انتهت حملة صيد الوحوش هذه أبكر بكثير مما كانَ متوقعًا بسبب صغر نطاقها. و معَ ذلك، كانَ إيزار يخطط للمغادرة بعد الانتهاء تمامًا من الحملة، كما خططَ منذ البداية.
لم يرَ أي داعٍ لتغيير خططه الأصلية من أجل “شخصٍ ما” في القلعة.
و لكن، بطريقةٍ ما، وجدَ نفسه يعبث بسوار الخيط الملفوف حول معصمه.
الإكسسوار المصنوع من خيط أسود سميك و ناعم و سلك ذهبي، لم يكن له أي فائدة على الإطلاق.
تمامًا كـالشخص الذي صنعه.
و معَ ذلك، بينما كانَ يعبث به، كانَ ملمس الحياكة الفريد من نوعه قد انطبع بوضوح على بشرته.
شعر بالسخف، كما لو كانَ شخصًا مدمنًا على التبغ أو الكحول.
‘لا شكّ أنني فقدت صوابي في مكانٍ ما.’
و لك أن تتخيل… أنها صدّقت تلك الكلمات بجدية؟
‘أقدّمه لك كـفتاةٍ قروية مُعجبة بك، يا دوق.’
كانَ ذلكَ سخيفًا إلى حدٍ كبير، و معَ ذلك، جزءٌ من الغضب الذي ظلَّ يعتمل في صدره طويلًا تبددَ إلى عبثيةٍ لا معنى لها.
لقد خرجَ قاصدًا وحشًا عظيمًا كما قيل في الشائعات… فقط ليجد قطةً صغيرة بلا مخالب، تموء في الظلام.
في هذه الأثناء، كان فين، الذي كانَ يُرافق إيزار في مهمته، يرتجف قليلًا.
‘إذاً، لقد فعلتها حقًّا…’
أن تُفكّر بأنها اتّبعت نصيحته العابرة بذلك القدر من الجديّة… جعله لا يعرف ما يقول حين رأى سوار الخيط ذاك، و شعرَ بشيء من الشفقة يتصاعد في قلبه.
كـخادمٍ تابع، لم يكن لـ فين أيّ مكان للتعاطف معَ “الدوقة”.
و معَ ذلك، بعدَ أن رأى بعينيه عروس الدوقية الجديدة و هيَ تبدي قلقها من مغادرة زوجها، فكّر بأن مساعدتها مرّة أخرى لن يسبب ضررًا كبيرًا.
اقترب من إيزار و نقّى حنجرته قليلًا قبل أن يتحدث :
” سيدي، إن أذنت لي… لديّ اقتراح.”
“ما هو، يا سير دريك؟”
“ما رأيك أن تعود أنت أولًا؟”
“بما أن نطاق الحملة صغير، فقلة من الرجال يكفون للتعامل معَ ما تبقّى.”
لم يرد إيزار على الفور، لكن صمته لم يكن رفضًا كذلك.
غير أن “تشارلز كارولي” لم يتمالك نفسه و وبّخَ فين.
“سير دريك، ما الذي تقوله! الدوق يتولّى دائمًا متابعة ما بعد الحملة بنفسه!”
“يمكن التعامل معَ ما بعد الحملة كما هو معتاد.”
لم يكن أمرًا غريبًا أن يعود الدوق و بعض معاونيه المقربين أولًا، بينما يُترك الباقون لتفقد المنطقة المنكوبة و رفع تقرير لاحقًا.
عندها فقط، و بنبرة جافة، و بنظرة حادة إلى الأمام، زجر إيزار.
“هُراء. عُد إلى موقعك، سير دريك.”
كانَ لا يرغب برؤية سوار الخيط ذاك مجددًا، فأعاده إلى جيبه.
…لكن عندما أخرجه للمرة الثلاثين تقريبًا، زفرَ بضيق.
“هاه… حسنًا.”
كانَ عليه أن يعترف بذلك.
تمامًا كما أن نسيج سوار الخيط هذا انغرس في حواسه، تسلّلت أفكار تلكَ الراعية إلى قلبه… سواء كانت تلكَ الأفكار انزعاجًا، أو شعورًا بالذنب، أو أي شيء آخر.
‘من المُحتمل أنها ستُهان في حفل الشاي.’
من المؤكد أن زوجة أبيه تدفع الراعية بخبث إلى فخّ أنيق تنصبه السيدات.
لكن أي إهانة قد تتلقاها تلك المرأة، في النهاية، ستكون إهانة لهُ هوَ.
‘يقولون إن الضربة السريعة أقلّ إيلامًا.’
