كانت رحلة العودة من “دينيب” إلى “آركتوروس” مشابهة لرحلة الذهاب.
فـما إن اجتازوا الجبل الصغير، حتّى ظهرت السهول المألوفة. غير أن ملامح الجبل قد تغيّرت قليلًا خلال الأسبوعين الماضيين.
“يبدو من الصعب مواصلة الطريق بالعربة، سيدتي!”
لقد أصبحَ العُشب البري أكثر كثافة ممّا كانَ عليه في زيارتها الأولى، مما جعل من الصعب على عربة فريسيا التقدّم إلى الأمام.
“ما العمل الآن؟”
نظرت فريسيا من حولها، و قد اعترى وجهها الحيرة.
فتدخلت ثيا، التي وصلها الخبر من الفارس دريك.
” بإمكان السائق أن يقود العربة من طريق أطول … أما أنا و أنتِ، فـسيتعيّن علينا ركوب الخيل برفقة الفرسان، سيدتي.”
“نعم، يبدو أن ذلك أسرع فعلًا.”
ليسَ لأنها كانت متحمّسة لرؤية إلكترا بأي شكلٍ من الأشكال.
و ما إن نزلت فريسيا من العربة، حتّى اقترب منها “سير فين” على نحوٍ طبيعي:
“سأساعدكِ، سيدتي.”
“أُقدّر لكَ هذا اللُطف…”
“من هذه الجهة، تفضّلي.”
لكنّ صوتًا متحفّزًا و محمّلًا بالضيق قاطعهم فجأة:
“هل تودّون تأخيرنا أكثر مما نحن عليه؟”
قالَ إيزار بحدّة من فوق حصانه، و الغضب بادٍ على ملامحه.
كانَ فين يعتزم مساعدة فريسيا في امتطاء الحصان ثُمَّ اللحاق بها مشيًا.
لكن ذلك، لا شك، كانَ سيؤخّرهم.
“إذن، سيدي، إن سمحتم، قد نمتطي أنا و السيدة حصانًا واحدًا…”
“كفّ عن هذا الهراء، تعالي إلى هُنا.”
أشارَ إيزار إلى سرجه ببرود، بعينين حادتين.
صحيح أنَّ هُناكَ متسعًا لشخصٍ آخر…
لكن فريسيا لم تنطق بشيء، بل ركبت الحصان بصمت، من دون أن تسند ظهرها إلى إيزار، بل انحنت قليلًا للأمام، لتحافظ على مسافة فاصلة.
ذلك التباعد المتعمَّد جعلَ رأس إيزار يخفق بالألم مجددًا.
فـأعصابه كانت متوتّرة منذ وقتٍ ليسَ بالقليل.
‘اللعنة.’
المصافحة … كانَ بوسعه أن يتحمّلها لو أراد.
لكن تلك الراعية، التي كانت تبتسم ببهجة لحفنة توت، كانت تبتسم بسذاجة تامة لمُجرّد مصافحة. ما الذي كانَ عظيمًا إلى هذا الحد فيها؟
و ما زاد الطين بلّة، أن رؤية وجه ألبيريو دينيب المذهول من ابتسامتها أثارت حنقه حتّى احمرّ عنقه.
‘أحمق … يذوب لأجل امرأة.’
و بحكم الدَّين الذي عليه لتلك العائلة، لم يكن بوسعه أن يتصرّف كما يشاء، فـاكتفى بالغليان في داخله.
‘لو التقينا في العاصمة…’
تساءل إن كانت ستسنح له الفرصة لسحقه فعلاً.
و فيما كانَ إيزار يتخيّل بإحباط كيفَ سيفتك بـ ألبيريو، كانت فريسيا تُعدّل عقد الزرّ حول عنقها لتخفيه عن الأنظار.
«……»
يوماً بعدَ يوم، كانت الحياة تختصر ذاتها لتُبقي فقط على ما هوَ جوهري، و لم يعُد للفخر فيها مكان.
“دوق… ”
الآن و قد تبقّى من عمرها ما لا يتعدّى المئتين من الأيام، أما كانَ من المؤسف أن تضيّع وقتها أكثر من ذلك؟
ابتلعت فريسيا ريقها بتوتر، ثُمَّ تمتمت بصعوبة:
“بشأن الفاكهة، و ما حصل في وقتٍ سابق … أُقدّم اعتذاري الصادق.”
