حينَ داعبت شمسُ العصرِ المتأخرة أبراجَ قلعة “دينيب” الشاهقة، كانَت قد أُعدّت طاولة شاي صغيرة في الفناء الداخلي للقصر.
و بينما كانَ “ألبيريو”، نجل هذه العائلة، يبتسم ببشاشة، بدت السيدة الجالسة قبالته شاحبةً بعض الشيء.
و في النهاية، وافقت الدوقة على مشاركته الشاي في الفناء.
و معَ ذلك، لا بُدَّ من الإشارة إلى أنها حاولت الانسحاب مرّة أخيرة قبل أن تذعن.
<سير دينيب، أنا متزوجة بالفعل … فـلماذا ينبغي أن نكون وحدنا؟>
<سيدتي، ما أقسى هذا القول! أي فكرةٍ جديّةٍ تخالجكِ؟>
<أنا فقط أتعامل بإخلاص معَ ضيفة عزيزة. و أفكّر كم هوَ مؤسف أن تُهان جبهتي و كرامتي معًا في آنٍ واحد …>
<لا، لا بأس … لنتناول الشاي.>
نادراً ما يفلت أحد من قبضته حينَ يقرر “ألبيريو” أن يكون ساحرًا بطريقته الماكرة. تنهدت الدوقة و أزاحت عن وجهها الحجاب الذي كانت ترتديه في المعبد.
“سير دينيب، هل دعوتني حقًا بسبب ما حدث عند الينبوع؟”
“هذا أحد الأسباب، نعم.”
“و هل لي أن أعرف الأسباب الأخرى؟”
نبرتها كانت حذرة، لكن عينيها كانتا تفتشان، و كأنما تسألان : “هل يتعلّق الأمر بدينٍ ما؟”
ضحك “ألبيريو” بمرح، و أجاب :
“فقط أردت قضاء بعض الوقت معكِ، سيدتي!”
“بأي معنى…؟”
“ألا ترين أنه أمر مثير للاهتمام؟ نحن مفيدان لبعضنا.”
بدا أن الدوقة لم تفهم شيئًا، و اكتفى “ألبيريو” بالضحك و هوَ يرى تعبير الحيرة على وجهها.
حقًا، كل من ينحدر من إقليمكم متصلّبون للغاية لدرجة أنهم يجهلون أمورًا كهذه.
قرر “ألبيريو” أن يشرح بلطف :
“المتعة التي تنبع من صداقة الرجال تختلف عن تلك التي تأتي من الأُنس بالنساء. و أنا أستمتع بعطف النساء.”
“أمم…”
“و لا أملّ أبدًا من المديح لجمالي أو شخصيتي.”
“و ماذا لو تلقّيتَ تحدّيًا لمبارزة بسبب ذلك؟”
“لا بأس، فأنا لا أتجاوز الحدود أبدًا.”
في البلاط، كانَ هُناكَ رجالٌ يلقون بكلمات مغازلة عابرة على النساء، و أحيانًا يتجاوزون الخط. هؤلاء، بنظر “ألبيريو”، أدنى من أن يُحترموا.
و أحيانًا نادرة، هُناك من تتحوّل مشاعره حقًا إلى حُبّ صادق. مثل هؤلاء، ليسوا فقط أدنياء، بل مبتذلون أيضًا.
أما هوَ، فـيستطيع الجزم أنه ليس من هذا الصنف و لا ذاك.
“النساء يلجأن إليّ لقضاء وقتٍ ممتعٍ و خفيف، و غالبًا كـوسيلةٍ لاستفزاز أزواجهن الباردين، و أزواجهن يعلمون ذلك، لذا لا دماء تُراق.”
“سيدي، أنت حقًا…”
“حقًا ماذا؟”
قطّبت الدوقة حاجبيها و هيَ ترفع فنجانها:
“تشبه البجعة …”
“آه. هل أعتبر هذا إطراءً، بأنك ترينني نقيًّا كـطائر أبيض؟”
“اعتبره كما يحلو لك، و بما يرضي غرورك.”
“هاها!”
ضحك “ألبيريو” ضحكة صافية من أعماقه. كانت عودته إلى المنزل قرارًا عبثيًا، لكنه وجد محادثة ممتعة على نحو غير متوقع!
و عيناها، ما أجملهما!
كانَ قد فكّرَ بهذا من قبل، لكنه أعادَ التفكير فيه الآن و هوَ يجلس أمامها.