إذًا، بدا لهُ أنهُ مِنَ الأفضل تحمّل ذلك الانزعاج ببساطة و المشاركة في ذلك العار.
لذا، انطلق هوَ و عدد من معاونيه المقرّبين نحوَ القصر قبل الموعد المقرّر.
و لم يرَ ضرورة لإرسال رسالة تُعلِم بعودته.
‘سأصل قبل أن تصل الرسالة على أية حال.’
و معَ ذلك، بدا أن الخدم الذين استقبلوه مذعورون أكثر مما تقتضيه عودته المبكرة.
“سيدي الدوق! أولًا، دعنا نـ… نأخذ العتاد و نتولى أمره.”
“لا داعي لذلك. هل انتهى حفل الشاي؟”
كانَ يتوقّع أن يجد إحدى النبيلات المهانات تشكو، لكن القصر كان صامتًا بشكلٍ مريب.
صمت غير مريح.
كأنه الصمت الجليّ الذي يسبق مواجهة وحشٍ مفترس.
“…أين السيدة الكبيرة، و تلكَ المرأة؟”
“في الواقع، الأمر هو، أمم…”
أولئك الذين خدموا في القصر لسنوات تردّدوا في الرد.
لكن الخادمة ذات الشعر الأحمر صرخت بقوة :
“السيدة معَ السيدة الكبيرة!”
كانت الخادمة المكلّفة برعاية الراعية، و قد جاءت معها من العاصمة.
فكرَ للحظة في تصحيح لقب “السيدة” الذي لم يرق له، لكنه قرر أن يراهم أولًا.
أي مشهدٍ كانَ يتوقّع أن يجده؟ هل ظنَّ أن زوجة أبيه ستقوم بتأنيب الراعية بأسلوبها المعتاد؟
إذًا، لماذا بدا كبير الخدم شاحب الوجه و قلقًا إلى هذه الدرجة حينَ فتح الباب بأمره؟
“…ما هذا.”
ما إن انفتح الباب، حتّى شعرَ و كأنه يحدّق في كابوسٍ ضبابي.
كانَ المكان يغصّ برائحة الدم و عبير ورد البريّ.
امتزاج رائحة الحديد المُرّة بعبق الورد الوحشي كانَ كافيًا لجعل المرء يرغب في التقيؤ.
“ما الذي…”
و على الأرض، كانت هُناكَ امرأة ذات شعرٍ بنيّ بلون الكتان، ملقاة بلا حراك كما لو أنها فقدت وعيها. فستانها الأبيض كانَ مرفوعًا حتّى ركبتيها، و قد تلطّخ بالدم تمامًا.
كانت ساقاها المكشوفتان أسفل الفستان ممزّقتين بشكلٍ مروّع.
“…ما الذي تفعلينه بالضبط الآن؟”
بدا صوته و كأنه آتٍ من مكانٍ بعيد، كما لو أن شخصًا آخر يتحدث من خلاله. فجأة، شعر بألمٍ حاد يضرب صدغيه، كما لو أن أحدهم هشّمهما بمطرقة ثقيلة.
كانَ دوارًا مؤلمًا، كأنما أحدهم قد سحقَ تلك البقعة في رأسه بكل ما أوتي من قوة.
و في اللحظة ذاتها، تردّد صوت من طفولته في أذنه.
<أبي… ما الذي تفعله؟>
بدأ النبض في عروقه يعلو حتّى خُيّلَ إليه أنهُ يسمعه في أذنيه.
نَبْض، نَبْض.
تمامًا كما حدثَ حينَ فتح بابًا في صغره، ببراءة، دون أن يعرف ما خلفه.
تمامًا كما حين رأى امرأةً جاثية على الأرض، تبكي بهدوء.
“إ-إيزار…”
استفاق فجأة من غمرته حينَ سمِعَ صوت إلكترا المتلعثم، و قد علت الدهشة وجهها.
كانت تمسك بيدها عصًا من أغصان الورود البرية، تلطّخت بالدماء…
و دماء من؟ كانت دماء الراعية…
***
ما كان يريده إيزار هو أن تبقى تلك الراعية صامتة كـالفأر، ثُمَّ تختفي بهدوء.
كانَ يأمل ألّا تثير أعصابه الممزقة أصلًا حتّى يحين الوقت المناسب لعزلها، حين يتنحّى الإمبراطور أخيرًا.
لكن… هل كانَ ذلك يعني أن تُحتجز في غرفة بالية كهذه؟
نظرَ إلى المرأة الممدّدة على السرير المتهالك، و راحَ يتساءل معَ نفسه مجددًا.