«……»
“لقد تصرّفتُ دون تفكير، لم أُراعِ هيبة بيت الدوق … أعتذر بصدق.”
و في اللحظة التي أتمّت فيها كلماتها، خفق لهب خافت داخل قلبها.
و ما لبث أن تحوّل إلى موجة هائجة تضرب صدرها.
في الحقيقة، لم تكن ترغب بالاعتذار.
‘هل ارتكبتُ حقًا ما يُعدّ تجاوزًا للآداب؟’
رغم أنها عاشت ثلاث سنوات في حياتها السابقة كـموضع للسخرية، لكنها لم تكن جاهلة تمامًا بأعراف نساء الطبقة العليا في المجتمع النبيل.
فـالعفّة كانت فضيلة أساسية حتّى في الأوساط الأرستقراطية. و معَ ذلك، فإن عجز المرأة عن تبادل حديث طريف أو ذكي معَ رجل، كانَ يُعدّ دليلًا على قلّة التهذيب.
أما التوت … فـذاك بالذات لم تكن تود الاعتذار عنه أبدًا.
بل كانت ترفضه تمامًا.
لأنه كانَ أحد الأدلة القليلة المتبقية على ذكرى جميلة… معَ «زوجها».
في ذلك الوقت، حينَ بدأت بطن فريسيا بالانتفاخ قليلًا، كانت تستقبل الفاكهة من ذراعيه بشوقٍ ظاهر. غير أنه حينَ أطعمها بسرعة مفرطة، جمعت شجاعتها و تمتمت بخفوت:
“لا أستطيع الأكل بهذه السرعة…”
«……»
“رجاءً، أبطئ قليلًا فقط.”
حينها، صمت «زوجها» لبرهة، متجنبًا نظراتها، قبل أن يتمتم:
“إذًا، حتّى هذا النوع من الأمور يحتاج إلى أن أتعلمه.”
و معَ ذلك، بقي معها طَوال تلك الليلة.
ذلك كانَ زوجها في السادسة و العشرين.
و حتّى لو كانت رِقّته تلك نابعة من حملها بطفله، إلا أنها كانت مودة لا شكّ فيها.
واحدة من الذكريات القليلة الثمينة في حياتها القاحلة.
أما إيزار ، في الثالثة و العشرين من عمره، فلا يعرف شيئًا عن ذلك.
‘و في هذه الحياة … التي لا يتبقى منها سوى أقل من عام … لن يحدث هذا أبدًا.’
أدى هذا التفكير إلى وخز في عينيها، لكن الدموع لم تنهمر.
بل شعرت بصداع خفيف، فانحنت بصمت، تخفي رأسها.
عضَّ إيزار شفته حين رأى عنقها المنحني.
‘اللعنة … هذه المرأة تُجيد حقًا إفساد المزاج.’
لقد اعترفت “الراعية” بخطئها.
كانَ يظن أن هذا ما يريده … لكنه لم يشعر بأي راحة. بل ازداد تشتتًا.
‘و حتّى و هيَ تُخفي الأمر…’
كانَ واضحًا، واضحًا جدًا أنها متألمة، إلى حدٍّ يجعل من يراها يختنق.
من انحناءة كتفيها المنهارتين.
و من عنقها، المائل مثل زهرة ذابلة.
من صوتها المهذب … المفرغ من القوة.
لم يعُد الأمر مُجرّد شعور بالاختناق … بل ألم حارق في الحلق.
‘تُفقدني صوابي حقًا … كيف انتهى بي المطاف معَ هذه المرأة؟’
لماذا عليه أن يهتم بمشاعر امرأة يُفترض أنها لا تعني له شيئًا؟
لماذا؟ هل كانَ هوَ من رغب بهذا الزواج منها؟
هوَ من أراد امرأة ذات خلفية تُعينه على إعادة بناء مكانة عائلته.
‘و لم يكن من المفترض أن تكون هيَ.’
