كانَ ضوء القمر ينسج وهجًا شاحبًا فوق بشرة المرأة النائمة، و معَ أن إيزر أبعدَ خصلات الشعر الهاربة عن وجهها برفق، فقد عادت إلى ذهنه الدفعة التي شعر بها قبل ذهابه إلى الفراش.
‘لم أكن أنوي فحص الجراح.’
كانَ في الأصل قد عزم على توبيخها لسخريتها الساذجة من كلام ألبيريو دينيب.
‘و لكن، بدلًا من أن أنطق اسمه، لولا الحياء لعضضت لساني.’
ثُمَّ فكر بأنه من الأفضل أن يغادر هذا المكان بأسرع وقت ممكن.
‘و طبعًا، كانَ ذلك يقتضي التأكد من تحسن جراحها…’
لكن المشكلة أنه لم يتوقع أبدًا الجو الذي نشأ بعدها.
و لا أن يتعلم أمورًا لم تهمه طوال حياته.
إحساس بشرة الآخر تحتَ أطراف أصابعه، كيفَ ترتجف تلك الشفاه الصغيرة بتوتر، كم من الحرارة قد ينفثها نفسٌ بشري.
و كيفَ كانت نظرات الراعية تحت ضوء المصباح…
‘توقف.’
خطرت له كلمة، لكنه هز رأسه رافضًا لها.
و معَ ذلك، كانت أصابعه تتحرك بخفة نحوَ جفنيها المغمضين، تلامسهما بالكاد، بفاصل لا يتجاوز شعرة.
كانَ يرغب في أن تراوده نظراتها، لكنه لم يرد إيقاظها عنوة.
‘…قالَ ذلك الرجل إن الراعية تكن لي مشاعر حُب، لكنه …’
تصديق تلك الكلمات كانَ أمرًا آخر تمامًا.
<لا تدع نفسك تنخدع، إيزار.>
<من الأفضل أن تكون خائنًا على أن تكون مخدوعًا.>
كانت تحذيرات والده، التي رددها طيلة خمس سنوات، تعاود صداها في أذنيه ؛ سنوات أُهينَ خلالها بسبب امرأة.
لذا، لم يكن إيزار ليثق أبدًا بمثل تلك المشاعر.
حتّى لو قُدِّم له دليلٌ قاطع يقول : “هذه هيَ المحبة”، لظلَّ يشكك بها دونَ هوادة.
<إنها تبدو ساحرة و مثيرة للاهتمام بسبب حبها الطاهر.>
لكن، هل كانت مشاعر الراعية واضحة إلى هذا الحد حتّى يراها الآخرون؟
“هاه.”
دفعَ إيزار خصلات شعره إلى الخلف بخشونة.
كانَ يكره هذا التوتر الذي يتملكه، و كانَ يزدري من أعماقه بوادر مثل هذه المشاعر.
‘النوم مستحيل هذه الليلة.’
نهضَ من السرير أولًا.
فـالفجر كانَ على الأبواب على أي حال.
و رُبما، حينَ تسطع شمس الصباح، سيزول هذا الاضطراب السخيف معَ ضوئها.
—
معَ طلوع الفجر، خرجَ إيزار مجددًا لمناقشة أمر إبادة الوحوش معَ عائلة دينيب.
و في تلك الأثناء، ظلت فريسيا شاردة طيلة الصباح.
كانَ وهج الليلة الماضية ما زال متشبثًا بذاكرتها.
‘لن أسمح له أبدًا أن يلمس جراحي مرة أخرى.’
لكن … بدا أن الطقس بدأ يسخن فعلًا.
كانت فريسيا تجد نفسها تحك كمّ معطفها بلا وعي، مرّة تلو الأخرى.
لو كانَ بروتوكول الآداب يسمح، لكانت قد رفعت كمها قليلًا …
‘غريب… في دوقية أركتوروس، كانَ ارتداء هذه الملابس في مثل هذا الوقت مريحًا تمامًا.’
و بينما كانت تتساءل ما إذا كانت قد أخطأت في حزم أمتعتها، لاحظت الماركيزة بسرعة انزعاجها.
“سيدتي، هل تشعرين بعدم الراحة بسبب الطقس؟ هُنا يبدأ الجو بالدفء أبكر قليلًا من أركتوروس.”
“آه… كانَ ينبغي أن أنتبه أثناء توضيب الأمتعة، هذا خطئي.”
“هاها، لا تقلقي بشأن ذلك. يمكننا أن نعيرك بعض الملابس. لدينا الكثير من فساتين الصيف.”
