صحيح، انا مُهتم.
بعد تلك المقابلة التي لا تُنسى معَ الابن الثاني للماركيز، غادرَ إيزار عند بزوغ الفجر بصحبة فرسان آل دينيب.
أما فريسيا، فقد بقيت معَ ثيا و فارسها الجديد.
“سأُطيع أوامركِ، سيدتي … “
لم يكن الفارس سوى السير فين دريك.
و حينَ علمت أنهُ قد تطوّع بنفسه لتولي هذه المهمة، شعرت فريسيا بشيء من الفرح، و لأول مرّة مُنذُ زمن طويل.
كانَ خبرًا سارًا في خضم سلسلة لا تنتهي من الأخطاء المؤلمة.
‘حتّى في حياتي الثانية، لا يزال إيزار صعب المراس للغاية.’
هل كانَ الاعتذار عن خطاياها يُعدّ أيضًا “تصرفًا كـزوجة”؟
استرجاعُها لصراخه القاسي ليلة البارحة أوشك أن يغرغر الدموع في عينيها، بيد أنها لم تنهمر قط.
فـكما اعتادت دومًا، اكتفت جفونها بالأحمرار، دونَ أن تذرف دمعة واحدة.
خلال إقامتها في إقليم دينيب، اتخذت أيامها نسقًا رتيبًا.
في النهار، و بينما ينتظر السير دريك عندَ أطراف الغابة، كانت فريسيا تغمر جراحها في مياه “نبع الشفاء”.
كانَ اليوم الأول مثيرًا، إذ قضته إلى جانب إيزار.
أما بعدَ ذلك، فقد أمضت وقتها برفقة الماركيزة.
و في كُلِّ مرّة، كانت فريسيا تراقب شخصًا واحدًا بقلق متأهب :
‘عليَّ أن أتفادى ألبيريو دينيب قدر المستطاع خلال ما تبقى من الوقت.’
تعافى جبينه بسرعة، و لكن لا داعي لاستدعاء المزيد من المواقف المحرجة.
‘لحسن الحظ، يبدو مشغولًا بمحادثة السيدات هُنا.’
و على عكس أهالي أركتوروس، كانَ سكان دينيب يستمتعون بجمعاتهم اليومية في قاعة الولائم لشرب الخمر و الغناء كل مساء.
و بينما كانَ الجميع مخمورين يتبادلون الألحان و الضحكات، كانت فريسيا تكتفي برشف شرابها بهدوء، جالسةً في ركن بالطابق الثاني.
و من هُناك، كانت تراقب إيزار و هوَ يتحدث إلى فرسانه في الأسفل.
أعجبها أن حاجبيه لم يكونا معقودين بضيق، و سرّها أن تراه يبتسم ابتسامة خفيفة على طُرفة ما.
‘سأظلُ أراقبه قليلًا فقط … لحظة إضافية فحسب.’
و لكن رُبما كانت قد استغرقت في مراقبته أكثر مما ينبغي.
” أتقضين أمسية طيبة، صاحبة السمو؟”
«……؟»
أدركت متأخرةً أنّ رجُلًا قد اقترب و جلس على المقعد الفارغ بجوارها.
كانَ ألبيريو، جالسًا بجانبها و هوَ يبتسم بودٍّ كأنهما صديقان قديمان.
و استمرّ في محادثتها :
“هل لي أن أعرف ما الذي تجدهُ سموّكِ ممتعًا إلى هذا الحد؟”
كادت فريسيا أن تفغر فمها من الدهشة.
‘لِماذا… لِماذا يجلس هذا الرجل بجانبي؟’
و بينما كانت عاجزة عن النطق، نظرَ ألبيريو إلى الاتجاه الذي كانت تحدق فيه، ثُمَّ انفجرَ ضاحكًا.
“آه، كُنتِ تراقبين زوجكِ؟”
«……!»
“تحدقين به بذلك الشكل … قد يظن المرء أن وجه الدوق قد دُهِنَ بالعسل.”
“سير دينيب.”
اشتعل وجه فريسيا بحرارة.
من المفارقات أنّ أحدًا في قصر أركتوروس لم يلحظ قط مشاعر الحب التي تكنها لإيزار.
أو حتّى لو لاحظوا، فـهل كانوا ليبالوا أصلًا؟
فوجودها بحد ذاته كانَ وصمة عار على شرف العائلة.
لذا كانت هذه هيَ المرة الأولى التي يكشف فيها أحد مشاعرها بهذا الوضوح.
‘لم أجرؤ على الاعتراف بِها إلا مرة واحدة…’
مرة واحدة فقط جمعت شجاعتها وقدمت لإيزار سوارًا حريريًا …
و معَ ذلك، لم يتفاعل إيزار كثيرًا حينها …
و لكن في هذه اللحظة، كانت أشدّ انزعاجًا من هذا الرجُل الذي عاملها كـحمقاء.
