كما قالت، توجهت فريسيا إلى معبد مقاطعة دينيب، برفقة السير دريك و ثيا فقط، و قد غطّت وجهها بحجابٍ بسيط مراعية مظهر الخروج المتواضع.
‘لا أريد التسبب بأي بلبلة هُنا.’
في الحقيقة، كانت ترغب بزيارة معبد العاصمة منذ زمن بعيد، لكن بعد زواجها، قُيّدت حركتها،
و لم تستطِع أن تقدم تحية للآلهة إلا الآن.
رفعت فريسيا رأسها نحو الشعلة المقدسة العظيمة.
هُناك، رأت ابتسامة آدمانت الرحيمة، الذي منحَ السحر للعائلة الإمبراطورية بيتلغوس.
كانَ الحاكم، كما يُقال، يتجلى بنور النجوم، يغمره وهج فضيّ من رأسه حتّى أخمص قدميه.
لم تكن فريسيا متأكدة إن كانَ هذا حقًا مظهره الحقيقي، لكنها انحنت بانحناءة مفعمة بالخشوع.
‘لا أعلم لماذا منحتني هذه الفرصة، لكنني سأبذل جهدي … أرجوك أيضًا، اعتنِ بروح طفلي جيدًا.’
إذ لم تُمنح فرصة لاحتضان صغيرها مرّة أخرى في هذه الحياة، كانت تأمل أن يحظى بالسعادة إلى جوار الإله.
ثُمَّ، ترددت قليلًا قبل أن تضيف :
‘… أرجوك، اعتنِ بروح والدتي أيضًا.’
لو سألها أحدهم إن كانت تحب والدتها،
لترددت كثيرًا في الإجابة.
فإن أرادت الصدق، فـهيَ كانت لا تحبها.
كانت والدتها قد نبذتها عن الناس بسبب جنونها و إعاقتها.
و في حياتها السابقة، و في أكثر لحظاتها تشوهًا،
شعرت بالارتياح حينَ فقدت أحد من الذين يعاملوها بقسوة.
‘لكن والدتي، رغم كل شيء، حاولت أن تعتني بي.’
سواء كانت والدتها فعلاً من النبلاء الساقطين أم لا، فـمن الذكريات المتناثرة لطفولتها، كانت تذكر محاولاتها البائسة في تدبير أمور المنزل، و إرهاقها حتّى اهترأ جسدها.
و تذكر تلك اللمسات الخفيفة فوق رأسها و هيَ تبكي.
مهما كانَ بكاؤها مكتومًا، كانَ صوت البكاء الخالي من اللسان حزينًا على نحوٍ لا يُحتمل.
و من تلك الأوقات، تعلمت فريسيا كم يكون تحطم الإنسان مريعًا حين يُلقى به إلى هوة اليأس.
لذلك، كانت ترى أنه من الظلم أن تُقتل والدتها على يد الدوقة أنتاريس وتُترك جثتها لتتعفن.
‘و لكن …’
توقفت فريسيا عن الدعاء، و أمالت رأسها قليلًا نحو الشعلة المقدسة.
‘هل قام آدمانت بمحو ذكرياتي قبل موتي؟’
منذ أن انتابها شعور الديجافو عند وداع إيزار،
راحت تفكر أحيانًا بتلك الفترة.
كانت ذاكرتها كما هي :
الطفل الميت، إيزار و هوَ يغادر الغرفة.
ثُمَّ محاولاتها لاستجماع قواها مجددًا لتؤدي دور “الدوقة”.
غير أن ذكرى “كيفية موتها” في ذلك اليوم الأخير، ظلت فراغًا مريبًا.
‘إن لم أستطع تذكر تلك اللحظة، فهل تعمد آدمانت محوها؟’
لكن لماذا؟
هل كانت وفاتها مروعة إلى هذا الحد … ؟
‘لكن جسدي لم يكن يبدو تالفًا تمامًا …’
ارتجفت فريسيا بقشعريرة اجتاحت جسدها عند الفكرة المروعة.