“حقًا؟”
اتسعت عينا فريسيا بدهشة أمام لهجة الماركيزة المتساهلة. إعارتها ملابس؟
“لدينا الكثير من ملابس ابنتي التي تزوجت مؤخرًا. و بما أن مقاسكما متقارب، يمكنكِ ارتداؤها براحتك.”
“آه…”
“اليوم مثلًا، ترتفع الحرارة فجأة معَ الظهيرة، لذا من الأفضل ارتداء شيء خفيف.”
في داخلها، بدأت فريسيا تتصبب عرقًا باردًا.
هل كانَ هذا لطفًا حقيقيًا؟
أم امتدادًا لذلك النوع الخفي من المضايقات التي اعتادت تحملها طيلة ثلاث سنوات؟
فـكثيرًا ما كانوا يوصونها بملابس قديمة عفا عليها الزمن، ثُمَّ ينفجر الجميع ضاحكين أمامها.
‘لكن… سيدة المنزل تعرض ذلك بلُطف…’
ثُمَّ، ألم تكن قد أوشكت أن تحطم جمجمة ابنها بحجر؟
في هذه المرة، عزمت فريسيا على أن تلتزم الصمت مهما ألبسوها.
لكن … الماركيزة و خادماتها أبدين حماسًا بالغًا في تلبيس فريسيا و تزيينها، حتّى انتهى بها المطاف إلى أن تُسحب عنوة للخارج لتوديع فرقة إيزار، و هيَ ترتدي خيارهنّ النهائي.
—
كم كانَ سيكون الأمر أكثر راحة لو أن هذه الأرض كانت بالفعل تابعة لدوقية أركتوروس.
مضغَ إيزار هذه الفكرة بمرارة مرّة أخرى قبلَ رحيله، فكرة راودته مرارًا من قبل.
‘لـكُنتُ غادرت دونَ حاجة إلى هذه المراسم السخيفة.’
لكن هذه الأرض تعود لعائلة دينيب، و كانَ على الزائرين الامتثال لتقاليد مضيفيهم. و الأسوأ من ذلك، أن الماركيز والماركيزة أصرا على إقامة وداع مطوّل قبل المغادرة.
تبا.
‘كل ذلك من أجل ترك الراعية خلفي، و معَ ذلك … عبثٌ في عبث.’
و حينَ أبصر النساء اللاتي خرجن لوداعهم …
توقف إيزار عن الحركة عندَ رؤيته للراعية.
“ماذا ترتدين؟”
ترددت الراعية قليلاً، ترتدي فستانًا لم يسبق له أن رآه عليها من قبل.
كانت الأكمام، الموشاة بطبقات رقيقة من الدانتيل، ترفرف عند أعلى ذراعيها.
أما الصدر، المصنوع من قماش رمادي فاتح، فقد تزيّن بتطريز زهري دقيق.
و عندَ هذه الرؤية، أدركَ إيزار شيئًا.
أن الملابس التي اعتادت هذه المرأة ارتداءها كانت مقيدة عمدًا.
فـبينما كانت تمنحها مظهر سيدة نبيلة، إلا أنها كانت متواضعة للغاية مقارنة بسنّها.
‘كما لو أنها مصممة ألا تترك لأحدٍ ذريعة لانتقادها.’
كانت التنورة الرقيقة، المطوية بشكل طولي، تتمايل معَ نسمات الريح، و في بعض اللحظات، كانَ كاحلاها يظهران للحظات، في المواضع نفسها التي لمسها ليلة البارحة.
و بينما كانَ يحدّق بها دونَ وعي، احمرَّ وجه الراعية وأشاحت بصرها عنه.
تناثرت خصلات شعر بجانب أذنها، تتراقص بفعل النسيم.
“الماركيزة أعارَتْني هذا الفستان.”
“سأُعيده فور انتهاء مراسم اليوم.”
أظلمت عينا إيزار الذهبيّتان ببطء.
مهما كانَ نسبها، فـهي في النهاية امرأة من أرض أركتوروس.
و أن يرى امرأةً كـهذه ترتدي شيئًا منحه لها غيره، و يليق بها أكثر، أثار داخله شعورًا كريهًا.
و معَ ذلك، بما أن هذه الأرض ليست أرضه، ابتلع ذلك الانزعاج دون أن يُظهره.
“لا بأس به.”
و كانَ هذا، رغم كل شيء، شعورًا صادقًا.
في هذه الأثناء، شعر بنظرات خفية موجهة نحوه و نحو الراعية.
كانت نظرات الماركيز والماركيزة.
‘تطفلٌ لا داعي له.’
