سقط رأس ذئبٍ بستة أعين على الأرض محدثًا صوتًا خافتًا.
كانَ زعيم الوحوش التي عاثت فسادًا في الأراضي الزراعية التابعة لمقاطعة دينيب منذ فترة.
و بينما كانَ إيزار يمسح الدماء المقزّزة عن سيفه، اقترب الماركيز دينيب بابتسامة يغمرها الامتنان العميق.
“بفضل وصول الدوق، زالَ حملٌ ثقيلٌ عن كاهلنا. لم أشهد طوال حياتي وحشًا كهذا.”
“و الآن بعد مقتل الزعيم، يُفترض أن تتناقص أعدادهم قريبًا.”
“هذا ما يزيد الأمر طمأنينة…”
تنهد المركيز بارتياح، بينما اكتفى إيزار بالتحديق بصمت في الوحش الذي طرحه أرضًا.
كانت أراضي دينيب، المجاورة لدوقيته، معروفة بندرة ظهور الوحوش فيها.
“لا يفترض أن يظهر فيها سوى مخلوقات بحجم الأرانب.”
لكن ظهور هذا الذئب الغريب كانَ محيّرًا بحق.
وحش بهذه الخطورة ينبثق من العدم ويتخذ له عشًا؟
‘هل هُناكَ من يتلاعب بالوحوش؟’
لمعت الفكرة في ذهن إيزار للحظة، لكنه سرعان ما هزَّ رأسه و نفاها عن نفسه.
منذ أن منح آدمانت السحر للبشر، لم تُسجّل حالة واحدة خُرق فيها نظام الطبيعة إلى هذا الحد.
لا بُدَّ أن الأمر لا يتعدّى خللًا طفيفًا … لا أكثر.
و في تلك اللحظة، تحدث الماركيز مجددًا بابتسامة:
“من المعيب أننا أرهقنا سموّك هكذا في شهر عسلِك.”
“إنه ثمن استخدامي للنبع، لا داعي للقلق بشأن ذلك.”
“هاها، و سرورنا لا يُوصف و نحن نرى علاقتكم بزوجتكم الجديدة بهذا التوافق.”
لا بُدَّ أن في رؤوس هؤلاء القوم من دينيب أمرًا غريبًا، هل يجعل المناخ المعتدل أدمغتهم تُزهر ؟
‘أن يظنوا أن علاقتي بتلك المرأة التي تركتُها خلفي تبدو ‘جيدة’؟ ما هذا الهراء.’
و رغم هذه الأفكار، كانَ إصبع إيزار يعبث بسوارٍ خيطيٍّ بسيط.
ليسَ لأنه يحبه.
لكن قماشه الخشن كانَ يبعث في نفسه شيئًا من السكينة بعد أن واجه ذلك الوحش المشوّه.
تمامًا كما يفعل الكهنة حينَ يعبثون بحبات المسبحة أثناء الصلاة.
و عندما حانَ وقت العودة إلى قصر دينيب، كانت الشمس قد مالت نحوَ الغروب.
“على أيّ حال … على الأرجح ستكون هذه آخر مرّة نجتمع فيها.”
و لم يكن هناك حاجة لقضاء الوقت في قاعة الولائم معَ الفرسان، متجنبًا الكل.
لذا، صعد إلى غرفة الضيوف، تمامًا كما فعل في المرة السابقة.
“لقد عُدتَ، يا دوق.”
رغم أن الترحيب الذي استقبله به كانَ بسيطًا، إلا أن أذنيه التقطت نبرة جعلتهما ترتجفان.
‘لعلَّ السبب أنَّ صوت تلك المرأة واهٍ إلى هذا الحد.’
أقنعَ نفسهُ بذلك.
حتّى منظر قميص نومها الأبيض المتراقص حول كاحليها النحيلين بدا مزعجًا.
‘ليسَ لأنه لا يليق بها.’
بل لأن شيئًا خُلق ليُرى مرّة، يجرؤ على أن يُطلب له نظرة ثانية.