شعرها الكتّاني، و رموشها، كانت تلمع بخفّة تحت أشعة الشمس.
ليست راقية كـالأميرة “أتريا” التي يُقال إنها أختها غير الشقيقة، و لكن …
لو أنها نشأت كـنبيلة منذ صغرها، لربما أصبحت الحبّ الأول للعديد من شباب الطبقة الأرستقراطية.
همم. لكن أولئك الذين نعتوا السيدة بالقبح … هل رأوها بأعينهم فعلًا؟
حتّى في حفل الزفاف، لم يتوقف القوم طوال الليل عن مقارنتها بالسيدة الدوقة “الحقيقية”، مشيرين إليها على أنها مجرد “لقيطة” لا تمت للأناقة بصلة.
حتّى الآن، سمع بعض فرسان “أركتوروس” يتمتمون أثناء مرورهم
و كأنما هيَ كارثة نزلت على الإقليم بسبب “فرخ البجعة القبيح” ذاك.
يا للسخافة. أليست مهمة صيد الوحوش من الأساس منوطة بعائلة سيدهم؟
أطلق “ألبيريو” شخيرًا ساخرًا، و هوَ يتأمل في “القبح” الذي لا يزال الناس يتداولونه بلا فهم.
و حينَ أعاد النظر إلى السيدة مرّة أخرى، أدرك السبب الذي دفع الناس لإطلاق ذلك النقد القاسي بحقّها.
ذلك لأن الحياة كـعامية أنهكتكِ و طبعت آثارها على ملامحك.
في إمبراطورية سيليستيكا، كانت حياة العامة شاقة بطبيعتها.
من سحب الماء فجرًا، و إشعال النار، و حتّى أداء شتى المهام المرهقة لسادة الإقليم.
تمرّ سنوات الشباب كـالريح، و مهما بلغت المرأة من جمال، فإن الإهمال و التعب ينحت ملامحها بجلافة و يجعلها تبدو رثّة.
لهذا السبب، بدت تلك المرأة في أعين النبلاء و الفرسان “قبيحة”.
لكنها الآن، سواء وُلدت غير شرعية أو لا، أصبحت “سيدة” بالفعل.
و حينَ تنعّمي بالخدم و يهدأ جسدك، ستتزحزح عنكِ تلك القشرة المتعبة كما تتقشر قشرة الثمر، أليسَ كذلك؟
ابتسم “ألبيريو” ساخرًا في نفسه، واثقًا أن نظرة الناس ستتغير لاحقًا.
لأنه هوَ من تنبّه إلى كونها جوهرة خام قبل الجميع!
و كانَ ذلك أشبه برؤية القيمة المستقبلية لتحفة فنية لم يُكتشف بريقها بعد.
أتساءل، كيفَ سيكون الشعور حينها؟ هل ستبقى تلك الرجفة التي شعرتُ بها عند الينبوع؟
و لو حدثَ أن ذهب هوَ و “فريسيا” إلى بلاط الإمبراطورية كـثنائي …
ألن يتجرّع الدوق الكثير من العناء حينها؟
تذكّر “ألبيريو” وجه الدوق المتجهم دائمًا، فـضحك في نفسه.
هاها، سيكون ذلك ممتعًا.
لكن ابتسامته تلاشت، ما إن تذكّر ما رآه عند الينبوع.
آخر ما علق في ذهنه، كان آثار الجروح البادية على ساقيها.
و كأن أحدهم جلدها مؤخرًا…
ارتشف “ألبيريو” رشفة من شايه بصمت، محوّلًا بصره بعيدًا.
عادةً، كانَ يستمتع بالمغازلة العابثة معَ النساء.
لكن لكي يحافظ على المتعة ضمن الحدود، عليه ألا يتخيل أسرارًا مظلمة لا تُقال.
غير أنه الآن … لم يعد يتخيل، بل رأى بعينيه.
هل يُعقل أن الدوق هوَ من فعل ذلك؟
كانت والدته تملك بعض الظنون على ما يبدو.
و حينَ سألها عرضًا ذات مرّة، تفجّرت بالشكوى كأنها كانت تنتظر الفرصة :
<ومن غيرها يمكنه فعل ذلك هُناك؟ “إلكترا أركتوروس”، تلك المرأة التي تُشبه الخنزير الوحشي.>
كانت كلمات قاسية للغاية تصدر من والدته، رغم طيبتها المعتادة. لكن في الحقيقة، لطالما أبقت عائلة “دينيب”مسافة بينها و بين “أركتوروس”.
