ما إن لامست يداها الصغيرتان بشرته، حتّى اجتاحه دوار أشبه بالسقوط من منحدر شاهق. صوتها الخافت اخترق الظلام و تسلّل إلى أذنيه.
“لقد رأيتُ كابوسًا مرعبًا…”
و عيناها المبللتان بالدموع رمشتا ببطء، دون أن تبتعدا عن النظر إليه. لم يستطع إيزار أن يتنفس لمُجرّد رؤيتهما.
كل ما سمعه كانَ خفقان قلبه و صوتها المتلاشي.
“لكن هذه… هذه هي الحقيقة، أليسَ كذلك؟”
“ذلك…”
خرجَ صوته أجشًا غريبًا عليه، لكن حينما أسندت الراعية جبينها إلى صدره، لم يعد قادرًا على قول شيء.
“رأيت في حلمي ما جرى بعد مغادرتك.”
“……”
“و لحسن الحظ… كانَ مُجرّد حلم.”
بدأت تبكي بصوت خافت، و دموعها الساخنة ألهبت جلده حيث انهمرت. و شَعرُها الذي لامسَ صدره حرّكَ شيئًا في داخله…
أم لعلَّ ما كانَ يتهيج هوَ سطح قلبه ذاته.
كانَ الانزعاج الذي شعرَ به لا يُحتمل، كأنه رغبة بالفرار، لكنّه لم يستطع أن يدفعها بعيدًا، رغم أنها كانت تتشبث به و كأن حياتها معلّقة عليه.
بل لم يكن يعلم حتّى لِمَ كانت يداه ترتجفان.
و كأن احتضانها سيؤدي إلى نهايته.
“دوق إيزار.”
لكن حينَ نادت اسمه من جديد، انحنى رأسه إليها بلا وعي، كما لو أنَّ خيطًا خفيًا جذبه نحوها.
و هُناك، أدركَ إيزار الحقيقة.
أن مواجهتها مباشرة كانت أصعب من مُجرّد احتضانها.
حينَ طلبت منه أتريا قبلة ذات مرّة، سخر منها في نفسه…
“آه…”
ارتجف جسده من دفء مجهول تسلل إلى عموده الفقري، و فلتت منه أنفاس مكتومة.
و قبل أن يرتكب حماقة أخرى، سارعَ إيزار إلى احتضانها بقوة.
جسدها انسجم تمامًا معَ ذراعيه. و ما إن شعر بملمسها الرقيق في حضنه القاسي، حتّى عضَّ شفته بعنف.
بينما كانت آثار الحلم المتعب لا تزال تلاحقه، أخذت رؤيته تصبح ضبابية.
أن يكون في موقف كهذا، يحتضن امرأة تبكي، كانَ جنونًا خالصًا، إلا إن كانَ قد فقد عقله حقًا.
‘أرجوكِ…’
تمنى من أعماقه أن تتوقف عن البكاء.
قالَ بتوتر، و قد بلغَ به الصبر حدّه:
“فقط … نامي الآن، هكذا.”
“إنهُ مُجرّد حلم، الصدمة فقط هيَ ما أرعبكِ.”
بدا أن كلماته قد وجدت طريقها إليها، إذ شعر بابتسامتها الخفيفة على جلده.
“نعم…” همست الراعية.
و مضى الوقت، رُبما كثيرًا… أو قليلًا.
و حينَ انقضت تلك اللحظة التي بدت و كأنها أبدية، هدأ تنفّسها تدريجيًا. و لم يتنفس إيزار الصعداء إلا حينئذ.
“هاه…”
كل شيء كانَ فوضى.
من البداية، كانت فكرته بحل أرقه عبر وجودها بجانبه ضربًا من الغباء.
أعادَ الراعية النائمة برفق إلى السرير، و أخذ يتأمل وجهها بصمت.
لم يكن يتوقع أن تبكي بسبب مُجرّد حلم.
لكن ما جعله يصمت تمامًا هوَ ذلك الشعور الذي أضاء عينيها المغرورقتين بالدموع.
أو بالأحرى، الشعور الذي كانَ يتلألأ في عيني الراعية و هيَ تنظر إليه.
تلك النظرة التي باتت لا تُحتمل بالنسبة له إن لم تكن موجهةً إليه وحده.
كـوحشٍ عطشان لقطرة ماء في يوم قائظ، و الأرض تحت قدميه تتشقق من الجفاف.
‘أريد ذلك.’
كانَ توقًا عارمًا، أشبه بانحداره إلى وحشٍ لا يرى إلا فريسته. خفقات قلبه تصاعدت حتّى ارتفع صدره و هبط بعنف.
‘أريد ذلك بشدة…’
حينَ تفتح عينيها من جديد، أرادَ أن يرى تلك النظرة مجددًا. شعر بأنه قادر على التحديق فيها إلى الأبد، دون أن يملّ.