و فيما كانت تحاول استرجاع ذلك الزمن،
تذكرت الصوت الذي سمعته حين مُنحت فرصة العودة.
<لأجل رغبتك و رغبتي، أسألك :
هل ستسيرين مجددًا في عالم الأحياء،
حتّى و إن كان الموت أهون لكِ؟>
‘أنا أعرف ما هي رغبتي … لكن ما هي رغبة الإله؟’
و في تلك اللحظة، اقترب منها كاهن كانَ يؤدي الصلاة في الغرفة.
“لتكن بركة آدمانت معكِ، سيدتي.”
“و لتكن معكَ أيضًا، حضرة الكاهن.”
رفعت فريسيا رأسها، و قد فاجأها مظهر الكاهن.
كانَ شابًا ذا شعر فضي نقي و عيون حمراء عميقة، يعلو وجهه المخلص وقارٌ نادر،
و جسده العريض يكاد يناسب فارسًا أكثر من كونه كاهنًا.
لكن أكثر ما أدهش فريسيا كانَ شبابه.
‘واو… إنه شاب جدًا. رُبما في مثل سني؟’
لمعت عيناها خلف الحجاب بإعجاب صادق.
‘لا بُدَّ أنه شخصٌ موهوب للغاية.’
فبين قوى “السحر” التي يهبها آدمانت، كانت القدرة على شفاء الأمراض أحيانًا ما تظهر، بغض النظر عن النسب.
كانَ أولئك الذين يظهر فيهم أثر السحر يُصبحون كهنة، لكن بما أن عليهم أن يُتموا دراسات عقائدية شاسعة، فـلم يكن بإمكانهم أن يُرسَموا كـكهنة رسميين إلا في منتصف أعمارهم عادةً.
‘نحن في العمر نفسه تقريبًا … و معَ ذلك، كم هو شخص عميق العلم …’
و في تلك اللحظة، التفت الكاهن نحوَ فريسيا و ابتسم لها بلطف.
“لقد كُنتِ تُصلّين لوقتٍ طويل، لا بُدَّ أن لديكِ الكثير مما يشغل بالكِ.”
“كنت أدعو من أجل سلام عائلتي، فـانهمرت الأفكار في رأسي بلا نهاية.”
هز الكاهن رأسه بتفهم.
“هذا قلق مشترك بين كثيرين ممّن يأتون إلى هُنا.”
“نعم … ثُمَّ، وجدت نفسي أطيل الدعاء لأن أمرًا ما حيّرني.”
“و ما هوَ ذلك الأمر؟”
“هل يستطيع الكهنة سماع صوت آدمانت …؟”
نطقت فريسيا بتردد، و عيناها تتلفتان حولها بقلق، بينما قبضت على حجابها بأطراف أصابعها.
‘كنت أظن أنني سمعته لأنني من سلالة أنتاريس …’
لكن، بحسب معرفتها، لم تكن هناك روايات في هذه الحقبة عن أشخاص سمعوا صوت الإله.
‘قد تكون هذه مسألة خطيرة لو سألتُ عنها بطيش.’
إذ كانَ من السهل أن تُتّهم بتحدي الآلهة،
و قد تجد نفسها هدفًا لمكائد بيت أنتاريس.
و من يدري؟ لو وصلت هذه الشائعة إلى أذن الإمبراطور الغريب الأطوار، فقد تتغير مجريات الأمور بطرق لا تُتوقّع.
‘لكنني لن أعود إلى هذا المعبد على أية حال.’
رُبما هذا الكاهن الشاب، القريب من عمرها،
سيكشف لها الحقيقة بلُطف؟
أشرقَ وجه الكاهن فجأة.