كانوا يزورون العاصمة البعيدة، لكنهم يتحاشون الاحتكاك بالعائلة الرفيعة تحت ذريعة أن “الجبال يصعب عبورها”.
<سواء الدوق السابق أو زوجته الثانية … يجلسون على عروشهم بتعالٍ، و كأن جفاؤهم فضيلة، لكنهم في ذات الوقت لا يدركون أنهم لا يجيدون سوى امتصاص دماء الآخرين.>
هكذا اغتابت الماركيزة عائلة أركتوروس، ثُمَّ شرعت تروي لابنها قصصًا من الماضي.
كأن تخبره مثلًا، كيف أن الدوق السابق جلب امرأة بالقوّة دون خِطبة، و انتزع بمكر موافقة الإمبراطور على زواجه بها.و من ذلك الزواج وُلد “إيزار أركتوروس”.
لكن رغم عناء جلبها، قوبلت السيدة بنظرات دونية و معاملة قاسية، فقط لأنها من عائلة فقيرة.
<من الطبيعي أن تهرب الزوجة الأولى. كانَ الدوق السابق قاسيًا بشكلٍ مرضي. لكن المشكلة أن الرجل الذي هربت إليه كانَ متمردًا.>
و كانَ مصير الحبيب الهارب معروفًا للجميع، إذ قُتل بطريقة مأساوية على يد الدوق نفسه، بعد أن اكتشف خيانة زوجته.
نهاية حزينة لبطلٍ لُقّبَ يومًا بـ “أعظم مبارز في الإمبراطورية”.
<لكن، هل يعرف الدوق الحالي بكل هذه التفاصيل؟>
“ألبيريو” فكّرَ بصمت، ثُمَّ استنتج في داخله أنه على الأرجح لا يعلم.
فـكما يُقال، “الذراع تميل لصاحبها”، و من غير المحتمل أن تُخبر “أركتوروس” امرأة غريبة عن أسرار بيتها.
أما العائلات الأخرى التي عاصرت تلك الأحداث، فـمكانتها أدنى من بيت الدوق، و لن تجرؤ على نشر تلك الفضائح.
و في تلك اللحظة، لاحظ “ألبيريو” أن الدوقة كانت تحدّق طويلاً في حديقة عائلته.
نظراتها كانت مركّزة على شجيرة توت العليق.
لقد كانت تستمتع بتلك الثمار كثيرًا عند الينبوع.
ارتسمت ابتسامة خفيفة على وجهه، ثُمَّ أومأ للخادم ليقطف بعض الثمار، و سألها:
“هل تحبّين توت العليق، سيدتي؟”
“نعم …”
رفع “ألبيريو” حاجبَيه عند ردّها المتأخّر.
كانت نظراتها قبل قليل مختلفة، غريبة … لا تشبه مجرّد الإعجاب بفاكهة.
حدسي يخبرني …
لا بُدَّ أن لهذه الفاكهة قصة مرتبطة بزوجها.
“آه، هل قطفها لكِ الدوق من قبل؟”
“……”
“أوه؟ هل أخطأت؟”
و أخيرًا، تراخى الجمودات على وجهها.
“لا، أصبتَ بالفعل يا سيدي. فقط … فوجئت بك تخمّن الأمر هكذا.”
“فهمت … همم؟”
مالَ “ألبيريو” برأسه قليلًا حينَ رأى الخادم يضع التوت في طبق السيدة.
كانَ هناك شيء لا يتطابق معَ توقيت الموسم.
“هل قطفها لكِ الدوق هذا العام؟”
“……”
“مقاطعتنا تُثمر مبكرًا عادةً، بفعل الطقس الدافئ.”
“آه، لم يكن هذا العام، بل … أممم…”
بدأت تحرّك الثمار بالشوكة في طبقها.
و من نظراتها، و لمسة أصابعها، شعر “ألبيريو” بذلك.
كانت الدوقة تستعيد ذكرى ثمينة، لكنها مليئة بالحزن و الحنين.
“إنها ذكرى لا أظن أحدًا غيري يتذكرها … لقد نسيها هوَ تمامًا.”
“همم… “
“سأتناولها بكُل امتنان. شُكرًا لك، سير دينيب.”
ابتسمت الدوقة بهدوء، و شرعت تأكل التوت حبّة بعد حبّة.
أما “ألبيريو”، فـاكتفى بمراقبتها بصمت.
كانَ يفرض على نفسه قاعدة صارمة في مغازلة النساء.