منذ أن بعثت فيه تلك المرأة شعورًا غريبًا، اصبحَ بصره يسرح نحوَ زوايا غير مألوفة.
لكن ما إن حوّل إيزار بصره عنها، حتّى عبس وهو يلحظ ما على الطاولة الجانبية.
“ما هذا؟”
“آه…”
على الطاولة الصغيرة، كانَ هُناك صحنٌ صغير مكدّس بفاكهة.
و في اللحظة ذاتها، احمرَّ وجه الراعية حتّى لامس الاحمرار أذنيها.
لاحظَ إيزار، فجأة، أنه حينَ يحمرّ وجهها، يحمّر معه الجلد الرقيق لعنقها و أذنيها.
حتّى شفاهها الصغيرة، التي بدت غير متناسقة معَ كبر عينيها، تلوّنت بوهجٍ أحمر …
و الكلمات التي تمتمت بها، جعلت صدغيه يخفقان بالضيق.
“السيد دينيب أعطاني إياها. قالَ لي أن آكل منها المزيد إن أردت.”
“دينيب … قالَ لكِ أن تأكلي ‘المزيد’؟”
“نعم، أخبرته أنها فاكهتي المفضلة.”
“هاه.”
نظرَ إيزار إليها باشمئزاز خفيّ، ثُمَّ خطا بثبات إلى ما وراء الحاجز الذي يفصل غرفة النوم عن الحمّام.
‘صحيح، بدا أنها تُحبّها حقًا.’
رآها تأكلها بنهم، كـطفلة، عند النبع.
‘لكن معَ ذلك، من ذا الذي ينظر إلى فاكهةٍ بريّةٍ عادية بهذه العاطفة؟’
كانت الراعية تتعامل معَ حبات التوت التافهة كما لو كانت تحفًا زجاجية دقيقة، تحتاج إلى أن تُمسك بكلتا اليدين بحذر بالغ.
ازداد عنف حركاته و هوَ ينزع قميصه الضيق عن جسده.
يا لها من امرأة سخيفة.
بعد أن نظرت إليه بتلك العينين …
للحظة واحدة، بدت فاتنةً حدّ الاختناق، كما لو كانت قادرة على تشويش أفكاره.
هل في عينيها نوع من السحر؟ ذلك النوع من العاطفة الدافئة التي، حينَ تُلقى على المرء، تنفخ في نفسه غرورًا خفيًّا؟
و تستخدم تلك النظرات فقط … من أجل فاكهة؟
من أجل طعام عادي؟
أم أنه بسبب الشخص الذي قدّم لها الفاكهة…؟
و فور أن وردت الفكرة إلى ذهنه، اندفعت حرارة غريبة تحت جلده، كأنَّ ماءً باردًا صُبَّ عليه فجأة.
لا تفكّر في الأمر.
إنها امرأةٌ سيُنحّى أمرها عمّا قريب.
امرأةٌ لا تليق إلا بأن تُنتزع من أمام ناظريه.
فما شأنه بما ستؤول إليه بعد ذلك؟ أو إن كانت تُكنّ شيئًا لرجلٍ آخر؟
و معَ ذلك…
عضّ إيزر شفتَه بقوة.
كانَ الغضب يتأجج داخله … غضبٌ غريب عليه، لا يعرف له اسمًا.
منذ أن ورث لقب الدوق في سنّ العاشرة، جرّب طعم الغضب مرارًا.
لكن هذا … لم يكن غضبًا مألوفًا.
و بعدَ أن بدّل ثيابه، أزاحَ الستار بعنف و سارَ نحوَ الراعية بخطى ثقيلة.
فاجأها دخوله، فـاحمرّ وجهها قليلاً حين وقعت عيناها عليه. في المرة الأولى، كانَ يجد رؤية ذلك الأحمرار ممتعًا ، أما الآن … فـالأمر باتَ مختلفًا.
