؟
‘هل كانت مُجرّد صدفة؟’
صحيح أن الوحوش تظهر أحيانًا في مواسم يُفترض أنّها آمنة، و لذا فإنَّ حياتها السابقة تعاملت معَ الحادثة باعتبارها «حادثًا تعيسًا نادرًا».
لكن… في هذه الحياة؟
ظهرت الوحوش أوائل الصيف في دينيب، و الآن مجددًا…
أليسَ في ذلك «استثناء» صارخًا لما هو مألوف؟
فـلماذا تظهر هذه الاستثناءات مرارًا؟
‘الوحوش… كُنتُ قد تعلمت أنها مخلوقاتٌ من صنع آدمانت.’
لا أحد يعرف كيف وُلدت، أو ما الغاية منها، لا تأكل و لا تتغذى، و معَ ذلك تذبح بلا رحمة.
قالَ أحد الكهنة ذات مرة : إنّها تجلٍ لغضب الآلهة، حينَ تغرق الإمبراطورية في الفساد.
—
كانت نسائم الليل الباردة تنقل رائحة الدماء الثقيلة بعذوبةٍ مقلقة.
دماء أولئك الذين فرّوا دون تفكير من رفاق أركتوروس، و الفرسان الجرحى، و دماء الوحوش التي سقطت، امتزجت في الهواء.
كانَ كانوبوس يتذوّق هذا العطر المألوف بشيءٍ من السكون، و هوَ يحدّق من أعلى التل في القافلة المبعثرة أسفل ضوء القمر الذي تسرّب من خلف الغيوم.
و من بين كل الوجوه في الأسفل… لم يكن يركّز نظره سوى على وجهٍ واحد.
راح يمرّر أنامله على فراء الذئب الوحشي الخشن، الذي عاد ليتمسّك به بصمت.
“لماذا لم تقترب، يا صغيري؟ ألم أخبركَ أن تذهب إلى زوجة أخي؟”
نبرة صوته امتزج فيها العتاب بنفحة حنان، فأنّ الوحش و كأنّه يطلب المغفرة.
تنهد كانوبوس بامتعاض، من تمثيله الضعيف للخضوع.
“لماذا لم تقترب؟ لم يكن من المفترض أن تخيفك…”
ردًا على سؤاله، خبّأ الوحش ذيله بين ساقيه، في تصرف غريب و غير متوقع. عبسَ كانوبوس، مشوّشًا من هذا الردّ الذي جاء متطابقًا على نحوٍ غريب معَ سؤاله الذي لم يكن جادًا تمامًا.
‘الوحش… كانَ خائفًا؟’
و ليسَ من إيزار أركتوروس نفسه، بل من امرأة صغيرة، خالية الوفاض من أي سلاح؟
“همم… لكن، لماذا تخاف منها؟”
تمتم بتأمل، لكن الوحش لم يُجِب، و اكتفى بأنين خافت، عاجز عن تحديد مصدر خوفه. لم يكن يعرف السبب، فقط… غرائزه أخبرته ألّا يتجاوز تلك الخطوات القليلة نحوها.
راح كانوبوس يمرّر أنامله على فرائه، شاردًا في أفكاره.
“كنت فقط أريد التأكد قليلاً… قبل بدء المطاردة.”
أراد أن يتحقّق ما إذا كانت زوجة أخيه تمثّل حقًا نقطة الضعف التي قد تكشف ثغرة في درع إيزار.
و لهذا السبب، حينَ انتقل موكب أركتوروس من دينيب إلى العاصمة، انتظر و أطلق الوحش.
لكن، حتّى قبل أن يظهر البطل نفسه… كانَ التحقق قد تمَّ بالفعل.
ذلك الوحش رفض الاقتراب من تلك المرأة الضئيلة، التي ما تزال ترتجف حتّى الآن من خوفٍ لا تفسير له.
“آه… ربما.”
استرجع كانوبوس ما قاله لمُقرّبه ذات مرة، بأن حياته دُمِّرت بسبب أركتوروس، تمامًا كما دُمِّرت حياة غيره.
و كانَ ذلك صحيحًا… لكنه لم يكن كل شيء.
“رُبما عليّ أن أضيف شيئًا آخر لتلك الحكاية.”
تمامًا كما وُلِدَ هوَ بقوة خارقة لا مثيل لها… رُبما زوجة أخيه أيضًا خُلِقت لغرضٍ إلهيّ لا يزال مستترًا.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 43"