بعد عودتها إلى أركتوروس، انشغلت فريسيا بالتخطيط للمستقبل.
‘هُناكَ احتمال أن يظل إيزار بجانبي أثناء رحلة الصيد.’
لكن، ماذا عن باقي المتغيرات الكثيرة؟
حتّى لو بقي إلى جانبها، ماذا لو أنقذَ شخصٌ آخر حفيد الإمبراطور؟
شخص يجلس في موقع أقرب إلى مكانه؟
‘حينها، ستذهب كل جهودي سُدى.’
لذا، كانَ عليها أن تبني أساسًا قويًا منذ البداية.
“حسنًا…”
ابتسمت فريسيا بينما دوّنت اسمًا بالكاد استطاعت تذكره.
كانَ اسم أحد الحرفيين المشهورين في العاصمة.
سلمت خطاب التكليف إلى ثيا.
“ثيا، تذكرين السوار الذي طلبت منك إخراجه من صندوقي؟ استبدليه بقطع نقدية من الفضة و أرسلي هذا الخطاب إلى هذا الشخص.”
“حاضر، سيدتي!”
أصبحت لهجة ثيا أكثر احترامًا في الآونة الأخيرة.
فقد تحسنت ظروف كل من فريسيا و ثيا بسرعة، و لم تعد مضطرة لتناول طعام لا يصلح حتّى للخنازير، و كل ذلك بفضل تحسن مكانة فريسيا.
و بعدَ أن تذوّقت طعم هذا التغيير، أصبحت ثيا أكثر تعلقًا بـفريسيا، و أكثر ميلًا إلى الحديث معها من ذي قبل.
“لكن، سيدتي، لماذا تطلبين شيئًا من هذا الشخص؟ إنهُ ليسَ حتّى صائغ مجوهرات.”
“لأني لا أطلب مجوهرات. بل … شيئًا لصاحب السمو، حفيد الإمبراطور.”
شهقت ثيا بدهشة.
“لصاحب السمو؟ لكن، لماذا الآن؟ أليسَ مبكرًا بعض الشيء؟”
“علينا أن نطلبه قبل أن نذهب إلى العاصمة، كي يكون جاهزًا في الوقت المناسب.”
حينَ كانت فريسيا في عامها الثاني من الزواج بـ”زوجها”، كانَ هذا الحرفي بالتحديد هوَ من قدّمَ لأول مرة ما يُعرف بـ”نظارات القراءة”.
كانت بدائية جدًا مقارنة بالتطورات اللاحقة، لكنها كانت اختراعًا ثوريًا آنذاك.
‘خاصةً رجال الدين، الذين يضطرون إلى القراءة كثيرًا، أعجبوا بها بشدة.’
فقد جعلت قراءة أصغر الحروف سهلة للغاية. و كانَ صاحب السمو ريغيل معروفًا بولعه بالقراءة.
فـبعد أن فقد الإمبراطور اثنين من أبنائه البالغين، بات يكره فكرة مشاركة الوريث الأخير في أي نشاط بدني.
و نتيجة لذلك، و على عكس ما هوَ سائد في ثقافة الإمبراطورية، نشأ ريغيل شابًا هادئًا و محبًا للعلم. و كانَ يُرى في مكتبة القصر أكثر مما يُرى في المناسبات الاجتماعية.
‘إذن، هذا الاختراع سيكون مفيدًا له في قراءته، أليسَ كذلك؟’
كانَ الحرفي قد صرّحَ من قبل أنه اخترع نظارات القراءة في وقت سابق، لكنه لم يُطلقها لأنه لم يكن يظن أنها ستلقى رواجًا.
‘لكن بما أنني سأقدم الطلب الآن، فـسيُطلقها قبل الموعد المتوقع.’
و هكذا، ستكون أول هدية من هذا النوع تُقدَّم من قِبَل نبيلة.
و من المرجح أن يدعو صاحب السمو، بدافع المجاملة على الأقل، عائلة أركتوروس إلى مكانة قريبة منه خلال المناسبات.
‘و بعد أن أنقذه خلال رحلة الصيد …’
ستكون هذه بمثابة بوليصة تأمين لعائلة أركتوروس حينَ يصبح الإمبراطور.
شعرت فريسيا بالفخر لخطة بدت لها متقنة و ثابتة. غير أن ثيا، أثناء إعدادها لخطاب التكليف و السوار الذي سيتم رهنه، أثارت نقطة حساسة.
“لكن، سيدتي … إعداد شيء كهذا، ألن تخبري صاحب السمو الدوق؟”
“آه، أُمم…”
خرج صوت محرج من فريسيا دون أن تدرك، فقد استخدمت أموالها الخاصة لتمويل هذا الطلب، لذا لم تفكر كثيرًا في العواقب.
