بعد تصريح فريسيا البارد، خيّمَ الصمت على الغرفة للحظة وجيزة، لكن إيزار سرعان ما أطلق ضحكة منخفضة.
“أنتِ؟ ستحطمينني؟”
“نعم.”
“مذهل.”
كادَ يضحك بصوت عالٍ لولا التعب الذي كانَ ينهشه. يا لها من إجابة جريئة و ساذجة من فتاة لا تؤذي أكثر مما تؤذي قطة صغيرة بلا مخالب.
ثقةٌ تنبع فقط من رمية حجرٍ موفّقة.
و معَ ذلك، لم يستطع أن يتعامل معَ هذا التهديد الطفيف باستخفاف. فـعيناها الزمرّديتان كانتا صلبتين كـالصخر، و كل كيانها كانَ يشعّ صدقًا لا غبار عليه من البداية و حتّى النهاية.
هل كانت ستلكمه بكل ما أوتيت من قوة إن استفزّها دون تفكير؟ تنفّسَ إيزار ساخرًا للمرة الأخيرة قبل أن يدير ظهره.
“لا داعي لهذه للدراما، لن أمدّ يدي عليكِ أبدًا.”
“إذًا، الليلة—”
“ما عليكِ سوى النوم … و المغادرة.”
ظنَّ أن هذا العارض الذي لا يُسمّى أرقًا قد يتحسّن إن رأى وجه الفتاة و هيَ نائمة.
لنُبقِها الليلة فحسب.
رُبما سيكون الوضع أفضل بعد ذلك.
دون أن ينطقا بكلمة، استلقيا متقابلين ظهرًا لظهر. أغلقَ إيزار عينيه و هوَ يلعن في سره.
تبًّا.
و كأن قلبه قد التصق بظهره بطريقة مزعجة.
كل عصب و عضلة فيه كانت مشدودة نحوَ مكان استلقاء تلك الراعية.
و بالرغم من سخريته السابقة، لم يكفّ عن استرجاع الحديث الذي دار بينهما.
<إذًا… تقولين إنكِ لن ترضي بمضاجعتي إلا إن كنتُ أكنّ لكِ مشاعر حقيقية؟>
<نعم.>
<و ماذا لو أجبرتكِ؟>
أغمض عينيه أكثر، و قضم شفته.
يا لي من أحمق … ما كانَ ذلك السؤال؟
لماذا خطرَ بباله أن يسأل شيئًا كهذا فجأة؟
و كأن نوايا تلك الفتاة باتت ذات أهمية فادحة لديه.
حاولَ بشدة أن يصفّي ذهنه.
على الأقل، لعلّه يظفر بقسط من النوم، كما خطّط لتلك الليلة.
و لكن من غير المرغوب فيه… أن ينبض قلبه بهذا الشكل بسببها.
و خاصةً حينَ بدأ حلمه، بعد طول انقطاع، بذكرى من طفولته… ذكرى رآها فيها لأول مرة.
—
إيزار يكره الأحلام. أحلامه شديدة الوضوح، تُخرج من أعماقه ذكريات حاول دفنها مرارًا.
و هذه المرة، كما في كُلِّ مرة، أخرجته من تحت الركام و أعادته إلى ما حاول نسيانه.
<انظر إلى هُناك، إيزار.>
كانَ عمره آنذاك عشر سنوات، ينظر إلى والده بعينين مرتجفتين، كانَ جسده يئن من التدريب المتواصل منذ الفجر حتّى الغروب، لكنه لم يكن يرغب في خذلان والده الذي يكنّ له كل الاحترام.
كانَ خائفًا جدًا من أن يبوح بتعبه… لا يريد أن يُعاقب.
لكن في ذلك اليوم، لم يكن والده ينوي معاقبته، بل أشارَ إلى شيء آخر.
إلى فتاة نصف جسدها مدفون بين الشجيرات. سخرَ والده و هوَ يشير إليها.
<إنها ابنة تلك المجنونة.>
كانت الفتاة تجمع الثمار بعناية.
و لأن والدتها قد فقدت عقلها، باتت مهمة البحث عن الطعام تقع دائمًا على عاتق ابنتها ذات السبعة أعوام.
و حينَ رفعت الفتاة رأسها، نسي إيزار ألم يديه، و تسمّرَ ينظر إلى وجهها.
لكن صوت والده أيقظه من شروده.
<أتفهم لماذا نُبقي أمثال هؤلاء هُنا؟>
<لا … لا أعلم.>
<إنهم أحطّ خلق الله، مثل هذه الفتاة، هُم مخلوقات إدنى من الإدنى.>
في تلك اللحظة، كانت الفتاة تحاول رفع سلة أكبر من حجمها. أولئك الذين كانوا يجمعون التوت نظروا إليها، لكن لم يجرؤ أحد على مساعدتها، خشية أن تصيبهم “عدوى جنون الأم”.
