فريسيا شعرت بالارتياح لأن الطرف الآخر لم يُظهِر أي انزعاج، لكنها كانت تشعر بإحراج شديد بسبب أسلوب الرجل المبالغ في لباقة الحديث.
كانت تعرف أن مثل هذه الأحاديث شائعة في محافل العاصمة.
لكنها كانت تبدو لها كـإغواء رقيق، معَ أن هذه الأنواع من التحيات كانت شائعة في هذه الأيام، و كانَ يُعتبر نوعًا من الرقي.
‘لكن هذا لا يعني أنني اعتدت عليها.’
فريسيا ألقت نظرة خفية على إيزار الجالس بجانبها.
منذ أن وقفَ أمامها عند نبع الشفاء، ظلَّ إيزار صامتًا.
لكن فكيه المشدودين و ذراعيه المتشابكتين كانا كافيين لتخبرها، إيزار كانَ يغلي من الغضب في داخله.
‘هوَ يكبح نفسه بسبب الماركيز و الماركيزة.’
لكن كانَ من الصعب تحديد السبب الدقيق الذي أثارَ غضبه.
هل كانَ تصرف ألبيريو دينيب؟
أم أن السبب هو فريسيا، التي عندما انتابها شعور بالدهشة و فاجأها الموقف، عادت إلى غريزتها كـراعية و ألقت حجرًا دون التفكير في العواقب؟
‘إن كانَ الأمر كذلك…’
فـرُبما كانَ من الأنسب أن تعتذر بشكلٍ أكثر رسمية في هذه اللحظة.
‘صحيح … بما أن الأمر يتعلق بأبن هذا المنزل.’
تجاهلت فريسيا إحراجها، و رفعت رأسها بتصميم.
“اللورد دينيب، رغم أنكَ قُلتَ إن الأمر شرف لي، إلا أنني أعتذر مجددًا عن الأذى الذي كدت أن ألحقهُ بك…”
“لنقم بحل هذه المسألة أولاً، ماركيز، ثُمَّ ننتقل لمناقشة الحملة ضد الوحوش.”
لكن قبلَ أن تتمكن فريسيا من إتمام حديثها، قاطعها إيزار.
لم يلقِ حتّى نظرة واحدة عليها، بل استدار نحو الماركيز و مضى مبتعدًا، موضحًا بجلاء أنه يمكنها العودة إلى غرفتها أو النوم أو فعل ما تشاء، فهذا لا يعنيه.
و بعد أن تُرِكت وحدها معَ المأركيزة، شعرت فريسيا بمرارة خفيفة.
‘…يبدو أنهُ كانَ منزعجًا حقًا بسببي.’
كلما ارتكبت خطأً خلال السنوات الثلاث الماضية، كانَ إيزار يتصرف بهذه الطريقة.
إذا شعر بالإحباط من حماقات فريسيا و لم يكن قادرًا على إظهاره أمام الآخرين، كانَ يقطع الحديث فجأة و يغادر، تاركًا فريسيا وحيدة تغلي في مستنقع أخطائها.
لكن هذه المرة، بقيت الماركيزة جالسة أمامها.
فقررت فريسيا أن تعتذر لها بدلًا من ذلك.
“أنا آسفة حقًا، يا سيدتي الماركيزة…”
“لقد تم تسوية الأمر الآن، فلا بأس.”
ابتسمت الماركيزة لها ابتسامة منعشة.
“في الواقع، كانَ ابني هوَ المخطئ لأنه ظل واقفًا هناك بتلك البلاهة. كانَ عليه أن يغادر بسرعة عندما رأى سيدة…”
هزّت الماركيزة رأسها ثُمَّ غطت فمها و ضحكت بخفة.
“لكن لم أكن أتوقع أن يكون لورد أركتوروس زوجًا عطوفًا إلى هذا الحد.”
“هاهاها، حقًا، عروسين حديثين. أشعر وكأنني أطير من السعادة لمُجرّد مشاهدتكما.”