لكن الآن و قد فكرت، كادت أن ترتكب خطأ فادحًا.
‘صاحب السمو سيخبر إيزار بأنه تلقّى هدية من الدوقة، أليسَ كذلك؟’
ألن يكون الأمر مثيرًا للسخرية إن لم يكن لدى إيزار أي فكرة عما يتحدث عنه؟
و بعد أن قال لها بألا تتصرف كـزوجته، قد يغضب بشدة مرّة أخرى لأنها تجاوزت الحدود.
‘مِنَ الأفضل أن أُوبّخ الآن، بدلًا من أن أُفضَح لاحقًا.’
أطلقت فريسيا تنهيدة استسلام و نهضت من مكانها.
كانت قد أعدت مبررًا منطقيًا في ذهنها لتخبر به إيزار، لكن تجهيز قلبها لتقبّل ما قد تسمعه من كلمات جارحة، كانَ أمرًا آخر تمامًا.
لذا، ترددت حتّى اللحظة الأخيرة، تنظر من النافذة بتوتر.
‘لقد بدأت الشمس تَغْرب.’
كانت الشمس تغرب، و إن استمر الوضع على هذا الحال، فقد يغادر إيزار مكتبه إلى غرفته في أي لحظة.
بما أنني قد قررت، إذًا …
كانَ من الأفضل أن تُقدِم على سؤاله قبل أن يتسلّل إليها التردّد من جديد.
بعزيمة متأرجحة بين الإقدام و التراجع، خرجت فريسيا تبحث عن إيزار، عازمةً على اللحاق به قبل أن تتيبّس شجاعتها و تخونها خطواتها.
—
كانَ إيزار قد توصّل إلى حقيقة بشرية لا مفرَّ منها:
حرمان الجسد من النوم قادر على تآكل الروح من الداخل.
“هاه…”
طوال النهار، كانَ بالكاد يحافظ على قناع من التماسك. لم يبدأ الآخرون بالتحديق فيه بقلق بعد، و هذا جيّد.
كانَ يكدّس المهام تكديسًا، يعقد الاجتماعات معَ تابعيه، و يتفقّد من حينٍ لآخر مستجدّات أوكار الوحوش التي كُشف عنها.
العمل المفرط قد يُسقطني في النهاية…
و معَ ذلك، كانَ يستيقظ كل ليلة تقريبًا، عاجزًا عن النوم بسلام.
كلما وقعت عيناه على الجانب الخالي من السرير.
كانت تلك أول مرّة في حياته يشعر فيها بأن عقله يوشك على الانهيار … من أجل أمر كهذا.
هل ستكون هذه الليلة تكرارًا آخر؟
رُبما حانَ الوقت لطلب جرعة نوم قوية من أحد الأطباء…
لكن قبل أن يقرّر اللجوء إلى هذا الخيار، دوّى طَرق خافت و متردّد على الباب.
“ادخل.”
لا بُدَّ أنهُ أحد الخدم يحمل تقريرًا … أو رُبما تشارلز.
لكن الزائرة لم تكن أيًا منهما.
“أعتذر إن كُنتُ أُزعج جلالتك في وقتٍ غير مناسب.”
تجمّدَ القلم فوق الأوراق في اللحظة التي سمع فيها تلك النبرة الهادئة.
للحظة، ظنَّ إيزار أنَّ قلبه قد توقّف عن الخفقان.
لماذا كانت تقف أمامه الآن، و هيَ التي اجتهد في تجنّبها مُنذُ عودتهما إلى أركتوروس؟
كانت المرأة تضمُّ يديها أمامها برصانة، و تُميل رأسها بخفّة و هيَ تنظر إليه.
هل لأنني لم أرَها منذ فترة …؟
كانَ وجه الراعية يبدو أكثر إشراقًا، و ملامحها أكثر نعومة، إلى درجة أن من يراها قد يصفها بـ”الجميلة” إن أُبدِي لها القليل من اللُطف.
و رُبما ساعدها ابتعادها عن زوجة أبيه في تحسين حالتها النفسية … حتّى أن نضارة بشرتها ازدادت.
أعادَ إيزار بصره إلى الأوراق مجددًا، و قالَ بجفاء:
“ما الأمر؟”
“هُناكَ شيء أودُّ تحضيره، و فضّلتُ أن أناقشك فيه قبل أن أبدأ …”
لكن فريسيا توقّفت فجأة في منتصف الحديث.
ما بِه؟ يبدو منهكًا للغاية.