لكن الآن، كل ما يريده هو أن يُوقف الألم الذي يتسلّل من جسدها الصغير كـنبضٍ محسوس.
رفع بصره إلى السماء، ثُمَّ عقد العزم.
“هل هُناكَ ما ترغبين به؟”
“ماذا؟”
“هل هُناكَ شيء تُريدينه؟ لا تُجبِريني على التكرار.”
حسنًا، سيعترف بذلك.
لقد بالغَ في توبيخها بشأن تصرّف “ديـنيب”.
‘حتّى و إن بدت هادئة، فـهي لا تزال ساذجة للغاية.’
لكن بما أن الدوق لا يعتذر بسهولة، قررَ أن يُقدّم تعويضًا بدلًا من ذلك.
حينها، تمتمت الراعية بشفتيها الصغيرتين:
“شيء أريده…”
“نعم.”
فجأة، خطرَ له أنه سيكون جيدًا إن طلبت شيئًا مثل الملابس التي أعارَتها لها المركيزة.
‘ذلك المظهر لم يكن سيئًا.’
الملابس الخفيفة المنسدلة كانت تليق بها أكثر من تلك الضيقة المُغلّفة.
و لو رغبت، لمَ لا يمنحها ميزانية من أجل مثل تلك الأشياء؟
“إذًا، يا صاحب السمو…”
في تلك اللحظة، رفعت الراعية رأسها لتنظر إليه مباشرة.
نظرت في عيني إيزار من مسافة أقرب مما ينبغي. هل كانت عيناها مليئتين بالألم آخر مرة نظر فيهما؟
لكن الآن … ما الذي يدور في ذهنها و هُما تتلألآن بالأمل؟
للحظة، لم يستطع إلا أن يضمّ سرج الحصان بقوة في كفّيه.
لكن حينَ نظر، رأى شفتَيها الصغيرتين ترتجفان.
صغيرتان، لكنّهما تسبّبتا في شعور غريب بداخله، بلونٍ أحمر خافت، و على وشك البكاء … دون أن تسقط دمعة واحدة.
“خلال رحلة الصيد … هل لي أن أطلب أن نبقى معًا؟”
“ماذا…؟”
“خلال الصيد، هل يُمكنك … أن تبقى بقربي، أرجوك؟”
لعل إيزار لم يسمعها بسبب صوت حوافر الخيول؟
لذا شرحت فريسيا مجددًا بلُطف، تنطق كُلَّ كلمة بوضوح.
رغم ألمها، لم تكن لتُفوّت فرصة ثمينة جاءت فجأة هكذا.
‘لأنني سأكون جالسة بالقرب من العائلة الإمبراطورية خلال رحلة الصيد!’
صحيح أنهم كانوا يسخرون منها علنًا كـابنة غير شرعية، لكنها لا تزال من دوقية “أنتاريس”.
و لذا، خلال الصيد، ستُمنح لها مقاعد قريبة من مقاعد العائلة الإمبراطورية.
‘حينها … ظهرت الوحوش.’
تذكُّر ذلك اليوم أرسل قشعريرة على ظهرها.
رؤية الذئاب ذات العيون الستّ، و هيَ تنفث غازًا سامًا…
الفوضى، و صراخ الناس و هم يفرّون.
لحسن الحظ، كانت فريسيا قد تمكنت من النجاة في الوقت المناسب، لكن صورة تلك الوحوش ما تزال عالقة في ذهنها.
‘لكن إيزار كانَ قادرًا على القضاء عليهم.’
بحسب ما سمعته من همسات الفرسان، فإن الوحوش التي ظهرت في “ديـنيب” كانت من نفس النوع.
‘و سمعت أن إيزار لم يُواجه أي صعوبة في التعامل معهم.’
إذًا، إن حدث الشيء نفسه مجددًا …
و إن استطاعت إنقاذ أحد أفراد العائلة الإمبراطورية …
‘فـلن يستطيع ذلك الإمبراطور المتحجّر إنكار إصدار العفو الكامل عن الدوقية، أليسَ كذلك؟’
تضخّم قلبها قليلًا بالأمل.
و في تلك الأثناء، كانَ إيزار يعبس، إذ كانت عيناها الخضراوتين تتوهّجان بالأمل نحوه وحده.
