لم تكن فريسيا تؤمن بأن الحب، في حدّ ذاته، كافٍ لفهم الآخر على نحوٍ كامل. لقد تطلّب منها الأمر ثلاث سنواتٍ مديدة لتدرك لمحة بسيطة من خبايا إيزار، رغم المودّة العميقة التي كانت تكنّها له.
لكن … ما يحدث الآن، تجاوز حدود الفهم.
<تعالي إلى غرفتي الليلة.>
كلماتٌ جعلت قلبها يهوي بثقل الصدمة، و لم تستطع استقبالها بسعادة خالصة؛ إذ تسلّلت الشكوك إلى أعماقها أولًا، بفعل كل ما جرى بينهما حتّى الآن.
ألم يكن يكرر دائمًا بأن لا أتصرف كـزوجته؟
لقد ولّت تلك الليلة التي جمعت بينهما كـعروسين، و انقضت أيضًا الفترة التي اضطرا فيها إلى مشاركة الغرفة تحت سقف مضيفٍ نبيل.
لم يعُد ثمة داعٍ يدفعه إلى طلبها في مكانٍ خاص و حميمٍ كهذا.
و هكذا، و بين جدران مكتبه، خرج السؤال من شفتيها دون وعيٍ منها، كما لو أن قلبها سبق عقلها:
“ما الداعي لدعوتي إلى غرفة سموّك؟”
و لم يخيّب إيزار ظنّها، فقد ارتسمت القسوة في نظراته، و ومضت عيناه ببرودٍ مرعب.
“و هل عليَّ أن أبرّر كل تصرف أتّخذه أمامك؟”
كانت لهجته حازمة، تقطع الطريق على كل جدال.
و قبل أن تتمكن من التلفّظ بكلمة، أشار إليها بيده بصمتٍ صارم … أمرٌ غير منطوق بالمغادرة.
أليسَ من حقي أن أعرف نواياه؟
رغم كل محاولاتها لتقليص المسافة بينهما، كانَ هوَ من يحرص على رسم الحدود بإصرار، خاصةً حينَ يتعلّق الأمر بغرفة النوم. شعرت أن من حقها، كـامرأةٍ و زوجة، أن تفهم ما طرأ على موقفه … لكن معاملته بدت و كأنها طعنة من نوعٍ مختلف.
و في خضمّ دوامة مشاعرها، كانت ثيا وحدها من أبدت فرحًا خالصًا تجاه ما جرى.
“حتّى في مقرّ الدوقية، يطلبونك الآن، سيدتي! لا بُدَّ أن سموّه بدأ يميل إليكِ بحق!”
“همم … إن كانت هذه أوهامًا، فـهي على الأقلّ جميلة تكفي لترافقني حتّى القبر.”
“آه، سيدتي لا تُقهر بردودها!”
قالت ثيا ذلك و هيَ تدلّك ذراعي فريسيا و ساقيها بزيتٍ معطّر، و ابتسامة رضا تزيّن وجهها. فـخدمُ الدوقات يعرفون تمامًا أن حظهم يرتبط برضى سيّدهم عن من تخدمهم الخادمة.
“مُنذُ زواجكِ في العاصمة، ازددتِ إشراقًا و جمالًا، سيدتي!”
“همم.”
“لطالما ردّدت والدتي أن الحماوات هُنَّ السبب في شيخوخة النساء … و يبدو أنها كانت محقّة!”
فريسيا، بصمتٍ مطبق، لم تستطع أن تنكر في سرّها صدق ذلك القول، و هيَ تسرق نظرةً إلى انعكاسها في المرآة.
مُنذُ أن عدنا من دينيب، لم أواجه السيدة… رُبما خفَّ ثقل قلبي أكثر مما أدركت.
شعرها بدا أنعم و أجمل مما سبق، و بشرتها التي لطالما لطمتها شمس الفقر القاسية، استعادت نقاءها و نعومتها، كـخزفٍ لا تشوبه شائبة. و عيناها… تلك التي لطالما عكست الإنهاك و اليأس… ماذا عنهما الآن؟
لم تكن تحمل الزرقة اللافتة التي يتغنّى بها الناس، لكنهما لم تعودا حزينتين بائستين كما في السابق.