“يبدو أن لديكِ اهتمامًا كبيرًا بعلم اللاهوت؟”
“آه، ليسَ إلى ذلك الحد، لقد تساءلت فجأة أثناء الصلاة … و تساءلت ببساطة عمّا إذا كانت نعمة كهذه ممكنة.”
“أفهم… همم.”
أمالَ الكاهن رأسه قليلًا و كأنه يسترجع شيئًا من ذاكرته.
“في العصور القديمة، كانَ أفراد العائلات التي حظيت ببركة آدمانت قادرين على سماع صوته،
و كذلك الكهنة الذين تمتعوا بقوة روحية عظيمة.”
“هكذا إذن …”
“غير أنه، معَ مرور الزمن، انقطع ذلك الارتباط.
و لا نملك سوى أن نفسر الأمر كـعقوبة على انحرافنا عن درب الإله.”
“آه … أفهم.”
انخفضَ رأس فريسيا قليلًا تحت وطأة تلك الكلمات الثقيلة.
‘الآن و قد سمعتُ ذلك … أشعر أن الأمر عبء أثقل مما تخيلت.’
كانت قد توقعت شيئًا مماثلًا، لكن إدراك أن نعمة عظيمة كهذه قد مُنحت لها، جعلها تشعر بثقل هائل.
و معَ ذلك، كانت تستخدم هذه المعجزة الإلهية … فقط لرؤية دموع إيزار.
و عندما تذكرت ذلك، شعرت بحرارة تخترق أحشاءها خجلًا.
‘لماذا فعلتَ ذلك أثناء الوداع …؟’
لنفترض أن الأمر كانَ حفاظًا على الكرامة أمام عائلة المركيز و معَ ذلك، فقد طال تلامسهما أكثر مما تقتضي الحاجة.
رُبما كانَ الأمر لا يعني شيئًا لإيزار، لكن فريسيا، وحدها، اضطربت من أعماقها.
و كلما استرجعت ذلك المشهد، كلما شعرت بمزيد من الضيق و الغضب نحوه.
و معَ ذلك، كتمت تنهيدة حارقة في صدرها، و حسمت أمرها.
‘أولًا، سأحقق أمنيتي … ثُمَّ سأحرص على القيام بأعمال صالحة أخرى.’
على سبيل المثال، إنقاذ الأمير ريغولوس.
‘صحيح أن الدافع ملوّث بالمصلحة الذاتية …
لكن إنقاذ حياة إنسان لا بُدَّ أن ينسجم معَ مشيئة الإله، أليسَ كذلك؟’
لم تكن متأكدة تمامًا ما إذا كانَ ذلك بالفعل رغبة آدمانت، لكنها، على الأقل، أقنعت نفسها بهذه الحجة، و انحنت بعمق أمام الكاهن الكريم.
“أشكركم على إرشادي، أيها الأب.”
“لا شكر على واجب، و إن احتجتِ إلى أي مساعدة، فـلا تترددي في العودة إلى هُنا.”
كانت تعلم أنهما قد لا يلتقيان مجددًا، لذا حافظت على أدبها حتّى النهاية.
لكن، و قبل أن تبتعد، نظرت إلى الكاهن من خلال حجابها بخلسة.
‘يفترض أنني أراه للمرة الأولى.’
غير أنه، كلما أطالت النظر إليه، ازداد شعورها الغامض بأنه مألوف لها.
معَ ذلك، هزت فريسيا رأسها بخفة.
مهما حدث خلال السنوات الثلاث الماضية،
فـمن المستحيل أن تنسى مظهر شخص كهذا بسهولة.
—
و بمُجرّد أن وطأت قدماها الرواق، لم يكن بانتظارها سوى دريك و ثيا، اللذان رافقاها.
“انتظرتما طويلًا، سير دريك، ثيا لنعد إلى المنزل الآن …”
لكن قبل أن تكمل جملتها، سمعت صوت رجل يناديها من خلفها.
“… سيدتي! سيدتي!”