لم ترد فريسيا بالكلام، بل اكتفت بإيماءة فاترة.
بدت الماركيزة شخصًا لطيفًا، لكنها رُبما كانت تفتقر إلى بعض الحكمة في تقدير الأمور.
استمرَ نقاش الرجال حتّى وقتٍ متأخرٍ من الليل. كانَ إيزار وفرسان أركتوروس قد وضعوا خطةً تقريبية لدعم عائلة دينيب في إبادة الوحوش خلال الأسبوعين المقبلين.
و عندما غادرَ إيزار الغرفة بعد انتهاء المناقشة، تبعه ألبيريو.
“إنهُ لشرفٌ لنا أن تنضم إلينا بنفسك، دوق أركتوروس.”
لم يفُت على إيزار ملاحظة النبرة المتعجرفة الطفيفة التي أبداها الرجل.
‘لماذا يحتاج لمساعدة الآخرين رغم أنه بارعٌ في السحر بنفسه؟’
كانَ ألبيريو دينيب موهبةً مرتبطةً بأكاديمية البلاط الإمبراطوري للسحر. و معَ ذلك، فإن قدراته لم تكن كافية لمواجهة الوحوش.
و بينما تجاهله إيزار و كأنه لا يستحق عناء الرد، رفعَ ألبيريو حاجبًا ساخرًا قليلًا.
“يبدو أن الدوقة تملك مهارةً استثنائية في التصويب.”
“بإمكانها أن تنال لقب فارسٍ لمهارتها في رمي الحجارة وحدها.”
رمقَ إيزار ألبيريو دينيب بنظرة حادة، محدقًا في جبهته بضيق.
‘لقد قاطعتُها سابقًا عندما حاولت الاعتذار مجددًا.’
رؤية تصرفاتها غير اللائقة بصفتها “دوقة”، و محاولاتها المستمرة لإرضاء هذا الرجل، كانت تثير ضيقه.
“ينبغي عليّ أن أعتذر أيضًا، و لو من باب المجاملة، لكنني سأختار ألا أفعل.”
“آه، كم أنتَ بارد…”
“ألم يكن ينبغي لك أن تتفادى بسهولة شيئًا ترميه امرأة مثلها؟”
“……!”
“أم أنكَ كُنتَ مشتتًا حتّى اللحظة الأخيرة، ولهذا لم تتجنب الضربة؟”
“اه… احم.”
راقبَ إيزار ألبيريو ببرود، و قد ارتسمت على وجه الأخير تعابير من الحرج.
رغم مظهره المتراخي، إلا أن مهارته لم تكن أدنى من فارس رسمي.
و معَ ذلك، فشل في تفادي حجرٍ رمته امرأة؟
كانَ ذلك ضربًا من العبث، و التخمين بسبب عجزه عن التهرب جعل الأمر أشد إزعاجًا.
‘لأنهُ كانَ مشغولًا بالتحديق بتِلكَ الراعية و هي على ذلكَ الحال.’
لعنه داخليًا و وصفه بالمنحرف.
‘علينا أن نرحل فور اختفاء ندوب الراعية.’
و ما إن دخل الغرفة، حتّى وقفت المرأة الجالسة على السرير بسرعة.
تطاير طرف قميص نومها الأبيض تحت شالها العريض.
“لقد عدت.”
أضاء نور المصباح شعر الراعية بلطف. حتّى خصلات شعرها البني الكتاني المتواضعة بدت و كأنها تشع بلمعان ذهبي غامض تحت ذلك الضوء.
و لم يكن شعرها وحده، بل أيضًا عيناها الكبيرتان و وجهها، الذي ما زال متوردًا من أحداث اليوم، كانَ يضيء بتوهج خافت.
أجرى إيزار تقييمًا موضوعيًا.
‘تبدو و كأنها استعادت بعض الحيوية.’
مقارنة بمظهرها الذابل و كأنها قد غُمرت بمطر قاسٍ، بدت الآن و كأنها عادت بشرية أكثر.