لطالما كرهت النظر إلى المرآة.
إذ لم تكن ترى فيها سوى امرأةٍ مسحوقة، تتأملها بعينين غارقتين في حزنٍ لا طائل منه.
فـهل حقًا تحسّن حظها منذ العام الفائت؟ و معَ قليلٍ من العناية…
فـهل بات إيزار يشعر برغبة نحوها الآن، كما هيَ؟
لكن، الأهم من ذلك، هل هذا ما أريده حقًا…؟
فرصةٌ للقاء حميمٍ بالرجل الذي أحبّته أتت أسرع مما توقعت. و رُبما كانَ هذا، بالفعل، الطريق نحوَ تحقيق ما حلمت به منذ البداية.
مرّت الساعات، و أرخى الليل سدوله. و بينما كانت فريسيا تسير بخطًى متردّدة نحوَ غرفة إيزار، كانَ وجهها غارقًا في ظلال الحيرة و القلق.
“هل أنتِ بخير، سيدتي؟”
حتّى ثيا، التي كانت تتراقص فرحًا معتقدةً أنها أمسكت بمصيرها، لم تستطع أن تتجاهل ارتباك سيّدتها.
فـبدلًا من حمرة الخجل و نبضات الترقّب التي تُلازم عروسًا تتقدّم نحوَ زوجها، بدت فريسيا على شفا انهيار؛ شاحبة الوجه، و عرق بارد يتصبّب من جبينها.
“سيدتي … هل أنتِ بخير حقًا؟ هل ينهشكِ القلق؟”
“أنا … أنا بخير.”
ردّت فريسيا دون وعيٍ بصوتٍ مبحوح، و كأن الكلمات كانت تُنتزع من بين أنفاسها. فكرة دخول غرفة إيزار، التي ستتجسّد أمامها عمّا قريب، بدت مفزعة على نحوٍ غريب.
‘لِماذا؟ تلك الغرفة تحمل ذكرياتٍ طيّبة، لا العكس.’
فـفي تلك الغرفة، حينَ كانت تحمل جنينها المزيّن بالشوك في أحشائها، قضت معظم فترة استقرارها هُناك، آمنة و ساكنة.
زوجها لم يطلب منها المبيت بجانبه مرّةً أخرى بعد تلك المرّة.
و معَ ذلك، حينَ كانت تعاني من تقلّصاتٍ أو تورّمٍ في مفاصلها، كانَ يستيقظ في الحال، ينهض بجسده المرهق ليتفقّد حالها.
‘أين يؤلمك؟’
و كانَ، بتردّدٍ واضح و جهدٍ مبذول في كبح قوّته، يُدلّك موضع الألم بأنامله الثقيلة. ألا يُفترض أن يدفع ذلك قلبها للخفقان؟ أن يجعل روحها ترفرف؟
‘لكن لماذا، إذًا…؟’
كما لو كانت ترعى قطيعًا و تتحقق من وجود وحوشٍ كامنة بين الأحراش، تسلّل إليها خوفٌ لا اسم له.
ما هوَ مصدر هذا الفزع الغريب الذي يجتاحها كدوّامةٍ لا قرار لها؟
“هاه…”
تحسّست رقبتها بأطراف أصابعها عدّة مرّات، محاولة أن تسترجع يقظتها، أن تطمئن أنها ما تزال في وعيها.
لكن الوقت كانَ قد فات على التراجع.
لقد تجاوزت الحرّاس، و وصلت إلى عتبة غرفته. و من هذه النقطة فصاعدًا، لم يكن بمقدور ثيا أن ترافقها.
دفعت الباب، الذي كانَ مواربًا قليلًا، ليفتح على غرفة لم تتبدّل كثيرًا عمّا كانت عليه في العام الماضي… غرفة بدت في فخامتها خاوية على نحوٍ مقلق، لا تليق بدوقٍ رفيع المقام.
لكن المشهد الذي امتدّ من النافذة، حيث كانا ينظران سويًا إلى السماء ذات ليلة، ظلَّ كما هوَ … جميلًا، و ساكنًا. ذلك المنظر وحده نجح في تهدئة الغثيان الذي بدأ يتصاعد في جوفها.
