مُنذُ عودة إيزار من دينيب، كانَ يحرص ببراعة على الفصل بين طريق زوجة أبيه و تلك الراعية، محافظًا بذلك على هدوء مؤقّت.
لكنّ منزل الدوق كانَ منذ زمنٍ طويل تحت سيطرة إلكترا. و مهما أصدر الدوق المحترم أوامر صارمة قائلاً: «اتركوا تلك المرأة و شأنها»، فإنَّ الولاء الحقيقي ظلَّ منحازًا لإلكترا.
و هكذا، رغم تحرّكات فريسيا الخفيّة، و رغم تعليمات إيزار الصارمة، فإنَّ خبر دخولها غرفة نوم الدوق وصل في النهاية إلى مسامع إلكترا.
“مستحيل… هل سمح لها بالدخول فعلاً؟”
بالنظر إلى القصص التي وردت من دينيب، حيث تَعمّدت الماركيزة، إمّا بغباءٍ أو خبث، ألا توفر لهما غرفًا منفصلة، كانَ من الصعب تخيّل أن إيزار، ذو الطباع الباردة، قد يشعر بأدنى شهوة تجاه فتاة تافهة كهذه.
‘هذا خطرٌ حقيقي…’
إن لم تُوضع الأمور في نصابها، فقد يولد وريث آركتوروس التالي من تلك النكرة! فقد كانَ زوجها الراحل مهووسًا بزوجته الأولى، إلى حدّ أنه لم يفكّر قط بإنجاب طفلٍ منها، إلكترا، و ذلك في حدّ ذاته كانَ إهانة.
لكن تلك الإهانة لم تلوث اسم العائلة كثيرًا، بفضل الحادث “المبارك” الذي تسببّت به والدة إيزار النبيلة.
لكن أن يستمرّ نسل العائلة من خلال تلك المرأة الوضيعة…
‘لا، هذا لا يمكن أن يحدث أبداً.’
كانَ على إلكترا أن تستعدّ، و تتخذ تدابيرها، تحسّبًا لأي خطأ قد يرتكبه إيزار.
“ميروب، هل جهّزتِ الشيء الذي أرسلته الدوقة أنتاريس؟”
“نعم، سيدتي.”
قدّمت ميروب العلبة الصغيرة التي وصلت مؤخرًا من منزل أنتاريس.
الرسالة المرفقة معها كانت، كـعادتها، متعجرفة، صادرة عن أولئك الذين عاشوا طويلًا في العاصمة و ظنّوا أنفسهم قمّة النبلاء.
من كانَ يظنّ أنّ زهرة بنفسجية بريّة، بهذا الجمال، تستطيع أن تُخمِد حياةً صغيرة قبل أن تولد؟
كانَ مضمون الملاحظة المرفقة بالعلبة باردًا على نحوٍ مخيف:
[لم أستطع تكرار خطئي القديم معَ ابنتي، لذا هذه المرة، سأُقَدِّم لكِ قوّتي.]
يبدو أنَّ كبرياء إلكترا كانَ قد جُرِح بصمت، على يد والدة الراعية، ذات يوم.
و هيَ تُمَرِّر أصابعها على الزجاجات الصغيرة، تقدّمت ميروب باقتراحٍ حذر:
“أنوي أن أُوْصِي أحد خدّام المطبخ بإضافة هذا لمأكولات الفتاة… ما رأيكِ؟”
“هممم… فكرة جيدة، و لكن…”
كادت إلكترا أن تُوافق، لكنها غرقت في تفكير عميق.
رغم أن هذا المستحضر يمتلك خصائص مانعة للحمل، إلا أنه أكثر فعالية عندما تكون المرأة قد حَمَلت بالفعل.
طفل.
لن يكون هناك شيء يُمزّق قلب تلك الراعية أكثر من أن تنجبه… و تفقده.
و إن لم تحمل، فـسيجري طردها بالخزي و العار على أيّ حال.
أما إيزار … فما أكثر ما تشعر نحوه من ضغينة.
‘كرّستُ حياتي في تربيته، و في النهاية… هكذا يُعاملني؟’
يا لهُ من ناكرٍ للجميل.
رغم أنه أصغر منها سنًا بكثير، إلا أنهُ تجرّأ على معاملتها بتلك الطريقة، فقط لأنه وُلد ذكرًا.
و معَ ذلك، لم تكن تجرؤ على المساس به. فإن قرّرَ إيزار أن يكون قاسيًا، يمكنه طردها بسهولة، حتّى لو عارضه جميع النبلاء.
لكن بمُجرّد أن رأت تلك الراعية تدخل إلى غرفته…
ظهرَ بصيص من الفرص، فرصة للانتقام من الاثنين معًا.
‘سألقّن كليهما درسًا لن ينسياه.’
بعد أن اتخذت قرارها، التفتت إلكترا نحوَ ميروب:
“لا تلمسي الطعام في الوقت الحالي. إن اكتشف إيزار أنَّ الأمر بدأ من هُنا، فـستكون العواقب وخيمة.”