بطانية عفنة، و مكان لم يكن يعرف بوجوده أصلاً.
و تلك الرائحة المريعة التي غمرت الأرجاء… رائحة الورد البري.
هل حقًا لم يكن يعلم أنها ستنتهي في مثل هذا المكان؟
تقدّم الطبيب، الذي كانَ يسير على أطراف أصابعه من فرط التوتر، و تحدّث بحذر :
“لقد انتهينا من العلاج، يا صاحب السمو.”
غمره شعور غاضب شديد و هوَ يحدّق في المرأة التي كانت مغمورة في الفراش، و لم تفتح عينيها حتّى بعد مرور يوم كامل.
و هوَ يحدق صامتًا، بدأ الغضب يتصاعد من أعماق معدته.
من أين جاء هذا الغضب المتأجج؟
هل كانَ بسبب نفسه، لكونه غبيًا و يحدّق في امرأة تعرضت للضرب حتّى تحولت إلى حطام؟
أم كانَ بسبب تلك المرأة، التي كانت تقف في ركن بعيد من الغرفة، عينيها مفتوحتين على اتساعهما، و تقول كل ما ترغب في قوله؟
لكن، كانَ هُناكَ شيء واحد واضح.
تجرأت زوجة أبيه، ألكترا، على التمرد على أمره.
“…قلت لكِ بوضوح، أمي.”
كانَ صوت إيزار باردًا و هوَ يتمتم، و تراجعت المرأة التي كانت تختبئ في الظلال فجأة.
“كنت سأتعامل مع الأمر بالطريقة المناسبة. لذلك قلت لكِ أن تتركي هذه المرأة و شأنها.”
“لكن…”
“هل كانَ من الصعب عليكِ اتباع هذا الأمر الوحيد؟”
“إيزار، كنت أحاول فقط أن أزرعَ بعض الانضباط!”
“انضباط؟”
تحولت عيناه الذهبيتان إلى البرودة القاتلة و هوَ ينظر إلى ألكترا.
“هل جعلها عاجزة هوَ انضباطكِ؟”
“إيزار…!”
صرخت ألكترا في وجهه، شاحبة الوجه.
كانت هذه هي المرة الأولى التي يظهر فيها ابن زوجها هذا الغضب المباشر تجاهها.
‘هذا خطير!’
شعرت أنه إذا لم تفسر موقفها بشكلٍ صحيح الآن، فإن سلطتها قد تنهار في لحظة.
“لم أكن أقصد هذا أبداً، إيزار!”
“إذاً ماذا كنت ارى بعينيّ؟ كنتِ أنتِ من تستخدمين ذلك الغصن كعصا!”
“ذلك الغصن! غصن الورد البري! أحضرته هذه المرأة. يا له من وقاحة…!”
“حتّى لو كانت هذه المرأة هي من جلبته!”
دمدم!
صوت خفيف من إيزار و هو يضرب الجدار انفجر بصوت مدوٍ. ارتعشت ألكترا كما لو كانت هي من تعرضت للضربة.
“لو كانَ لديكِ أي عقل، لكان عليكِ اختيار طريقة أخرى للتأديب!”
“ماذا…!”
شهقت ألكترا و هيَ تمسك بصدرها.
” ‘عقل’؟ كيف يمكنكَ قول شيء كهذا؟”
كانَ الأمر بمثابة صرخة تقول : “لماذا أنتِ غبية إلى هذا الحد؟” لم تشعر ألكترا بهذا القدر من الإهانة في حياتها.
فركَ إيزار جبهته، و هوَ يكبح الكلمات القاسية التي كانت على وشك الخروج.
“فقط اذهبي. و تذكري ما قلته.”
لم ترد ألكترا، بل كانت تعض شفتها بدلاً من ذلك.
لكن عندما لمح إيزار بعينيه تلك اللمعة الحادة، شعرت وكأنها تقف أمام وحش ضخم، و أصبحت ساقاها ضعيفتين.
“هل فهمتِ؟”
“فهمت… إيزار.”
“و أثناء وجود هذه المرأة في القلعة، رتبي لها غرفة مناسبة.”
لم ترد ألكترا على الأمر، لكن كانَ من الواضح أنها شعرت بتأثير كلماته.
في الخارج، كانت السيدة ميروب، الخادمة الرئيسية، تنتظر بتردد.
“سيدتي…”
“ابحثي عن مكان جديد لتقيدي فيه تلك الفتاة.”
تلفظت ألكترا بالكلمات في حالة من الغضب الشديد.