ثُمَّ لمّا وقع بصرها على الرجل الواقف بظهره نحوها، أمام تلك النافذة، خفق قلبها بقوة، كما لو أنه كانَ يحاول شقَّ طريقه إلى حنجرتها.
“يا صاحب السموّ…”
تبدّدَ الخوف الذي اجتاحها مُنذُ قليل، لكن بدلاً منه، تشكّل عقدٌ متين في جوفها، يشدّ أعصابها بتوترٍ لا يُحتمل.
أما إيزار، فعَقَدَ حاجبَيه على الفور.
منذ اللحظة التي فتحت فيها الراعية الباب و دخلت، انبعثَ منها عبيرٌ نفّاذ، لم يكن مألوفًا له، حَجَبَ عن أنفه العطر الخفيف للعشب الذي كانَ يتذكّره من دينيب.
“يبدو أن الخادمة قد بالغت في حرصها.”
كانَ ذلك توبيخًا مبطّنًا؛ انتقادًا للزيوت العطرية التي غمرَت بها جسدها دون مبرّر.
ورغم أنها توقعت هذا النوع من الرد، احمرَّ وجه فريسيا خجلًا، و لسعها الإحراج كأنَّ أحدهم صفَعها.
“حينَ يستدعي سموّكم أيَّ أحد، فلا بُدَّ أن يُعدّ نفسه بهذا القدر.”
“حقًا؟”
بابتسامةٍ بالكاد لامست شفتيه، راقبها إيزار و هيَ تحترق خجلًا.
حتّى وقتٍ قريب، كانَ ذهنه يكتنفه الضباب، مرهَقًا من تراكم التعب.
لكن لمّا رأى وجه تلك الراعية، اجتاحته قشعريرةٌ لذيذة، طردت صداعه اللزج كأنها ريحٌ باردة في ظهيرةٍ خانقة.
تذكّر ذلك الشعور الذي خالجَه في دينيب ذات مرة؛
أن تملك قلب شخصٍ آخر بين يديك … لهوَ إحساسٌ فاتن، بل مُسكر.
عيناه الذهبيّتان خفَت بريقهما تحت وطأة هذا الشعور.
حينَ تقدّمَ نحوها، بدا كأنَّ مفترسًا يزحف نحوَ فريسته… بخُطى بطيئة و واثقة، يستمتع برؤية فريسته التي لا تجد مهربًا.
و مدَّ يده ليلعب بخصلات شعرها.
تجمّدت الراعية في مكانها، و ارتجفت لمّا شعرت بأصابعه تلامس عنقها، فـاندفعت أنفاسها بحرارةٍ مباغتة. شعرها، الذي بدا أكثر نعومةً مما كانَ عليه في ليلة الزفاف، انسابَ بسهولةٍ بين أنامله، و هوَ يواصل تعمّقه في لمسها.
“هل جئتِ بهذه النيّة؟”
“ذلك…”
“هممم؟”
نبرته كانت ساخرة، كـمن يستلذّ بإذلال الآخر.
الاشمئزاز الذي يكنّه للراعية لكونها “لقيطة” ما يزال يخنقه. شعورٌ تغلغل في جلده، يستحيل اقتلاعه.
و معَ ذلك، كانَ ارتباكها، و احمرار وجهها و عنقها من لمسةٍ عابرة منه، يمنحه لذّة ثقيلة، لذّة السيطرة.
هذه الفتاة، التي تدّعي حبّه.
كانَ يتمنّى أن تسقط عنها أقنعتها، أن تتجلى مشاعرها على وجهها، على بشرتها التي انكشفت من خلال شقوق ثوبها، تشتعل حُمرةً و تردّدًا.
كانَ يريد أن يراها تتردّد، أن تُربكها مشاعرها.
لكنها، كـعادتها، خذلته.
فريسيا، بخدّين متوردين، رفعت رأسها ونظرت إليه بثبات.
“نعم، هذا صحيح.”
“هاه.”
“من الطبيعي أن أتوقّع. أنا إنسانة، في نهاية المطاف.”