“…أعتذر عمّا حدثَ في وقتٍ سابق.”
لكن التردد الذي تسلل إلى نبرتها أفسدَ مزاج إيزار مجددًا.
فـهوَ ذات الصوت الذي كانت تستخدمه عندما حاولت الاعتذار لألبيريو دينيب.
“إن تسبّب هذا بأي مشكلة معَ عائلة دينيب…”
“أنتِ لا تَكُفِّين عن نسيان ما قلته لكِ مرارًا.”
قاطعها إيزار بحدّة نافذة.
لماذا أصبحت أعصابه مشدودة فجأة بسبب أمرٍ تافه كهذا؟
أكان ذلك لأن امرأة لا شأن لها تجرأت على القلق بشأن عائلته؟ أم لأنها خافت من أنه لن يستطيع التعامل معَ حادثة اليوم كما ينبغي؟
على أية حال، كانَ لا بُدَّ من تذكير تلك الراعية، التي لا تكف عن نسيان تعليماته.
“أيتها الراعية.”
ناداها بصرامة، كما لو كانَ يُخاطب فارسًا حقيقيًا.
“هل طلبتُ منكِ يومًا أن تقومي بدور الزوجة؟”
“لـ … لا.”
“إذًا، توقّفي عن الانشغال بأمور لا داعي لها و اذهبي إلى النوم.”
خرجَ صوته أكثر قسوة مما كانَ يقصد.
و معَ ذلك، ما إن نطق بذلك، حتّى شعرَ بألم خفيف ينبض في صدغه، و مشهد غريب خاطف لمعَ أمام عينيه.
وجه والده الغاضب حتّى الرعب.
و امرأة تبكي أمامه.
“…؟”
لكن كما اختفى الألم بسرعة، تلاشى ذلك المشهد الغامض أيضًا.
على الأقل، المرأة التي أمامه لم تكن تبكي.
أنها لم تنهَر من بعض التأنيب كانَ، رُبما، العزاء الوحيد في الموقف.
و معَ ذلك، رؤية عينيها و قد عادت خاوية، كأنما اغتسلت بمياه آسنة، عقدت أمعاءه بقلقٍ لا مفرّ منه.
رُبما كانَ الأمر أشدّ وطأة لأنه صار يعرف الآن كيف كانَ باستطاعة عينيها أن تتلألأ مثل ندى الفجر فوق العشب.
“… نعم، طابت ليلتك.”
لم يجب إيزار، بل اتجه نحوَ السرير بصمت، و أدار ظهره لها، مغلقًا عينيه قسرًا و هوَ يتمتم في داخله.
‘أتمنى أن يمرّ هاتان الأسبوعان سريعًا.’
عندها فقط سيتمكن من التخلص من آخر خيط من الشعور بالذنب تجاه هذه المرأة.
و بعد انقضاء الأسبوعين، كانَ ينوي أن يُخرجها بالكامل من مجال بصره.
كانَ الغطاء يُرفع بهدوء، و كانَ بإمكانه أن يشعر بالكاد بالمرأة تتكور إلى جانب السرير.
و كما توقع، لم تكن تشغل حيزًا يُذكر.
لم يكن يشعر بثقلها أيضًا.
و معَ ذلك، كانَ مُجرّد وجودها يُثقل وعيه.
بلا داعٍ.
—
كان ألبيريو يفرك جبهته و هوَ يعود إلى غرفته.
‘لقد تأخر الوقت عن استخدام الينبوع العلاجي، سأتدبر ذلك عند الفجر.’
لكن ما جعله يتصبب عرقًا باردًا حقًا لم يكن الجرح، بل تعليق دوق آركتوروس السابق.
<أليسَ لأنك كُنتَ منشغلًا بأمرٍ آخر حتّى اللحظة الأخيرة؟>
“تشش، تم القبض عليّ و أنا في حالة حذر.”