بما أنهما في عمر متقدم، فلا بُدَّ أنهما كانا يستمتعان بمشهد وداع زوجين شابين بعاطفة لطيفة.
راودته رغبة متمردة في تحطيم تلك التوقعات السخيفة.
و لكن قبل أن تتضخم تلك الرغبة، رفعت الراعية رأسها برقة و همست :
“أرجو أن تعود سالمًا.”
“سأصلي لأجلك في المعبد.”
عندها فقط، أجبرَ إيزار نفسه على طرد المشاعر التي كانَ يحاول إنكارها.
كانت تلك العيون الخضراء، التي كانت تبدو متعبة كـعيون امرأة مسنة، قد أضاءت للحظة، و أصبحت تشبه أوراق الأشجار حين يغمرها ضوء الشمس.
و في تلك اللحظة، تسللت قشعريرة لا توصف من أسفل عموده الفقري إلى عنقه.
إحساس غريب شعر به للمرة الأولى.
إثارة خافتة جعلته يقطب حاجبيه دون وعي.
“حسنًا سأعود …”
بدت نبرة صوته، و هوَ يودّعها، خشنة على نحوٍ غريب حتّى بالنسبة له.
لم يكن أمامه خيار سوى قمع تلك القشعريرة الغريبة.
في الوقت ذاته، كانَ الغضب يتصاعد في صدره.
‘سخافة.’
كل ما في الأمر أن الراعية كانت ترتدي لباسًا آخر، غيّرَ قليلًا من هالتها.
و أنهُ، رغمًا عنه، اعترف أن عينيها تبدوان آسرتين بعض الشيء.
أن تدفعه امرأة كهذه، التي كانَ يخطط للتخلص منها، إلى هذا الحد؟
‘مستحيل.’
اجتاحه شعور بالدونية كانَ قد شعر به أحيانًا حين ينظر إلى الراعية.
كانَ لا يُحتمل أن تهزّه امرأة ضعيفة إلى هذا الحد.
مدَّ إيزار يده نحوَ الراعية.
منذ قليل، شغله خيط من شعرها يتراقص قرب أذنها.
و معَ مرور يده بجانب أذنها، تصلب جسدها.
“لا تضيعي طريقك إلى المعبد، و عودي بسرعة.”
“نـ ، نعم.”
“و لا تنسي أن تبدئي بالتحضير للرحيل أيضًا.”
“أجل …”
في الواقع، كان ينبغي له أن يُبعد خصلة الشعر تلك عن وجهها منذ مدة.
لكنه تعمد أن يبطئ، يلف أطراف خصلتها حول إصبعه، متلاعبًا بها.
و معَ أن لمسته كانت بسيطة للغاية، إلا أن المرأة أمامه أبدت ردّة فعل.
بقي وجهها متماسكًا، لكن وجنتيها خانتها، و عيناها الزمرديتان اضطربتا بوضوح.
عندها فقط، هدأت نيران الشعور بالدونية الذي اجتاحه سابقًا.
‘هكذا ينبغي أن يكون الأمر.’
هذه المرأة تحمل مشاعر نحوه.
و مشاعرها، دونَ شك، أقوى بكثير مما قد يشعر به تجاهها الآن.
‘لا بُدَّ أن الأمر كذلك.’
طالما أن هذه المرأة تحتفظ بمشاعرها دونَ مقابل، ظنَّ إيزار أنهُ سيتمكن حتمًا من التغلب على هذه الحرارة المتقدة داخله.
أن هذه السخافة، ما هيَ إلا نزوة عابرة،
تمامًا كما حدثَ حينَ كانَ في الثامنة عشرة،
حينَ تملكهُ حُلمٌ ساذج بأنها ستُعيد لهُ معطفه الذي اعارها اياه.
‘بالتأكيد.’
ثُمَّ أدارَ إيزار ظهره للراعية، و سارَ نحوَ رفاقه.
كانَ يظن أن بذلك سينتهي كل شيء.
غير أن المشاعر التي اجتاحته عند رؤيتها بوجنتين محمرتين، استمرت في التشابك داخله طوال الطريق.
رضا.
راحة.
اكتفاء.
كأنما غاصت روحه في مستنقع ضبابي،
اختلطت فيه كل تلك المشاعر، متشابكة على نحو فوضوي.
و بينها جميعًا، كانَ هُناكَ شعور واحد فقط قد بلغ ذروته حتّى جعل أذنيه تطنّان.
ذلك الدوار الساحق …
نشوة امتلاك قلب شخص آخر بين يديه.
التعليقات لهذا الفصل " 29"