“آه… نعم، سيدتي.”
“سنحتفظ بالجرعة لفرصةٍ أكثر فاعلية.”
نظرت إلكترا إلى القارورة مرةً أخرى، و ابتسمت.
ابني العزيز…
ليتَك، مثل والدك، تُصبح أحمقًا، أسيرًا لرغباتك أمام امرأة لا تستحقك.
و فجأة رفعت رأسها، و أصدرت أمرًا جديدًا لميروب…
“آه، و لا تنسي أن تنقلي لهم شكري… قولي لهم إنهم قاموا بعملٍ جدير بالثناء.”
رغم أوامر إيزار الصارمة، فقد تجرّأ أحدهم و أخبرها بالأمر خِفية.
“نعم، سيدتي.”
—
في اليوم الذي تغيّر فيه عمر فريسيا المتبقي إلى 265 يومًا، أصدرَ إيزار أوامره إلى خدم القصر.
كانَ عليهم الاستعداد للصعود إلى المقرّ الصيفي، للمشاركة في مهرجان العاصمة الصيفي.
‘نعم، لقد حان الوقت فعلاً.’
لا يزال أمامها قرابة الشهرين حتّى وفاة ريغيل.
و بالنظر إلى الوقت اللازم للسفر من الدوقية إلى المقرّ، إضافةً إلى التجهيزات التي يجب القيام بها في العاصمة، فقد كانَ الآن التوقيت الأنسب للمغادرة.
لكن فريسيا واجهت خبرًا غير متوقّع معَ هذا الإعلان.
“السيدة الكبيرة إلكترا لن تنضم إلى الرحلة؟”
“نعم، هذا صحيح.”
تجعدَ حاجبا فريسيا قليلًا عند سماعها كلمات الخادم.
و بما أن من جاء لإبلاغها كانَ من خدم إيزار، و ليسَ السيدة ميروب، فلا بُدَّ أن القرار كانَ صادرًا منه شخصيًا.
و كانَ هذا الأمر يختلف تمامًا عن رحلتها الأولى إلى العاصمة في حياتها السابقة.
فـفي ذلك الحين، اصطحبَ إيزار زوجة أبيه معه، و خلال غيابه، كانت إلكترا تُعذِّب فريسيا باسم “التربية”.
لذا، فإن غياب إلكترا عن هذا الحدث كانَ، بطبيعة الحال، بمثابة نعمة لـفريسيا.
خصوصًا و أنها كانت تفكر مليًا بكيفيّة الحفاظ على نظارات القراءة التي كانت تنوي تقديمها إلى حفيد الإمبراطور، لذا فقد أزال هذا الخبر عن كاهلها همًّا كبيرًا.
‘لكن… أليسَ هذا مريبًا؟’
‘حتى لو كانَ إيزار مَن أمرها بذلك … أليست استجابتها سهلة أكثر من اللازم؟’
عادةً، لا يلتزم هذا القدر من الهدوء إلا من كانَ ميتًا… أو يُدبِّر أمرًا في الخفاء.
‘على سبيل المثال…’
راقبت فريسيا خلسةً ثيا، التي كانت تعيد تجهيز أمتعتها للرحيل.
فـحتّى إن لم تكن إلكترا ذاهبة إلى العاصمة، فإنها لا تزال قادرة على التدخل و وضع العوائق.
ألن تبدأ بمحاولة كسب أقرب خادمة لـفريسيا إلى صفّها؟
“ثيا… “
“نـ – نعم، سيدتي!”
“هل استدعتكِ السيدة إلكترا مؤخرًا؟”
“هاه؟”
اتسعت عينا ثيا بدهشة من سؤال فريسيا المفاجئ، ثُمَّ لوّحت بيديها نافيةً بسرعة بعدما التقت بنظرة سيدتها الهادئة، الخضراء كـالسكون.
“أ-أنا؟ لا، أبدًا! لم يحدث ذلك إطلاقًا!”
“همم.”
“أقسم بذلك، سيدتي!”
اكتفت فريسيا بهمهمة مقتضبة، دون أن تُظهر أي رد فعل. ومن تعبير وجهها، بدا و كأنها اختارت تصديقها في الوقت الراهن…
لكن قلوب البشر تميل دائمًا إلى مَن يبدو أقوى.
‘تمامًا كما انحازوا إليّ، ظنًّا أنني مفضلة لدى إيزار أو ما شابه.’
و في اللحظة التي يتبيّن لهم عكس ذلك، حتّى أكثرهم ولاءً قد يُدير ظهره.
“ثيا.”
“نعم، سيدتي…”
“ليسَ من نيّتي أن أُجبركِ على أداء قسم ولاء. أنتِ و عائلتكِ تنتمون إلى هذه الأرض.”
و لمّا قالت ذلك، راحت فريسيا تعبث بسلسلة العقد.