بالفعل، كانَ بإمكانه تجنب الحصاة القادمة بسهولة.
لكن، بالكاد تمكن من إلقاء تعويذة امتصاص الصدمات في اللحظة الأخيرة.
‘لكن حتّى شخص مثلي يمكن أن يُفاجأ، أليسَ كذلك؟’
لقد مر وقت طويل منذ أن عاد إلى المنزل، و كانَ يخطط للاستمتاع بمنظر الينبوع العلاجي، عندما ظهرت فجأة امرأة لم يرها من قبل. أليست تلك ردّة فعل طبيعية؟
ألبيريو حكَ برفق على مؤخرة عنقه و هوَ يسترجع تلك اللحظة.
هبَّ نسيمٌ خفيفٌ، ليتطاير شعرها قليلاً، كاشفًا عن لمحة من كتفيها.
أطراف أصابعها و شفتيها، التي كانت مغطاة بعصيرٍ أحمر.
و تلك العيون الكبيرة الخضراء، اللامعة تحت أشعة الشمس.
بينما كانَ يحدق في تلك العيون، وجدَ ألبيريو نفسه ضائعًا في فكرة غريبة للحظة.
‘من الذي استدعى ملاكًا في ساحة قلعتنا؟’
لكن سرعان ما عادَ إلى الواقع عندما رآى الملاك يُلقي حجرًا عليه بعنف.
‘لم أسمع من قبل عن ملاك يُلقي الحجارة.’
ثُمَّ ظهرَ إيزار أركتوروس فجأة في تلك اللحظة.
“لكن ما هذا؟ أليسَ مختلفًا قليلاً عن الشائعات؟”
لقد حضر أيضًا ذلك الزفاف الذي تم الحديث عنه.
كانَ الجو متوترًا لدرجة أنك كنت ستظن أن الزفاف يُجرى وسط ساحة معركة.
و معَ ذلك، كانَ تصرف الدوق معَ تلك المرأة يبدو أكثر لِينًا من ذلك الوقت.
“إنها مختلفة عن الشائعات… بالفعل، مختلفة.”
خاصةً كيف أن “الآنسة الدوقة الغير شرعية” التي رآها عن كثب لم تكن كما تقول الشائعات.
الآنسة الدوقة الغير شرعية، كانت في الواقع حديث العاصمة، موضوعًا للثرثرة اليومية و التكهنات.
كانَ الناس يرسمون صورًا مختلفة لها.
فتاة نشأت تؤدي أعمال شاقة بين العامة، غبية لدرجة أنها لا تستطيع القراءة، بلهاء تتنقل بفم مفتوح.
بل إن البعض ذهب أبعد من ذلك، قائلاً إنه بما أنها تجرأت على الوقوف إلى جانب الدوق، فلا بد أنها امرأة جشعة، فوضوية، لا تختلف عن بائعات الهوى الوضيعات…
وكانت هذه الصورة بالذات أكثر ما يروق للناس تصديقه.
فذلك ما يضفي على الحكاية إثارة أكبر في أعينهم.
‘لذلك إذًا بدأت ابنة الدوق أتريا تحظى بشعبية متزايدة، أليس كذلك؟’
كما لو كانت قديسةً، حتّى حين تُسلب على يد شريرة، تبقى شامخةً متمسكةً بكرامتها.
غير أن “ابنة الدوق غير الشرعية” التي رآها ألبيريو بعينيه، كانت مختلفة تمامًا.
“أمرٌ يثيرُ الفضول حقًا.”
تمتم ألبيريو و هوَ يدلك جبهته، قبل أن يرسم ابتسامةً خفيفة على شفتيه. هذه الإصابة، أو أيًا كانت، ستشفى عاجلًا طالما واصل استخدام ماء النبع العلاجي.
لهذا… لمَ لا يغتنم هذه الفرصة لاكتشاف ما هيَ عليه هذه المرأة حقًا؟
التعليقات لهذا الفصل "26"