لم تلتفت فريسيا.
و همست ثيا في أذنها بهدوء :
“سيدتي… يبدو أن السير دينيب يناديكِ.”
“لا أظن ذلك.”
“لكنه ينادي سيدة.”
“ليسَ كل مناداة لـ’سيدة’ تعنيني أنا.”
لا بُدَّ أنهُ كانَ ينادي إحدى الأرستقراطيات الأخريات في هذا المعبد.
صحيح أن الرواق بدا خاليًا، لكن هذا فقط لأنها كانت تغطي وجهها بالحجاب.
لا بُدَّ أن الأمر كذلك.
أسرعت بخطواتها أكثر دون أن تلتفت.
و معَ ذلك، استمر الصوت يناديها من الخلف بإلحاح.
“سيدتي! سيدتي!”
اقتربَ صوت ألبيريو أكثر فأكثر، لكن طول الرواق حال دونَ تضييق المسافة بسرعة.
و قبل أن تصل فريسيا إلى الباب التالي، صرخ ألبيريو بصوت عالٍ :
“حصاة!”
“انظري إلى هنا، حصاة!”
حدق دريك و ثيا بدهشة إلى السيدة الواقفة بينهما.
و ما كانَ من فريسيا إلا أن أدارت رأسها ببطء،
و عيناها تلتمعان بإرهاق من خلف الحجاب.
اقترب ألبيريو بخطوات واثقة، محيّيًا إياها بابتسامة مشرقة.
“هاهاها. علمتُ أنها أنتِ، يا دوقة!”
“سير دينيب… ماذا تفعل بالضبط الآن؟”
“ناديتكِ لأنني كنت شبه متأكد أنكِ أنتِ، سيدتي!”
كان يكفيه أن يرى ظهرها ليتأكد من هويتها،
لكن اغاضتها حتّى تعبس بهذا الشكل كانت مسلّية بالنسبة له.
و بينما كانت تستجوبه بوجه هادئ، كانت ترتجف قليلًا مثل طائر صغير غاضب … و ذلك كانَ ممتعًا له على نحو لا يوصف.
واصل ألبيريو مرافقتها بابتسامة مرحة، و هوَ يمطرها بالأسئلة واحدًا تلو الآخر.
“هل أنتم عائدون إلى قلعة عائلتي الآن؟”
“كما ترى … و لكن، سير دينيب، لماذا أنت هُنا بدلًا من الانشغال بالقضاء على الوحوش؟”
“المنطقة التي أوكلت إليّ قد تم تطهيرها بالفعل،
لذا جئتُ إلى المعبد. يبدو أن الدوق قد مضى إلى منطقة أبعد قليلًا.”
و أشارَ ألبيريو إلى الخارج بابتسامة عريضة.
كانَ هُناك عدد من العربات و الخيول المربوطة في الساحة الخارجية.
“إن كُنتِ عائدة، فـلماذا لا نعود معًا؟”
“في الواقع، تذكرت أنني بحاجة إلى شراء شيء من سوق المدينة لذا تفضل بالعودة أولًا، سير دينيب.”
“آه، سيدتي … أنتِ تتجنبينني، أليس كذلك؟”
كانت عيناها تقولان بوضوح :
‘إذا كانَ بوسعك أن تفعل شيئًا حيال الأمر، فـلتفعل.’
معَ ذلك، اتسعت ابتسامة ألبيريو أكثر، و كأن الأمر راقه.
“في الواقع، كُنتُ أرغب بدعوتكِ لتناول كوب من الشاي. فقد تجاوزنا الحادثة و كأنها لم تكن، أليسَ كذلك؟”
“لقد تمت تسوية تلك المسألة بالكامل بالفعل …
لذا أعتقد أن لا داعي لذلك.”
“و معَ ذلك، ماذا عن احتساء كأس صغير، همم؟”
التعليقات لهذا الفصل " 30"