كانَ الرقم الظاهر هذا اليوم هوَ : 265.
ما من سبب يدعوها لطلب ولاءٍ صادق من شخصٍ على وشك أن يفارق الحياة على أية حال.
تبقّى شهران فقط. إن تمكّنت من عبور هذه الفترة بسلام حتّى تنقذ ريغيل بيتلغيوس، فـسيكون ذلك كافيًا لتحقيق هدفها.
و هذا… يكفي.
“إن هدّدتكِ السيدة الكبيرة إلكترا بسببي، فـسايريها في الوقت الراهن.”
“أستميحكِ عذرًا…؟!”
“فقط أعلميني إن اضطررتِ لذلك. و إن فعلتِ، فـسأمنحكِ مبلغًا سخيًّا بعد… تسعة أشهر تقريبًا.”
“هاه؟”
“بذلك المبلغ، يمكنكِ أن تبدئي حياة جديدة، و لن تضطري للعمل كـخادمة مرّة أخرى.”
يالها من ضربة حظ، فكّرت ثيا. إن تمكّنت من الحصول على تلك الثروة دفعة واحدة، فإن تحمّل تسعة أشهر تافهة سيكون أمرًا هيّنًا.
لكنها، رغم فرحتها العارمة، وجدت نفسها تسأل بسذاجة نابعة من إحساسٍ غريب:
“لكن… إلى أين ستذهبين بعد التسعة أشهر، سيدتي؟”
“أذهب؟ إلى أين يفترض أن أذهب؟”
بحلول ذلك الوقت، ستكون قد وُضِعت في النعش.
‘و إن كُنتُ محظوظة، فقد يُدفن جسدي في القبو المخصّص للعائلة تحت هذا القصر.’
لكن لم يكن من الضروري قول الأمور بهذه الصراحة.
رغم ذلك، و حتّى لو أرادت أن تصارحه بكل شيء، فـهي لا تعرف كيف سيتقبّل إيزار ذلك.
“هممم…”
و لمّا خطر إيزار على بالها، تنهدت بلا وعي.
كانَ إيزار الحالي… أكثر صراحةً و يقظةً من “زوجها” في السادسة و العشرين من عمره، لذا كانَ من الصعب جدًّا فهمه.
‘.كُنتُ أفكّر في الاعتراف بحالتي بعد إنقاذ حفيد الإمبراطور و كسب ثقته.’
كانت قد علّقت آمالًا خفية على أنه، معَ ثقته، قد يمنحها بعضًا من الشفقة. أن يُبادر، رُبما، لمعالجة علّتها القاتلة.
أن يشعر، و لو قليلًا، بالحزن من أجلها.
هيَ لم ترَ وجهًا حزينًا لإيزار يومًا، لذا لم تستطع حتّى تخيّل ملامحه بذلك الشكل.
لكن مُجرّد احتمال أن يشعر بالحزن لأجلها… كانَ كافيًا ليترك أثرًا مريرًا في قلبها.
بالطبع، تذكّرها لبروده الأخير كانَ كافيًا لإضعاف ثقتها.
و حينَ راودتها فكرة مفاجئة، فتحت فمها بتردّد.
“ثيا. لديَّ سؤال أودُّ طرحه.”
“ن-نعم، سيدتي!”
“هل لديّ عادات نوم سيئة؟”
“هاه…؟”
—
و في اليوم الذي غادرت فيه قافلة عائلة آركتوروس متجهًا نحوَ العاصمة، كانَ المساعد تشارلز يراقب حالة مزاج إيزار بحذر شديد…
لم يكن سيّده في أفضل حالاته تجاه الذهاب إلى البلاط الإمبراطوري، لكن مزاجه اليوم كانَ سيئًا على نحوٍ غير معتاد.
“هل أنتم بخير، سيدي؟”
لم يُجب إيزار، بل اكتفى بعقد حاجبيه قليلًا، تاركًا لتعبير وجهه أن ينوب عنه في الرد.
ثُمَّ رمق بعينيه، في صمتٍ ثقيل، العربة الصغيرة التي تتبعه من الخلف.
تلك الراعية كانت بحقّ كارثة حلّت على حياته.
بعد تلك الليلة التي تشارك فيها الفراش معها، لم يعد الأرق يزوره. و معَ ذلك، أدركَ إيزار أن هُناكَ هاويةً أخرى، أعمق من الهاوية التي اعتقد أنه بلغها.
منذ تلك الليلة… بدأ يرى الحلم ذاته كُلَّ ليلة، الحلم الذي كانَ يتمنى بكل قواه أن لا يراه مجددًا.
حتّى ذكريات طفولته المؤلمة، تلك التي دفنها في أعماقه كما تُدفن الجثث في القبور، بدت له أكثر احتمالًا من ذلك الكابوس.
كانَ حلمًا يرى فيه تلك الراعية تحت جسده، تتلوّى و تنتحب بألم، بصوتٍ يائسٍ يُمزّق القلب.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 40"