“أعتذر عن إصابتك، و لكن أرجو منك ألا تُطلق مثل هذه التعليقات الوقحة مستقبلًا.”
“أوه… لم يكن قصدي الإهانة.”
ابتسمَ ألبيريو ابتسامته الهادئة المعتادة.
“سيدتي، إنكِ راقية للغاية … كـمن تنتمي إلى زمن قبل ثلاثمئة عام.”
ضحكَ ألبيريو و هوَ يرفع كأس النبيذ خاصته.
كانَ من الواضح أنّهُ قد نشأ في بلاط إمبراطوري يعجّ بالخيانة العاطفية و الجسدية، حيثُ كانَ الحُب الخالص بين الأزواج نادرًا إلى درجة تُعدّ موضةً قديمة، و كانَ إخفاء المشاعر يُعدّ قمة التحضّر و الرُقيّ.
ألم تكُن معظم الزيجات النبيلة، في نهاية المطاف، زيجات مدبّرة؟ و كانَ يكفي أن يسود بين الزوجين شيءٌ من الاحترام الظاهري فقط؟
‘سيدة نبيلة تحدّق بزوجها بعينين يقطران عشقًا … لا مكان لها سوى في حكايات العصور الغابرة.’
لكن فريسيا لم تكن لتدرك ما الذي كانَ يدور في خلد ألبيريو حينها …
كانت تبذل جهدًا مضنيًا لتخمّن نواياه.
‘يبدو أنهُ يريد فقط السخرية مني… لا أعلم لِمَ.’
بفضل ثلاث سنوات قضتها منبوذةً من قِبل طبقة النبلاء، أصبحت فريسيا ماهرة بشكلٍ استثنائيّ في التنبّه لـمثل هذه النوايا الخفية.
‘فـماذا عساي أن أفعل الآن؟ كيفَ يجب أن أرد عليه؟’
لم يكن في ابتسامة الرجل ما يدل على خبث، و كانت تدرك أنه لا يسعى إلى إهانتها إهانة جسيمة.
لكن رؤيته يترقب ردّ فعلها بشغف، جعلها تدرك أنّهُ رُبما أرادَ أن يرى هذه الفتاة العامية، ترتبك خجلًا و تخفض رأسها، كما لو كانت مُجرّد مشهد مسلٍّ بالنسبة له.
لهذا السبب، عقدت فريسيا العزم على أن تردّ عليه بجرأة هذه المرة.
“أليسَ الجميع يعلم أنَّ جلالته الإمبراطور قد أحبَّ الإمبراطورة الراحلة وحدها مُنذُ البداية؟”
“……!”
“فـهل مِنَ الغريب، إذًا، أن أقتدي بجلالته، يا سير ديـنيب؟”
في الحقيقة، كانت فريسيا ترى الإمبراطور عجوزًا غريب الأطوار.
‘كيفَ لي أن أراه كـشخصٍ لطيف و هوَ الذي استخدمني لتفريغ إحباطه؟’
و معَ ذلك، بدا مدهشًا أنَّ حتّى رجُلًا غريبًا كهذا، قد أحبَّ زوجته يومًا بكل هذا الإخلاص.
فـمُنذ خطبتهما و حتّى رحيل الإمبراطورة المبكر، كانَ وفاء الإمبراطور و تفانيه في حبها معروفًا للجميع، بل حتّى بعدَ أن اجتازت الإمبراطورة جسر الحياة، لم يتخذ جلالته أي خليلة بعدها.
تطلعت فريسيا ببرود إلى ألبيريو، الذي كانت عيناه قد اتسعتا من الدهشة.
‘لِنَرَ إن كانَ يجرؤ الآن على نعت الإمبراطور بكائنٍ انقرض مُنذُ ثلاثمئة عام.’
مهما كانت ثقافة البلاط الإمبراطوري تمجّد البرود العاطفي، لم يكن أحدٌ يجرؤ على السخرية من الإمبراطور لأجل ذلك.
و حينَ لم ينبس ألبيريو ببنت شفة، استدارت فريسيا دونَ تردد.
“سأستأذن الآن، يا سير ديـنيب. فأنا، كما ترى، شخصٌ من ثلاثة قرونٍ مضت، و أتعب بسهولة.”
كانت كلمات وداعها مرآة ساخرة لما قالهُ هوَ سابقًا.
استدارت فريسيا بملامح خالية من التعبير، لكن في داخلها، كانت تكاد تطير فرحًا بنفسها.
‘لقد تصرّفتُ تمامًا كما ينبغي لدوقة أن تتصرف.’
بعدَ سلسلة من الإخفاقات الأخيرة، شعرت حقًا بفخرٍ صادق حيال هذا الانتصار الصغير.
—
بعد مغادرة فريسيا، ظلَّ ألبيريو صامتًا للحظة.
“…هاهاها!”