و كانَ هذا درسه.
<تذكّر يا إيزار، إن كانَ أمثال هذه الطفيليات يستطيعون العيش … فـألمك لا يُعتبر شيئًا.>
<كلما شعرت بالضعف أو أردت التذمر، انظر إلى تلك الفتاة.>
كانَ درسًا مغلفًا بالقسوة : أن يتأمل في بؤس الآخرين ليحمد نعمة حياته.
<أجل … يا أبي.>
أمسكَ إيزر سيفه من جديد، رغم الجروح و البثور التي غطّت كفّيه. و نظرَ خلفه للمرة الأخيرة.
فتاة بائسة، ابنة لمجنونة، منبوذة كـالحشرات…
و معَ ذلك، كانت عيناها … واسعتين، صافيتين، تتلألأن بلون الزبرجد، تمامًا كـلون حجر البيريدوت الذي كانت زوجة أبيه تتفاخر بارتدائه دائمًا.
رغم رغبته العارمة في الاستمرار بالتحديق، كانت الفتاة قد اختفت بالفعل داخل غياهب الشفق، تاركةً وجهها مخفيًا عن ناظريه.
و في ذلك العام … وقعت الكارثة في نهاية المطاف.
<لقد وجدنا والدتك، إيزار!>
كانَ والده، بعينين تومضان كـالذهب، يجرّه بقوة نحوَ ساحة إعدام المتمردين.
و رغم أنه كانَ يكنّ له الاحترام، إلا أن الخوف سيطر عليه في تلك اللحظة.
ذلك البريق الهوسي الذي في عينيه… كانَ مألوفًا.
كان يشبه ذلك الذي يلمع في أعين الوحوش التي قُتلت مرارًا… نظرة مسعورة، مثبّتة على شيء لا يُرى.
<أخيرًا… أخيرًا… أخيرًا…!>
كانَ والده سعيدًا لدرجة أنَّ إيزار لم يجد في نفسه الجرأة للكلام.
لكن تلك السعادة تفتّتت على الفور عندما رفضت “والدته” خلاص والده المزعوم.
المرأة الأسيرة لم تلتفت، سواء هدّدها الرجل أو ترجّاها.
<أفضل الموت على أن أعيش معك… دعني أتبعه إلى الموت… اقتلني الآن.>
تكرّرت تلك العبارة أكثر من عشر مرات، إلى أن دفعه الغضب إلى جرّ إيزار ووضعه أمامها.
<انظري إلى إيزار! ابننا إيزار أمامك! و معَ ذلك، لا تزالين تختارين الموت!>
تدفّق العرق من جبين إيزار. شعرَ حينها و كأن قيمته، وجوده، يتم تقويمه في تلك اللحظة… و كأنه لا يساوي شيئًا إن لم يستطع التأثير في المرأة الراكعة أمامه.
<أمي…>
كانت الكلمة ثقيلة، غريبة… حتّى أن حلقه انقبض و هوَ ينطق بها.
لقب لم يُنطَق منذ سنوات، بدا له قاسيًا كـحدّ شفرة صدئة.
و خفقات قلبه تصمّ أذنيه، لم يعرف ما يقول، و لم يكن متيقنًا إن كانَ لصوته أي جدوى… لكنه بالكاد نطق بما ظنَّ أنه الحل:
<أمي … فقط قولي لأبي إنكِ تحبينه.>
لو فعلت ذلك، بلا شك… حتّى لو اضطرّ للتوسل عند قدمي الإمبراطور، فإن والده كانَ سيغفر لها.
كانَ بإمكانهم مغادرة هذا الجحيم، و العودة إلى الرفاهية في أركتوروس …
<يمكننا أن نعيش معًا مجددًا…>
لكن ما إن أنهى كلماته، حتّى ارتعش جسده.
فقد رآها… رأى الكراهية في عينيها و هيَ تنظر إليه.
<طفلي الوحيد… هوَ ذاك الذي أنجبته من ذلك الرجل، الطفل الذي أردتُ إنجابه… هوَ فقط من أعتبره ابني.>
كانت تعابير “والدته” تنضح بالاشمئزاز بوضوح، ثُمَّ استدارت عنه تمامًا، موليةً ظهرها له.
وقفَ إيزار مذهولًا، يحدّق في ظهرها المنكفئ عنه.
هل آلمه هذا الرفض؟
‘لا أدري.’