فـفي حياة إيزار، لم يكن لديه أي أمل آخر، و لا رغبة… سوى استعادة مجد عائلته الضائع.
رُبما لهذا السبب تحديدًا، بدا هذا التوق أشبه بعطشٍ حادّ، يشقّ ألياف عضلاته كـحدّ السيف.
هل سبق له أن شعر برغبةٍ كهذه من قبل؟
لم يكن هذا الطعم الغريزي للرغبة غريبًا تمامًا عنه… رُبما راوده شيءٌ مشابه عندما كانَ في الثامنة عشرة.
‘لقد جُننتُ فعلًا.’
همسَ إيزار لنفسه.
‘لا بُدَّ أنني فقدتُ صوابي بالكامل.’
ضغطَ بقوة على عينيه، محاولًا محو الصورة العالقة لعينيها الخضراوتين. و لم يهدأ قلبه إلا بعد سيلٍ من الشتائم التي وجهها لنفسه داخليًا.
‘هاه… حسنًا.’
عليه أن يعترف فقط بما هوَ ضروري.
هذه المرأة لا تكتفي بتعذيبه، بل توقظ شيئًا ما في روحه و جسده، كما لو كانت كارثة حلّت عليه.
و رُبما لهذا السبب بالضبط… قفز خلفها إلى البحيرة قبل سنوات.
مدفوعًا بشيءٍ مجهول.
مسحورًا مؤقتًا بحماسةٍ حمقاء.
‘لكن إن واصلتُ على هذا النحو، فـسأرتكب حماقةً حقيقية.’
حينَ تذكّر ما خطر بباله عند رؤيته لشفتيها، انقبضَ فكّ إيزار بإذلالٍ غاضب.
هذا مستحيل تمامًا.
قد تقول إنها تكنّ له مشاعر، لكنّه لم يكن ينوي أن يمنح أحدًا، أيًّا كان، و لو شظيةً من قلبه.
لم يكن مستعدًا لأن ينهار بؤسًا بسبب الحُبّ. فـلو أن نهاية منح قلبه تشبه النهاية البائسة التي آل إليها والده…
فـليس أمامه إلا خيارٌ واحد.
عليه أن يرسم الحدود الآن، ما دام هذا التوق لا يزال عطشًا عابرًا.
إن أخذ هذه المرأة إلى العاصمة، فـسيحبسها في القصر هُناك…
و ينساها إلى أن يحين الوقت المناسب…
—
عندما استيقظت فريسيا في غرفة إيزار، نظرت حولها بدهشة. لقد غادر بالفعل، ببرودٍ كما توقّعت.
‘فـلماذا استدعاني؟’
رغم أنها اعترفت أخيرًا بمشاعرها نحوه، إلا أنَّ زوجها كما هوَ الآن… شخصٌ لا يمكن فهمه.
لكن الحلم الذي رأته تلك الليلة جعلَ رأسها ينبض بالألم.
“آه…”
كانَ حلمًا موجعًا، شديد القسوة.
‘شعرتُ و كأنّه حلمٌ عمّا جرى بعد أن فقدنا طفلنا.’
هل لأنّها نامت في غرفة إيزار، راودها ذلك الحلم؟
لكن مهما حاولت استرجاعه، لم تستطع تذكّر التفاصيل.
فـالأحلام عادةً ما تذوب عند أولى خيوط الفجر، و فوق ذلك…
نهايته كانت مغمورة بالسواد التام.
كما لو أنَّ أحدهم سكبَ حبرًا داكنًا أمام عينيها. لكن لماذا؟
غير أنّها، و بمُجرّد أن نظرت في المرآة لتغسل وجهها، هربت أفكار الحلم من رأسها في لحظة.
“هاه؟ ماذا…؟”
عيناها كانتا متورّمتين و محتقنتين بالاحمرار.
يبدو واضحًا أنّها بكت كثيرًا.
“لماذا أبدو هكذا؟”
و هيَ تلمس جفنيها في حيرة، انفتح الباب بقوّة.
الشخص الذي استدعاها، صاحب الغرفة، قد ظهر.
لكنه لم يكن في حالٍ أفضل منها، بل بدا كمن قضى الليل كله ساهرًا.
“هل… نِمتَ جيدًا، يا صاحب السمو؟”
نظرَ إليها إيزار بنظرةٍ حملت كلماتٍ كثيرة لم يُفصح عنها، و كأنّها توشك أن تخرج من فمه لكنها لا تجد طريقًا.
فـتراجعت فريسيا غريزيًا.
كان قد مضى وقتٌ طويل منذ أن رأته بتلك النظرة الغاضبة المتّقدة.
ثُمَّ، و قد أدركت مدى جرأتها، احمرّ وجهها خجلًا.