لكن ما إن اختفت الدوقة عند منعطف القاعة، حتّى انفجرَ ضاحكًا بأعلى صوته، كمن كانَ يحبس ضحكته بشق الأنفس.
قد تكون الدوقة قد غابت عن رؤية ما حدث، لكن مرآة ضخمة مُزيّنة كانت مُعلّقة على الجدار.
بفضل تلك المرآة، كانَ ألبيريو قد لمح ملامح وجهها و هيَ تبتعد.
و جنتاها المتورّدتان، و ابتسامتها الخفيّة التي تفتحت بفخر، و ملامحها الصغيرة التي أضفت على ابتسامتها طابعًا طفوليًا عبثيًا.
‘لا شك أنها كانت تفيض سعادة لأنها انتصرت عليّ.’
لكنها، حينَ نهضت واقفة، تظاهرت بجلالٍ لا يخدشه شيء!
كلما استعاد تلك اللحظة في ذاكرته، ازداد ضحكه أكثر.
“هاهاها!”
تلألأت عينا ألبيريو الزرقاوتين بالمرح.
‘آه، هذا حقًا… ممتع للغاية.’
مختلفة كل الاختلاف عن الشائعات التي تصفها بأنها “غبية، دنيئة، جشعة.” مما زاد الأمر إثارةً في نظره.
غير أنهُ لم يكد يستمتع بانتصاره عليها، حتّى جاءه صوت بارد من خلفه.
“ما الذي كانَ يضحككما بهذا الشكل؟”
“هاه…؟ دوق أركتورس.”
حينَ التفت ألبيريو، كانَ إيزار يرمقه من علٍ بحاجبين معقودين.
كانَ إيزار لا يزال في الطابق الأول حتّى وقتٍ قريب، و لم يكن ينوي العودة إلى جناحه مبكرًا في هذه الليلة.
‘من الأفضل أن تذهب تلك الراعية إلى النوم باكرًا.’
فـوجود المرأة، ملتفّة في أحد أطراف السرير كُلَّ ليلة، أصبحَ تعذيبًا خفيًا له.
أنفاسها الهادئة، تقلبها الخافت، دفء جسدها المتسرّب عبر الغطاء … كُل ذلك كانَ ينهش وعيه رويدًا رويدًا.
بل إنَّ استيقاظها قبله كانَ يزيد الطين بلة.
‘حتّى الآن… أشعر أن ظهري يحترق من نظراتها.’
كيفَ له ألا يدرك أنها كانت تراقبه من الطابق العلوي؟
لكنهُ كانَ قد أنبّها بعدم التصرّف كـزوجة، فـلم يكن له أن يردّ على تلك النظرات.
و لكن حين فاض بِهِ الكيل ورفع بصره …
رآهما.
‘لماذا… يجلسان معًا؟’
رجُلٌ كانَ وقحًا معَ تلك المرأة، و امرأة كادت تحطّم رأسه ذات مرة … يتبادلان أطراف الحديث و كأن شيئًا لم يكن.
و معَ مغادرة الراعية، انفجرَ ديـنيب ضاحكًا بشكلٍ أبله.
‘فـلنعزو الأمر إلى كونه رجُلًا غريب الأطوار.’
و معَ ذلك، بدا أن الراعية بدورها غادرت … و هيَ تبتسم و قد احمرّت وجنتاها.
‘لماذا؟’
‘أي شيء في ذلك الحوار السخيف كانَ مضحكًا إلى هذا الحد؟’
مرتبكًا، صعد إيزار إلى الطابق العلوي، ليجد نفسه تلقائيًا يحدّق بألبيريو بنظرة حانقة.
و معَ ذلك، لم يبدُ على ألبيريو أدنى انزعاج، بل اكتفى بهزّ كتفيه بلا مبالاة.
“كانت الدوقة … مُسليّة للغاية في حديثها، تمتلك طريقة فريدة بالكلمات.”
“أهكذا هوَ الأمر؟”
حدّقَ إيزار بنظرات باردة متجمدة.
صحيح، قد تتمكن تلك المرأة من قول شيء طريف، لكن ما كانَ يثير فضوله هوَ أي هراء تفوّه به هذا الرجل الغريب ليجعلها تبتسم بذلك الشكل؟
‘لا بأس، لا يهمني …’
تلك المرأة لا تعني له شيئًا.
لم يكن يعرف عدد المرات التي اضطر فيها إلى تكرار هذه الحقيقة في ذهنه، إنها مجرد امرأة ينبغي لها أن تتعافى ثُمَّ تختفي من حياته بهدوء.
ابتسمَ إيزار بسخرية.
“لكن عليكَ أن تضبط نفسك، قد يظن البعض أنكَ مُهتمّ بِتلكَ المرأة.”
ردَّ ألبيريو ببساطة، و كأن الأمر لا يستحق التفكير :
“آه، لكنني مُهتم بِها بالفعل.”
“ماذا … ؟”
التعليقات لهذا الفصل "27"