ألا يتجاوز الحد.
ليس فقط الحد الجسدي، بل حتّى تجاوزه نفسيًا كانَ أمرًا سوقيًا بنظره.
ولهذا، استطاع “ألبيريو دينيب” أن يعيش كـالطائر، يلامس سطح الماء بخفة دون أن يغرق فيه.
لكن الفضول مسموح، أليسَ كذلك…؟
لماذا تنظر عروس مُحِبّة بتلك العينين الحزينتين؟
و لماذا تحب رجلًا يجعلها هكذا؟
أنهى “ألبيريو” فنجانه، ليتجنّب طرح أسئلة تتعدّى الخط الأحمر.
ربما ترك الشاي ينقع طويلًا، إذ بدا مذاقه مُرًّا هذه المرة.
فريسيا لم تكن في الأصل تحب التوت.
“كنت سأأكلها لو كانت هُناك، لكنني لن أبحث عنها بعناء.”
لكن في حياتها السابقة، حينَ كانت حاملًا بطفلها، كانت ترغب فيها بشدة لدرجة أنها شعرت و كأنها قد تموت، خاصة و أن الثمار لم تنضج بعد في إقليم “أركتوروس”.
في البداية، ظنت أنها تستطيع تحمل الأمر.
لكن حالتها كانت سيئة جدًا لدرجة أن “زوجها” سألها مباشرة عن ما تود تناوله.
<بصراحة، أنا أتوق لتوت العليق …>
<……>
<أعتذر. لن أطلبها بعد انتهاء هذه الفترة.>
عندما خفضت رأسها بخجل، لم يقل شيئًا. و بعد أيام قليلة من مغادرته القلعة، عادَ إليها في وقت متأخر من الليل.
كانت الصينية التي حملها مليئة بالثمار ذات اللون الوردي الفاتح.
<……؟>
<هل ظننتِ أنه كانَ عليكِ التحمل لأنكِ لم تستطيعي الحصول على هذه الأشياء التافهة؟>
<من أين جلبتها…؟>
<ليس المهم من أين جلبتها.>
أجاب بشكل جاف، لكنه قرب الصينية إلى الطاولة الجانبية أمام فريسيا.
<ها هيَ. إذا كنتِ بحاجة إلى المزيد، فقط قولي.>
<……>
<لماذا؟ ألن تأكليها الآن؟ أم أنكِ تريدين شيئًا آخر؟>
<دوق.>
همست فريسيا و هيَ تبسط كفّ يدها.
رُبما بسبب حملها، كانت مفاصل أصابعها متورمة.
<يداي منتفختان، و الألم شديد … هل يمكنك إطعامي؟>
في ذلك الوقت، أصبح “زوجها” أقل حديثًا و لم يرفع الحواجز القاسية الباردة التي كانَ يضعها سابقًا.
فـجمعت شجاعتها لتسأله المزيد …
لكن ما حدث بعد ذلك كان بعيدًا عن توقعات فريسيا.
جلسَ بجانبها، مما سمح لها بأن تضع رأسها على صدره، و بدأ يطعمها بنفسه.
كانَ يمسح العصير من شفتيها بيده، و لم يدفعها بعيدًا عندما لامست رأسها جسده بلطف.
و رغم أن لمساته كانت بعض الشيء غير متقنة، إلا أنه كانَ يدعم ظهرها أيضًا.
تلك الليلة، ظلَّ الاثنان صامتين و هما ينظران إلى سماء الليل عبر النافذة.
كانت السنوات الثلاث معَ “زوجها” هكذا…
لو كانت مظلمة من البداية إلى النهاية، لكانت قد كرهته حقًا، بغض النظر عن الحب من طرف واحد في الماضي.
و حتّى لو منحها الآلهة فرصة، رُبما كانت قد اختارت الموت بدلاً من ذلك.
هل كنت سأفكر في الهروب حتّى لو جاءت الدوقة “أنتاريس” لتطاردني؟
ثُمَّ لرُبما كانت حياة مختلفة قد انفتحت.
لكن حتّى في أظلم الليالي، سـتلمع نجمة أو اثنتان، و أحيانًا تتلألأ نجوم عديدة مثل الجواهر البيضاء.
كانَ هُناك سبب واحد فقط لتكرهه، و لكن الأسباب التي تجعلها تحبه كانت تزداد دونَ أن تشعر.
تمامًا مثل النجوم التي كانا ينظران إليها معًا في سماء الليل.
التعليقات لهذا الفصل " 31"