و قد قرر أن يُذكّرها ببرودٍ قاسٍ:
“أتفهّمين أن الحنين إلى تلك التلال لا يُبرر أن تظلي شاردة العقل إلى هذا الحد؟”
“مـ … معذرة؟”
“فكّري في الأمر جيدًا. كيفَ يبدو أن تقبلي أشياء من رجلٍ غير زوجك بسعادة؟”
“لم أقبلها بتلك النية … لقد كانت لفتة طيبة فحسب …”
“و كأنّ أركتوروس لم يشتهر بما فيه الكفاية بزوجةٍ تُلقي بنظراتها على رجالٍ آخرين.”
“……!”
دفعَ إيزار الصينية المزعجة بعيدًا عن الطاولة الجانبية بضيق.
و بعد أن نطق بتلك الكلمات، امتلأ فمه بطعمٍ سامٍّ كريه.
ذاك “الأخ غير الشقيق” لم يكن معروفًا سوى لقلة قليلة داخل قصر الدوق، لكن مجرد ذكره كانَ كافيًا ليبعث في نفسه اشمئزازًا خانقًا.
‘أيعقل أن تُروى مثل هذه الأحاديث في عهدي أيضًا؟’
خفضت الراعية رأسها، و شدت بيديها على ثوبها.
انتظر إيزار أن تعتذر بعد لحظات، أن تقول ببساطة : “أنا آسفة، لم أكن واعية”.
لكن حينَ بدأت تلك الشفاه الصغيرة تتحرك، ارتسمت الحقيقة فجأة في ذهنه.
“أنتَ من قالَ لي ألا أتصرف كـزوجة، يا دوق…”
كانت هذه المرأة تملك قوة خفية، و بتلك القوة، استطاعت أن تحتمل وخزات الشوك حينَ اجتاحتها الرياح.
تطلّع إيزار إلى الراعية بنظرة قاسية، و كأنه يوبّخها.
“و هل أخذتِ كلامي ذاك كـإذنٍ لكِ لتتصرفي بوقاحة أمام الآخرين؟”
“ليسَ الأمر كذلك، لم أفعل شيئًا مشينًا … فقط … الفاكهة تنضج باكرًا هُنا…”
ارتجف صوتها بقدر ما ارتجفت يداها المتشبثتان بثوبها.
“لِمَ … لِمَ تتحدث و كأنني امرأة تتطلّع بعينيها إلى رجالٍ آخرين؟”
“و هل يختلف تصرفكِ الآن عن ذلك؟”
“…….”
“أجيبيني بوضوح.”
عندَ كلماته، رفعت الراعية عينيها إليه بتردد.
كانَ قد لاحظَ سابقًا، لكنَّ عينيها واسعتان بشكلٍ غير ضروري. و ذلك الاتساع كشفَ الكثير من المشاعر … بشكلٍ فج.
حينَ تتلألأ بجمالٍ ناعم، فـالأمر مقبول.
لكن حينَ تموج بالألم … فإنها تلوِي أعماق الناظر إليها.
و لو كانت لا تزال ميتة النظرات كما كانت في البداية، لكان الأمر أفضل.
“إمّا أن تأكليها فورًا … أو أزيليها من أمام ناظري.”
“……”
“سنغادر غدًا، فلا تفكّري حتّى في التذمّر.”
و دون أن ينتظر ردًّا، مضى إيزار إلى جانب سريره.
غريب…
ظنَّ أن تنفيس غضبه سيهدّئ الاضطراب في صدره، لكنه، حتّى بعد أن تفوّه بكل ما قاله، شعر و كأن لهبًا جديدًا اشتعل داخل صدره.
لو أنها فقط قالت، “أنا آسفة، لم أُفكّر في كيفَ سيبدو الأمر”، لما وصلَ الأمر إلى هذا الحد.
كانَ يعلم أن دينيب أبله مفتون بالحُبّ السطحي و اللُطف المصطنع.