كانَ يتمنى لو حافظَ على بعض المسافة، لكنها كانت قريبة جدًا لدرجة أنهُ لم يستطع تفادي نظراتها.
لماذا قد تطلب شيئًا كهذا كـمقابل؟
كانت لغزًا محيرًا.
لكنه بما أنه قالَ كلماته تلك، لم يعُد يستطيع التراجع.
“لا أستطيع أن أعدك. لا أعرف كيف سيكون الوضع ذلك اليوم.”
كانت إجابة باردة نوعًا ما.
لكن فريسيا كانت قد لمحَت بالفعل بصيصًا من الأمل.
‘أي بمعنى … إن لم يحدث شيء خطير، فـهو سيبقى بقربي.’
في الحقيقة، لم يكن لزامًا على ربّ الأسرة أن يتوغّل في الغابة من أجل الصيد.
حتّى و إن مثّله فارس آخر و صادَ الفريسة، فـسيُحتسب الإنجاز لصالح العائلة.
‘جيد، عليَّ أن أُعدّ خطة جيدة لذلك اليوم.’
ستحاول أن توجّه كل متغيّر ممكن لصالحها.
تحسّنَ مزاج فريسيا قليلًا، فـاستدارت برأسها بنعومة.
لكن إيزار بادرها بتوبيخٍ خفيف:
“عدّلي جلستك، الوضع خطير.”
“آه…”
بادرت فريسيا فورًا بالجلوس باستقامة و انحنت قليلًا إلى الأمام.
ظنّت أنه يُريد منها أن تجلس بشكلٍ أكثر اعتدالًا و تُحافظ على مسافة بينهما.
لكن أنينًا متعبًا تبع ذلك من الخلف:
‘هاه…’
ما الذي فعلته هذه المرة؟
مرتبكة، شعرت بيد إيزار تُطوّق خصرها فجأة.
“هل تُريدين أن تعضي لسانك عندما يبدأ الحصان بالجري؟”
و فجأة، أصبحَ رأسها مُلتصقًا بصدر إيزار.
“ووإذا انحنيتِ هكذا، فلن أتمكن من التحكم بالحِصان.”
“آه … نعم. آسفة.”
ذلك الاعتذار لم يكن بدافع كرامتها المجروحة.
بل من خفقان قلبها المفاجئ و حيائها الساذج الذي أربكها.
كانَ الأمر أقرب إلى الماضي…
أشبه بتلك الأيام التي كانَ فيها زوجها، في السادسة و العشرين، يتصرف بلُطفٍ مُرتبك معها…
دفءٌ اجتاح قلبها فجأة، و أحسّت برغبة في السؤال.
“يا صاحب السمو…”
همست فريسيا، و كادَ إيزار أن يرتجف دون وعي.
صوتها كانَ قريبًا لدرجة أنه شعر بأنفاسها تتراقص أسفل ذقنه مباشرة.
“ماذا…؟”
“ألا ترتدي سوار الخيط الذي أعطيتُكَ إياه؟”
“……”
“ألم يُعجبكَ؟”
عضَّ إيزار شفته مجددًا.
لقد احتفظ بذلك السوار في الجيب القريب من صدره، قريبًا منه دومًا كُلما تشوّشت أفكاره، تمامًا كما لو كانَ مسبحة.
‘لكن هذا لا يعني أنني أؤمن بالخرافات…’
و لم يُجب.
فاستنتجت فريسيا داخليًا.
‘آه … لقد رماه إذًا.’
رُبما قبله مجاملة، لكنه لم يحتفظ به إن لم يكن يُعجبه.
“إن لم يعجبكَ لونه … يمكنني أن أصنع واحدًا آخر—”
“لا داعي. توقّفي. كم مرّة عليَّ أن أُكرّر أنك لستِ مضطرة للتصرّف كزوجتي؟”
“نعم، يا صاحب السمو…”
أجابت فريسيا بخفوت، و أغلقت فمها.
ولم يتبادلا أي كلمات أخرى طوال الطريق.
لكن ذراع إيزار بقيت ملتفة حول خصر فريسيا.
التعليقات لهذا الفصل " 34"