“هل… هل كُنتُ أُصدر أصواتًا طوال الليل…؟”
هل بكت بصوتٍ عالٍ بسبب ذلك الحلم الغريب؟ ألهذا السبب لم يستطع هو أيضًا النوم؟
لكن إيزار لم يُجب. بل اكتفى بالتحديق فيها بصمتٍ مزعج.
‘يبدو أنها لا تتظاهر بأنها نسيت.’
بل يبدو أنه هوَ من نسي ما حدث الليلة الماضية. و كانَ من المفترض أن يكون ذلك مريحًا، إلا أن توتّره الواضح لم يكن إلا أكثر إثارة للضيق.
فـهو، على ما يبدو، بقي طوال الليل مستيقظًا، متوتّر الأعصاب.
ثُمَّ قالَ إيزار بجفاءٍ شديد:
“لقد كانت ليلةً مريعة.”
“……!”
“مشاركة السرير معك… لن تحدث مجددًا أبدًا.”
توهّجَ وجه فريسيا من شدّة الإحراج أمام هذا التوبيخ القاسي.
كانَ من الأسهل تحمّل الأمر لو أنه قال فقط إنها كانت تصرّ على أسنانها أو تشخر أثناء النوم.
لكن بصياغته القاسية تلك، لم تستطع حتّى تخيّل ما قد تكون فعلته، بل شعرت أن آلاف التصرفات المحرجة تنهشها من الداخل.
ثُمَّ أشارَ إيزار إلى باب الغرفة.
“عودي إلى غرفتكِ، من دون إثارة أيّ ضجّة.”
“نعم…”
“حالًا.”
كانَ ذلك أشبه بتحذيرٍ صريح بأن لا تحلم حتّى بلعب دور الزوجة المحبوبة. ببرودةٍ تماثل ما أظهره عند عودته من دينيب.
‘بعد أن استدعاني بنفسه…’
تلك البرودة المفاجئة تسلّلت إلى أعماقها، و أيقظت مشاعر ساخنة موجعة.
لم يكن غريبًا أن يكون باردًا خلال السنة الأولى من زواجهما…
لكنّ ما جعل هذه القسوة لا تُحتمل، هوَ أنها صدرت داخل هذه الغرفة تحديدًا، الغارقة بذكرياتٍ ثمينة… بعد أن شهدت بالأمس لمحة من حنانٍ محرج من زوجها في السادسة و العشرين.
و في تلك اللحظة، شعرت برغبةٍ عارمة… في أن تتمرّد عليه، و لو لمرةٍ واحدة.
‘رغم أنّهُ قد يبدو تافهًا في نظر الآخرين…’
لم يكن بوسعها أبدًا أن تعارض ربّ هذا المنزل. لذا، لم يكن أمام فريسيا سوى خيارٍ واحد.
أن تستدير بحزم، و تخرج من الغرفة دون أن تودّعه.
كانَ ذلك أقصى ما تستطيع فعله، رغم إدراكها كم يبدو طفوليًّا و ضعيفًا.
‘مِنَ المؤكّد أنَّ ذلك لن يُؤلم إيزار إطلاقًا.’
لكن إن لم تفعل حتّى هذا القدر الضئيل… خشيت أن يتراكم في صدرها حقدٌ صامت لا ينطفئ.
و بمُجرّد أن غادرت فريسيا، زمجرَ إيزار بين أسنانه.
“تلك الجريئة الحمقاء…”
لا بُدَّ أنّ الراعية نسيت أن في الغرفة مرآة… مرآةٌ رأى من خلالها كيف عبست شفتيها الصغيرتين و استدارت نحوه بنظرة ممتلئة بالضيق و الاستياء.
لكن أكثر ما هزّه، كانَ تلك اللحظة التي أدارت فيها ظهرها و رحلت دون أن تنبس ببنت شفة.
لحظةٌ اخترقت صدره بشعورٍ غريب و مؤلم…
و كأنَّ أحشاءه قد مُزِّقت بمخالب وحش، من أسفل بطنه حتى أسفل حلقه.
‘أهكذا تُديرين ظهركِ لي؟’
‘بعد أن نظرتِ إليّ بتلك العيون، و أنتِ بعد لم تستفيقي تمامًا من حلمك؟’
يرتجف من غضبٍ لا اسم له… و معَ ذلك، يُذكّر نفسه بأنه لا يملك سببًا يمنعه من تركها تذهب.
ثُمَّ شتم بغيظٍ مكتوم.
“اللعنة…”
عندها، توصّل إيزار لتعريفٍ أوضح لما تمثّله تلك الراعية في حياته.
بلا شك…
لقد كانت كارثة.
كارثة دخلت حياته من حيث لا يدري، و ها هيَ تُعيث بداخله الخراب.
التعليقات لهذا الفصل " 39"