أن تنظر إليه بعينين متأججتين بذلك الإخلاص … ثُمَّ تضيء عيناها مجددًا عند رؤية هدية من رجل آخر؟ كانَ ذلك كافيًا ليشعل النار في صدره.
اللعنة.
لِمَ يفسد اللحظة الأخيرة بعد كل ما بُذل من مجهودٍ وعناية؟
شعر و كأن عينيه في مؤخرة رأسه، يترقّب ردّ فعلها، و كأنه ينتظر منها أن تبدأ بالبكاء بصمت.
لكن المرأة… لم تبكِ.
و ذلك، و إن جلبَ له بعض الارتياح، جعله أيضًا يتمنى لو أنها فعلت.
لو بكت، لكان بوسعه أن يدّعي شيئًا من اللين، أن يقول: “ربما بالغتُ قليلًا”.
كانَ بوسعها أن تنتظر حتّى العودة إلى أركتوروس لتأكل تلك الفاكهة بدلًا من قبولها هُنا.
و كانَ سيمكنه أن يحذرها من مدى خطورة تلقي اللُطف من دينيب أو رجال العاصمة، و مدى الأثر الذي قد يتركه ذلك على سمعتها…
ما الذي أفكّر فيه أصلًا؟ … كفى. لا جدوى من هذا.
فـلتخالط الرجال كما تشاء … بعد أن تُطرح خارج حياته.
فـهي لا تعني له شيئًا.
حقًا.
—
ظلّت الشموع تتراقص بوهجٍ خافت حتّى وقتٍ متأخر من الليل، في غرفة الصلاة بمعبد دينيب.
كانَ الكاهن، الذي رافق الشابة في صلواتها، لا يزال غارقًا في الدعاء لإلههم، أدامانت.
و كانَ ضوء الشمعة يُلقي بظلالٍ قرمزية كـالدماء على شعره الفضيّ النقي.
و دون أن يلتفت، سألَ الكاهن بهدوء الرجل الذي اقترب خلفه بخطًى بطيئة:
“كيفَ كانت قوة دوق أركتوروس؟”
“قضى على الذئاب بالكامل … و قطع رأس قائدهم بضربةٍ واحدة.”
كانَ يقف خلف الكاهن رجلٌ بزيّ مرتزقٍ أسود، و على الرغم من أنه بدا أكبر سنًّا، فقد حملت تصرفاته احترامًا بالغًا.
تنهد الكاهن بحرقة، ثُمَّ استدار ببطء.
“هذا … مؤسف للغاية. لقد كانَ فتىً عزيزًا عليّ… و شريكته ستحزن كثيرًا.”
“أعتذر، يا لورد كانوبوس.”
“لا بأس … بفضلك، تمكّنا من قياس قوّته.”
في الأصل، كانَ من المخطط في دينيب إجراء بضع تجارب خفيفة لاستدعاء الوحوش فحسب.
غير أن زيارة إيزار أركتوروس، الذي نادرًا ما غادر أراضيه، قد غيّرت مسار الأمور، فقرروا تصعيد حدّة الاختبارات.
“سيتوجّب علينا تجهيز وحوش أقوى من الذئاب لمهرجان الصيد، حضّروا كل شيء بدقة.”
“نعم، يا لورد كانوبوس. بالمناسبة…”
تردد التابع للحظة، قبل أن تغلبه فضوله، فـتجرأ و سأل:
“كيفَ كانت رؤيتكم لـ زوجة اخيكم؟”
“……”
“سمعت أنها جاءت لتصلي في المعبد.”
“زوجة اخي، هاه…”
في تلك اللحظة، تراقص ضوء الشموع في الغرفة المظلمة بصمتٍ خافت. الوجه الذي أضاءه النور ظلَّ هادئًا، و فيه وقارٌ و إيمان.
لكن الجانب الذي التهمته العتمة، ارتسمت عند طرف شفتيه ابتسامة خبيثة، التوت كـأفعى تترصّد فريستها.
“يبدو… أننا متشابهان أكثر مما كنت أظن.”
التعليقات لهذا الفصل " 32"