بعد ثلاث سنوات من الحذر المفرط و التأمّل المستمر في تعابير وجه زوجها و نبراته، باتت قادرة على تفسير ملامحه حتّى في الصمت.
و قد فهمت من الظلال الخفيفة تحت عينيه أنه في حالٍ أسوأ بكثير من المعتاد.
لكن … إن كانَ متعبًا، فـمِنَ الأفضل أن أدخل في الموضوع مُباشرةً، أليسَ كذلك؟
فـسارعت إلى المتابعة:
“كُنتُ أفكّر في تحضير هدية مسبقة، لنقدّمها لصاحب السمو، حفيد الإمبراطور، قبل توجّهنا إلى العاصمة.”
“صاحب السمو لا يهتم بالمجوهرات.”
ردَّ إيزار بخشونة واضحة.
كانَ ريغيل يُقدّر الكتب النادرة فحسب، لكن المكتبة الإمبراطورية تفيض بأندر النفائس الأدبية في الإمبراطورية.
رغم ذلك، ابتسمت فريسيا بوجهٍ منفتح و بلا تردّد.
فـبعد تفكير عميق، كانت واثقة بأن الهدية التي أعدّتها ستكون موضع ترحيب.
و في المقابل، تشدّدت ملامح إيزار حينَ رأى تلك الابتسامة.
متى سبق للراعية أن نظرت إليّ و ابتسمت بهذه الطريقة؟
لقد ابتسمت لفاكهةٍ قدّمها ألبيريو دينيب… و حتّى حينَ صافحته بيديها.
أحكمَ قبضته على القلم.
كانَ بحاجة إلى شيء يشغله، و إلا فقد ينطق بحماقة … أو قد ينهار تماسكه بالكامل تحت سطوة أفكاره المزعجة.
“بدلًا من المجوهرات، فكّرت أن أقدّم له شيئًا يسهل عليه القراءة.”
“……”
“و لهذا … هل أستطيع أن أضيف شيئًا من صنعي؟ فكرة راودتني.”
كانت عيناها الخضراوتين تتلألآن، و شفتيها الصغيرتين تنطقان بشرحٍ صادق.
رؤية ذلك جعلت من المستحيل على إيزار أن ينبس بجملته المعتادة: “لا تتجاوزي حدودك.”
رُبما الإرهاق قد نالَ منه أكثر من اللازم، أو رُبما مُجرّد فكرة أن تلك العيون البريئة قد تمتلئ بخيبة الأمل كانت ثقيلة على قلبه.
“افعلي ما تشائين… “
“……!”
“إضافة شيء من صنعك لن تفسد الأمر.”
أما إن كانَ صاحب السمو سيُعجب بها … فتلك مسألة أخرى.
لكن فريسيا بادرت بسؤالٍ جعل كتفيه ينتفضان:
“لكن، يا صاحب السمو … هل أنتَ مريض؟”
“……”
“تبدو مرهقًا. هل ترغب أن أستدعي الطبيب؟”
“طبيب؟ لماذا؟”
كانَ يفكّر قبل لحظات فقط في استشارة طبيب بشأن جرعة نوم، لكنه تنصّلَ من الأمر كأنه لا يعنيه.
و بدلًا من الرد، اكتفى بالنظر إلى فريسيا في صمت.
كيفَ لهُ أن يشرح شيئًا كهذا؟
لأن التعب كانَ يتراكم عليه … فقط لأنه لا يستطيع النوم و هوَ يفكّر بها.
لأن رؤيتها تغفو بسلام قد تمنحه أخيرًا قسطًا من الراحة.
‘كيفَ يمكن لأي شخص عاقل أن ينطق بأمر كهذا؟’
لكن من سخرية القدر، أن السبب نفسه الذي حرمه من النوم … كانَ أول من لاحظ حاله. ذهنه بدأ يتكدّر، و كأن سُحبًا كثيفة من الضباب اجتاحت تفكيره. لم يعُد يرى أي خيار سوى قراراتٍ ما كانَ ليتّخذها لو كانَ بكامل وعيه.
لم يكن ينوي حقًا أن ينام معها. بل فقط، شعر أن وجودها بجانبه … رؤيتها و هيَ تستسلم للنوم بطمأنينة، قد يُهدّئ اضطرابه الداخلي.
لم تكن لديه أيّ نيةٍ للمسّها.
و لذا … نطقَ بذلك ببساطة:
“أنتِ تنامين الآن في الغرفة الجديدة التي أعددتُها لكِ، أليسَ كذلك؟”
“ماذا؟ نـ – نعم.”
“تعالي إلى غرفتي الليلة.”
“أستميحُكَ عُذرًا؟”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 36"