كانت فريسيا واقفة في الداخل، ساكنة كـتمثال.
“لقد عدتَ، يا صاحب السمو.”
حاولَ إيزار جاهدًا ألا يعبّس.
لم يكن ينوي التظاهر بدور الزوج المحب، لكن أمام من ليسوا من أتباعه، كانَ لا بُدَّ من إظهار القليل من التمثيل.
و معَ ذلك، لحقت به فريسيا، تثرثر بخفّة خلفه.
“شُكرًا لك، يا صاحب السمو.”
“على ماذا؟”
“لسماحك لي باستخدام النبع هُنا.”
لم يُجِبها إيزار. بدت كلماتها كما لو أنه قدّم لها معروفًا عظيمًا، لكنه من وجهة نظره، لم يكن بالأمر الكبير. فـتعزيز التحالفات معَ الأراضي المجاورة كانَ أمرًا ضروريًا، و التخلّص من الوحوش كانَ من شيم النُبلاء.
‘أما استخدام النبع… فـهوَ مُجرّد إضافة بسيطة.’
و معَ ذلك، ألقى نظرة سريعة خلفه نحوها. رغم أن ثوبها الطويل أخفى الكثير، إلا أن صورة ساقيها الملفوفتين بالضمادات ما زالت محفورة في ذهنه؛ كانت مؤلمة للنظر.
حتّى الطبيب قال : “بعض الجروح عميقة لدرجة أنها ستترك ندوبًا لا محالة.”
‘فلنُزِل تِلكَ الندوب قبلَ أن أُرسلها بعيدًا.’
هكذا اعتبر الأمر : آخر ما تبقّى من واجبه الإنساني تجاهها. و معَ هذا، بدت فريسيا و كأن لديها ما تقوله بعد، غير أن صوتها خفت تدريجيًا و هيَ تتحدث.
“ماذا بشأن أماكن إقامتنا خلال فترة المكوث…؟”
“و ما شأنها؟”
لم يكن هُناك خيار سوى استخدام هذه الغرفة طوال فترة الإقامة. و هذه المرأة النحيلة لن تشغل حتّى ربع السرير، لذا لم يكن ليكترث بالأمر على الإطلاق.
غير أن فريسيا، التي أساءت تفسير إشارته، أومأت برصانة :
“صحيح… سأنام على الأرض.”
رمقها إيزار بنظرة صامتة.
هذه الراعية، التي بالكاد استعادت عافيتها، تتجرأ مرّة أخرى على التصرف بهذه العفوية أمامه.
تنهد ببطء، ثُمَّ أشار إلى السرير بنبرة باردة :
“نامي هُناك، في الزاوية.”
“آه… حاضر.”
“و تأكدي من زيارة النبع خلال الوقت المسموح به.”
رغم أنها كانت بمثابة مكافأة ثانوية، فإن عائلة دينيب لا تسمح بدخول ذلك المكان إلا لأسباب استثنائية.
و حينَ لمح إدراكها، استأنف حديثه :
“نعم، سأذهب، حتمًا.”
“أما عن المرافقة…”
لم يكن مطمئنًا لفكرة تركها بمفردها، حتّى و إن بدا المكان آمنًا.
‘إرسال خادمة؟ لا يليق بحرمة النبع العلاجي.’
فالسماح لأحد العامة بدخول الماء المقدّس يُعد استهانة جسيمة. أما إرسال أحد الفرسان، فذلك أمر غير وارد.
‘ستضطر لرفع فستانها للدخول إلى الماء.’
كانَ من غير اللائق على الإطلاق، بل من المُحرّم اجتماعيًا في الإمبراطورية، أن يرى رجلٌ ساقَي امرأة ليست زوجته. كانَ ذلك يُعد تجاوزًا فادحًا للأعراف.
و لم يكن ثمة سوى استنتاجٍ واحد.
“يا صاحب السمو؟”
“هاه…”
“…؟”
نظرت فريسيا إليه بعينين حائرتين، بينما أطلق إيزار تنهيدة ثقيلة تفيض بالضيق.
حسنًا، ما دام قد قرر أداء واجبه على أكمل وجه… فهل سيضرّه إن أضاف مهمة أخرى إلى القائمة؟
قررَ إيزار أن يُرافق فريسيا بنفسه أثناء استخدام النبع.
و رغم أن الماركيزة قد فهمت الموقف بشكلٍ مغاير تمامًا، فإن نظرتها المريبة توحي بأنها تظن أنها “فهمت كل شيء”.
لكن إيزار تجاهلها تمامًا، و قادَ فريسيا بصمتٍ نحوَ عمق الغابة.
امتزج عبق الغابة العتيقة معَ خرير الماء المنساب ليكوِّن أجواءً منعشة و هادئة.
و ما إن اقتربا من النبع حتّى توقفت فريسيا و التفتت تنظر إليه مجددًا. كانَ من الواضح أنها مترددة.
لكن إيزار أشار إلى ظلّ شجرة ضخمة، و قد اتخذ لنفسه مكانًا تحتها لينتظر هُناك إلى حين عودتها.