رُبما كانَ قد اشتاق إليها طوال فترة الفراق…
لكن الإرهاق الناتج عن التدريب القاسي خَدّرَ فيه كل شعور آخر.
كانت زوجة أبيه تتذمّر أحيانًا من فظاظة إيزار و بساطة كلماته، لكنه لم يكن يبالي. فـوالده كانَ دائمًا يردّ قائلاً إن الرجولة لا تحتاج تزيينًا.
<الكلام المعسول لا يصنع إلا الطفيليات في بلاط القصر!>
مسح وجهه بخشونة، و راح يلعن في داخله بكل الألفاظ السوقية التي يعرفها.
لم يجرؤ على التفوّه بها بصوت عالٍ، خشية أن يوقظها… أن تسمعه…
لكن في تلك اللحظة… اشتعلت عيناه بغضب مضطرب.
‘لماذا أسمح لنفسي بالتأثر بسبب هذه المرأة؟’
الخيبة القاسية، و العزائم الصلبة التي بناها في الماضي… عادت تملأ قلبه مجددًا و كلّما فكّر أكثر، زاد احتقانه… و أصبحت ملامحها الجانبية مزعجة بنحوٍ لا يُطاق.
لماذا سمح لنفسه بأن ينشغل بكائن تافه كهذا؟
أن يتنقّل بين الأراضي المجاورة بسببها؟ أن ينفعل بسبب شخص دنيء مثل ألبيريو دينيب، مُجرّد الابن الثاني لماركيز؟!
عروس لم يرغب بها، دخيلة لا تليق به، و وصمة عار على هذا الاسم العائلي الثمين.
لماذا لم يتخلّص منها فور عودته؟ لماذا هو الآن… يتقاسم الفراش معها؟ لماذا أنصت إلى هرائها بكل هذه الجدية؟!
‘تخلّص منها.’
الآن، في هذه اللحظة… اقتلعها من حياته تمامًا.
كـقشرة مزعجة على جلده، سيقشرها و يرميها بعيدًا مع طلوع الصباح.
‘بمُجرّد أن ينبلج الفجر—’
الكراهية التي ذاقها في الحلم، تجرّعها الآن كـالعلقم بين أسنانه.
غير أن موجة العنف التي طغت على سمعه، تكسّرت فجأة على أنين خافت…
“أه… آه… “
كانت المرأة تتلوّى، يداها متشبثتان بصدرها، جسدها ينكمش من الألم.
و كانت تنتفض على نحوٍ متقطع، كما لو أنها تختنق حتى الموت.
صرَّ إيزار على أسنانه، يحدّق بها بعينين موشحتين بالضيق. ابيضّت مفاصل قبضتيه من شدة التوتر.
‘لا تفعل شيئًا.’
لقد قدّم لها أكثر مما تستحق.
ستستيقظ قريبًا، لا شك في ذلك. بل و قد تكون هذه نوبة مناسبة لطردها بحجّة مرضها.
‘لكن…’
الآن…
كانت تبكي.
حتّى حينَ تُركت وحيدة في ليلة الزفاف…
حتّى عندما غادر فور وصوله للانضمام إلى حملة صيد الوحوش… حتّى حينَ ضُربت، و هاجَ بها الهذيان بسبب الحمى… لم تبكِ أبدًا.
‘تبًّا’
أغضبته هذه المرأة، التي جعلته يشعر بالسخف.
و أغضبه أكثر أنه مدَّ يده ليهزّ كتفها.
“أفيقي… أفيقي حالًا، أيتها الراعية.”
“هيا، الآن.”
و معَ محاولته تهدئتها، بدأت أنفاسها تتزن شيئًا فـشيئًا… و فتحت عينيها ببطء، و الدّموع لا تزال تنساب على خديها.
“أ… أين…؟”
“في غرفة النوم، و أين غيرها؟”
“آه…”
رغم نبرته الجافة، بدت و كأنها ما زالت شاردة، تتأمل الغرفة بنظرات حالمة كـمن خرج للتو من غيبوبة سحرية.
و حينَ التقت عيناها مجددًا بعيني إيزار … ارتجف قلبه.
كانت عيناها الخضراوتين، الغارقتان بالدموع، تبدوان كما لو كانتا مأخوذتين بسحرٍ لا يُقاوم.
شفافتين أكثر من باطن ورقة شجر مضيئة… و أجمل من أي جوهرة رآها في حياته.
ثُمَّ ابتسمت…
ابتسامةً خاطفة، ساطعة، كانت الأبهى على الإطلاق.
“إيزار…”
قالتها هامسةً، بصوت بالكاد يُسمَع، بينما كانت تضمّ وجهه بكلتا يديها…
و لأول مرّة … نطقت اسمه.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 38"