حينَ استدعاها إلى غرفته، كانَ لا بُدَّ أن تتسلل التوقّعات إلى قلبها. رُبما، فقط رُبما، بدأ يكنّ لها بعض المشاعر؟
لكن لأنهُ كانَ يحتقر فكرة أن تتصرّف كـزوجته، قضت على تلك الأمنية فور ولادتها.
“لكن حتى لو كنت أتوقّع، لا أرغب بأن تمسّني يدك… ما لم يكن سموّك حقًا يرغب بذلك.”
‘أن أكون نافعة…’
ذلك الهدف وحده كان كافيًا.
“المنفعة” تحمل في طيّاتها معنى طاهرًا، لا عيب فيه.
و حينَ تُغمض عينيها للمرة الأخيرة، لن يكون هناك ما تخجل منه.
لكن أن تكون مجرّد جسدٍ يُشبع شهوةً…؟ أن يُبقي الرجل على رغبةٍ مُعلّقةٍ بجسدها؟
‘رُبما سيكون ذلك الأكثر نفعًا… و سيقال إنني أتكلّم من موقعٍ مترف.’
لكن الإنسان، ما دام حيًا، لا بُدَّ أن يرسم لنفسه حدودًا.
و فريسيا قد وضعت حدّها، وحدها، في طريقها إلى هُنا.
“لا أريد أن أسلك الطريق ذاته الذي سلكَته أمّي.”
“……”
“لذا، رغم أنني أُكنّ مشاعر لسموّكم، إلا أنني لا أريدك أن تلمسني … ما لم تكن تلك المشاعر متبادلة.”
سكنَ الصمت فجأة، حتّى إيزار نفسه تجمّد.
فـأمّ فريسيا البيولوجية، لم تجد سوى نهايةٍ وحشية، قُتلت و رُميت.
جسدها التهمته الوحوش، و تكاثرت حوله الديدان، و ظلّت رائحة تعفّنه تلطّخ المكان طويلًا.
سحبَ إيزار يده من شعرها ببطء، ثُمَّ أمالَ رأسه قليلاً، و كأنّه يُعيد النظر في كُلِّ ما قيل.
للمرة الأولى، تفتّحت داخله زهرة فضولٍ صادق.
“إذًا … تقولين إنكِ لن ترضي بمضاجعتي إلا إن كُنتُ أكنّ لكِ مشاعر حقيقية؟”
“نعم.”
“و ماذا لو أجبرتكِ؟”
“……”
“ما الذي ستفعلينه حينها؟”
عندَ هذا السؤال، رمشت فريسيا ببطء.
بطبيعة الحال، إن أمرها، بصفته سيد هذه الأرض و زوجها، فـلن يكون لديها مفرّ. رفضُ مشاركة السرير بعد عهد الزواج أمرٌ لا يُتصوَّر.
لكن … ماذا لو تجرأ هذا الرجل، و تجاوز الخط الأخير الذي رسمته فريسيا لنفسها؟ ذلك الحدّ الفاصل بين ما يخصّ الإنسان و كبرياء المرأة؟
هل ستصرخ حينها كما ينبغي؟ تبكي على نهاية “أداة” لم يعد لها نفع؟ على موت خادمة أدّت مهمتها؟
أم أنها، على طريقتها الخاصة، ستستعدّ للموت من جديد، غارقة حتّى أخمص قدميها في حُبٍّ واحدٍ قاتل؟
توقّفت عن الرمش، و نظرت إليه بثبات.
“عندها سأبذل قصارى جهدي … لأُحطّمكَ، يا سيدي.”
“…”
“و سأضع كُلَّ ما أملك على المحك.”
كانت تأمل، لو أنَّ البداية كانت أكثر لُطفًا، أن تبني علاقة معقولة معه. علاقة تنتمي إلى عالم البشر لا ساحة الصراع.
لكن إن خانتها الحياة من جديد، في هذه الفرصة الثانية…
فـستردّ الخيانة بدمٍ و دمار.
حتّى لو اضطرّت لتحويل كُلِّ ذرة من المودّة التي شعرت بها نحوه إلى سلاحٍ فتّاك.
حتّى لو بقي في عمرها متّسع بعد ذلك… فـلن تتردّد في إلقاء كُلَّ شيء في سبيل تدميره.
التعليقات لهذا الفصل " 37"