“ألن تدخل يا صاحب السمو؟ الانتظار هُنا فقط سيكون…”
“الإذن بالدخول مُنِحَ لشخصٍ واحد فقط.”
“صحيح… إذًا، سأكون سريعة و أعود.”
أسرعت فريسيا تخطو فوق الصخور المسطّحة باتجاه المياه، و ما هيَ إلا لحظات حتّى سُمِع صوت ارتطام خفيف… رشّة ماء صدرت عندما لمست قدماها الماء البارد.
ظلَّ صوت الماء يتردد كأنها تمشي فيه بخطى خفيفة.
و معَ مرور الوقت، بدأت أنغام ترنيماتٍ خافتة تصل إلى مسامعه، محمولةً على نسمات الريح.
“يبدو أنها تستمتع بالأمر حقًا…”
كانَ قد جلبها إلى هنا للشفاء، لا للتسلية. و معَ ذلك، لم يكن يستطيع إنكار أنها بدت مرتاحة أكثر من أي وقت مضى.
رغم أفكاره الساخرة، أمال إيزار رأسه إلى الوراء، مستندًا إلى جذع الشجرة.
اختلطَ خرير الماء بهدوء حفيف الأوراق و صوتها الرقيق، فـكوّن مزيجًا هادئًا و منعشًا، جعل عينيه تنغلقان ببطء.
ما الذي جاء بي إلى هُنا أصلًا…؟
كانَ كل شيء ساكنًا… هدوءٌ لم يعرفه منذ زمن. حتّى الألم الذي ظلَّ يعتصر صدغيه مؤخرًا، اختفى تدريجيًا.
رفع يده إلى صدغيه، و ضغط بخفة و هوَ يهمس :
“ما الذي يحدث لي؟”
لم يكن إيزار يمرض أبدًا. لا حُمّى، لا زُكام، و لا حتّى صداع بسيط.
لكن في الآونة الأخيرة، بات الألم في رأسه متكررًا على نحوٍ مزعج، و لم تُجدِ أدوية الطبيب نفعًا كبيرًا.
منذ متى بدأ هذا؟
كانَ حاضرًا أيضًا حين كانت فريسيا طريحة الفراش… و إن عادَ بذاكرته إلى الوراء أكثر…
تلك الليلة، ليلة زفافهما في قصر الدوق بالعاصمة، حين تركها خلفه. كانَ الألم نفسه يضرب رأسه منذ تلك الليلة.
تلك المشاهد… ما الذي كانت تعنيه؟
لكن أفكاره قُطِعت فجأة، حين سمع صرخة قصيرة.
“آه!”
بلا أي تردد، أمسكَ إيزار مقبض سيفه، و انطلق نحوَ مصدر الصوت بسرعة غريزية.
هل يُعقَل أن يظهر وحش هُنا؟
لكنّ عجَلته كانت في غير محلّها ؛ فـفريسيا كانت تجلس بهدوء، تغمر قدميها في ماء النبع.
كانت قد خلعت معطفها و كل ما يثقُل حركتها من إكسسوارات، و ارتدت فستانًا أبيض من الكتان الناعم.
رفعت طرف فستانها حتّى رُكبتيها، و هيَ تحدّق بشيءٍ في الجهة الأخرى. من زاويته، لم يستطِع إيزار أن يخمّن ما الذي أثار اهتمامها.
ما الذي يُعجبها هُناك؟
“فراولة برّية!”
صرخت بحماسة، و قد نسيت تمامًا أن صوتها يصل إليه بوضوح.
ثم بدأت ترشّ الماء بقدميها بفرح، و هيَ تتّجه نحوَ شجيرات الفراولة البرية.
نظرَ إليها إيزار، ثُمَّ نقرَ لسانه بضجر و هوَ يُشيح بوجهه.
“هاه… لا يُصدّق.”
قبل لحظات كانت تتوسّل إليه بحرارة، و الآن تترك حذرها و تلهو كـطفلة صغيرة!
<إيزار… لا تذهب…>
و لا كانت توسّلاتها تلك أفضل حالًا…
كلماتها في نومها، بدت و كأنها تُعاتبه… و كأنها تسأله، بعينين دامعتين :
‘لماذا تركتني؟ لماذا سمحت بأن أصل إلى هذه الحال؟’
“كُفَّ عن تلك الأفكار السخيفة.”
لكن قبل أن تكتمل أفكاره، دوّى صراخٌ من خلفه مرةً أخرى، لم يكن هذه المرة صرخة اندهاش، بل صرخة ذُعر حادّة.
“آآااه!”
كانَ الصوت مشحونًا بالخوف لدرجةٍ جعلت القشعريرة تسري في جسده.
اندفع إيزار راكضًا نحوَ مصدر الصراخ للمرة الثانية. لم يكن من المفترض أن يوجد أحدٌ آخر هُنا.
هل تسلّلَ حيوانٌ بري؟ أم وحشٌ ما شقَّ طريقه إلى هُنا؟
“ما الذي يحدث؟!”