الآن بعد أن تم كشف حالة الغرفة، إذا لم ترسل المرأة إلى مكان مناسب، فإن إيزار سيعاقبها بشدة مرة أخرى.
لقد حاولت أن تتخذ زمام المبادرة، لكنها واجهت هزيمة مهينة في البداية.
و باعتبارها امرأة كانت تحكم هذا المكان، كانت مصممة على الانتقام من هذه الإهانة مهما كلفها الأمر.
أولاً، هناك شيء واحد يجب عليها فعله.
“نحتاج إلى إرسال رسالة إلى منزل أنتاريس.”
—
حتّى بعد أن غادرت ألكترا، استمر إيزار في النظر إلى الراعية بتركيز لبعض الوقت.
لقد راقبها بجانبها هكذا حتّى في الليلة التي لم تكتمل فيها زواجهما.
لكن الفارق الآن هوَ أنهُ في تلك الفترة، كانَ يظن أن عينيها تشبهان عيني امرأة مُسنّة.
<أقدّمه لك كـفتاةٍ قروية مُعجبة بك، يا دوق>
الآن، عرفَ كيف يمكن لتلك العيون أن تتألق بجمال.
أخرج إيزار سوار الخيط من جيبه و راحَ يعبث به بصمت.
‘عندما أفكر في الأمر… كانَ الأمر نفسه عندما كنت في الثامنة عشرة.’
هل مرَّ بالفعل حوالي خمس سنوات؟
و هوَ يسير على التلة في الغروب، نظرَ إلى الراعية، و بالصدفة، رأى عينيها الخضراوتين المتلألئتين في ضوء الغروب.
على الرغم من أنها كانت تبدو أكثر نحافة و إرهاقًا في ذلك الوقت، إلا أنهُ فكرَ للحظة كم كانت عيناها كبيرتين.
‘كنت فضوليًا بشأن ما تخفيه تلك العيون الكبيرة.’
و هكذا، انتهى به الأمر بإنقاذها عندما سقطت غافلة في البحيرة. كانَ حظًا خالصًا أن يكون يراقب في تلك اللحظة.
‘كانت دائمًا تنظر إلى الأسفل، لذلك لم أتمكن من رؤية أي شيء.’
لكن الفضول العابر الذي شعرَ به و هوَ في الثامنة عشرة سحقه أمور أكثر أهمية عندما علم بوجود “الأخ غير الشقيق” الذي تركته أمه…
و عندما كانَ على وشك أن يعبس من الكراهية.
“…إيـ … زار.”
تحركت المرأة على السرير و همست بصوت خافت.
توجهَ نحوَ الباب عازمًا على المغادرة، بعد أن عالج جروحها و نقلها إلى غرفة أفضل قليلًا.
‘و سأنسى أمرها هذه المرة.’
كانَ يخطط لذلك حتّى يتمكن من إخراجها من حياته.
“…إيزار.”
لكن قبل أن يتمكن من الالتفاف، أوقفته كلمات المرأة التي كانت تنقطع بين لحظة وأخرى.
لا تزال عيناها مغلقتين، و كانت تئن من الألم.
“لا تذهب…”
وصلت تلك المناشدة الأخيرة إلى أذنه بوضوح. و في النهاية، عادت إلى النوم المضطرب، مختلطًا بالأنين من شدة الألم.
عادَ الهدوء ليغمر الغرفة بعد أن ملأتها رائحة الورود البرية.
فريسيا لم تتذكر أنها قد بكت يومًا.
أمها، حتّى في جنونها، كانت تكره رؤيتها تبكي و تمنعها من ذلك بالضرب.
و عندما فاتها السن الذي كانَ يُسمح فيها بالبكاء بحرية، أصبحت غير قادرة على ذرف الدموع حتّى عندما امتلأت عيناها.
لذا، في اليوم الذي اضطرت فيه لتوديع طفلها، لم تنزل الدموع أيضًا.
حتّى عندما همس الناس عنها بأنها قذرة، لم يكن لديها القوة لتجادلهم.
<أن يُولَدَ من أبوين مثلنا… السعادة ستكون بعيدة عن ذلك الطفل إلى الأبد.>
رُبما لهذا السبب قالَ زوجها تلك الكلمات.
ليسَ لأنه لم يحبها، و لكن لأنه وجدها، التي لم تبكِ من أجل طفلهما، مُنفِرة للغاية.
لكن في الحقيقة، فريسيا أرادت أيضًا أن تتمسك بإيزار عندما كانَ يغادر في ذلك اليوم.
و أن تلحَ عليه و هيَ تبكي.
‘إيزار، لا تذهب.’
التعليقات لهذا الفصل "23"