و قبل أن يشقّ طريقه عبر الشجيرات و هوَ يصرخ، توقّفَ فجأة بعدما رأى سبب الصرخة.
رجلٌ أشقر كانَ يقف أمام فريسيا، يحدّق بها بتركيز، و وجهه محجوبٌ بضوء الشمس من خلفه. رغم أن هيئتها و ما ترتديه كانا واضحَين تمامًا، لم يُبدِ أي نية للابتعاد أو حتّى الكلام.
و لكن بينما كانَ إيزار يهمّ بسحب سيفه، توقّفَ للحظة… لقد تعرّفَ إلى ذلك الوجه.
“انتظر، ذلك الرجل هو…”
لم يُمهله الوقت أن يُكمل جملته؛ إذ في اللحظة التالية، كانت فريسيا قد غمست يدها في قاع النبع و التقطت شيئًا، ثُمَّ ألقت به بكل قوتها.
“آآخ!”
صوتٌ مكتومٌ و مرضي لضربة قوية أعقبه صراخ ألم، تردّدَ صداه بين أشجار الغابة.
لقد أصابَ الحجر الذي رمتْهُ جبهة الرجل الأشقر تمامًا.
عادَ الابن الثاني لعائلة دينيب إلى القصر على نحوٍ غير متوقّع.
لم يكن في ذلك ما يُثير القلق. فـظهور ألبيريو دينيب المفاجئ لم يكن بالأمر الجديد، و لم يبدُ على والديه، الماركيز والماركيزة، أيّ ذهول أو اندهاش من قدومه غير المعلن.
إلّا أن الأمر غير المعتاد قليلًا كانَ محاولته دخول القصر عبر ممر “نبع الشفاء” الجانبي… و تلقيه حجرًا صغيرًا رُمي نحوه من قِبَل الدوقة.
و رغم أنه خفف من أثر الضربة باستخدام السحر، إلا أن جبهته قد ازدهرت بعلامةٍ بديعة للغاية.
و من منظور الماركيز و الماركيزة، كانَ من حقهما تمامًا أن يتذمّرا من نتيجة إعارة النبع، إذ انتهى الأمر بتعرض ابنهما لإصابةٍ شبه خطيرة.
لكن المشكلة الأكبر لم تكمن في الإصابة ذاتها، بل في أن الابن كانَ قد رأى الدوقة في وضعٍ حرج وقت الضربة. حادثة غير مقصودة كهذه، لو وقعت في عصور مضت، لكانت كفيلة بجعل أحد الطرفين، أو كليهما، يُفضل الموت على العار.
و هكذا، خيّمَ صمتٌ مُربك على أرجاء قصر دينيب.
أما فريسيا، التي جلست إلى جانب إيزار، فقد انحنت برأسها خجلًا و ارتباكًا.
ما الذي يفترض بي فعله الآن؟ لا أملك أدنى فكرة عمّا يجب أن أقوله أو كيف أتصرف…
لم تستطِع حتّى أن ترفع عينيها لتنظر مباشرة إلى الماركيز أو الماركيزة، أو إلى اللورد ألبيريو دينيب نفسه، خصوصًا بعد أن كانت تلهو بجمع الفراولة البرية و قد رفعت طرف فستانها عاليًا جدًا.
“احمم.”
و في النهاية، قطع الماركيز ذلك الصمت المحرج.
“حسنًا… أولًا، يبدو أن رأس ابني لا يزال سليمًا.”
“أبي، هذا قاسٍ جدًا…”
“أُقدّم اعتذاري أولًا عن قلّة اللباقة التي صدرت من ابني بحقّ الدوقة.”
رغم محاولات ألبيريو للتدخّل، تجاهله الماركيز تمامًا وبهدوء.
تمكنت فريسيا أخيرًا من استجماع شتات نفسها.
“أنا حقًا ممتنة للطف كلماتكم، يا ماركيز. أما بالنسبة للورد دينيب… فأنا لا أعلم كيف أعبّر عن اعتذاري.”
“لا تقلقي، يا دوقة.”
عندها فقط استطاعت فريسيا أن تلقي نظرة خفيفة على ألبيريو.
الفتى المُدلل المحبوب لدى سيدات البلاط.
و كانَ لقبه في محلّه تمامًا، فـملامحه الوسيمة، و شعره الأشقر، و عيناه الزرقاوتين النقيّتان، كانت تجذب الأنظار دون مجهود. إن كانَ إيزار أشبه بعاصفةٍ ليلية، فـألبيريو بدا و كأنهُ تجسيد لربيعٍ مشمس بنسائمه الهادئة.
و معَ ذلك، و رغم وجود لاصقة كبيرة تتوسّط جبهته، لم يتردّد في أن يغمز لـفريسيا بنبرة مرحة، مما أضفى طابعًا طريفًا على وسامته.
“كما قال والدي قبل قليل، لا شيء أصابَ رأسي.”
“و إن كانت تلك التحية اللطيفة موجّهة لي وحدي، فذلكَ شرفٌ كبيرٌ لي.”
تراجعت فريسيا تلقائيًا إلى الخلف.
التعليقات لهذا الفصل "25"