حينَ تخاف من شخصٍ لفترة طويلة، تُصبح في نهاية المطاف تُشبهه حتّى النخاع، من دون أن تدري.
تمامًا كما تتحوّل الكنة، التي كرهت حماتها الشريرة، إلى الوحش ذاته الذي كرهته ذات يوم.
‘رغم كرهي للأمر، انتهى بي المطاف إلى ترتيب كل شيء بما يتوافق مع ذوق السيّدة إلكترا العجوز.’
رغم أنها بكت طيلة ثلاث سنوات بسبب إلكترا، فإن فريسيا قلّدَت كُلَّ ما فعلته الأخيرة… خطوة بخطوة.
الملابس التي ترتديها أمام الآخرين، ذوقها في الشاي، و حتّى طريقتها في التحدُّث، كُلُّ شيء كانَ تقليدًا دقيقًا.
ولم يكن ذلك نابعًا من الإعجاب، بل من يأسٍ مرير، خوفًا من أن يُؤدِّي أي تقصيرٍ في التقليد إلى المزيد من الضرب.
و هذه المرّة، كانت عازمةً على ألّا تُؤخذ عليها هفوة واحدة.
لا خادمات يُساعدنها؟
إذًا ستُهرول بنفسها، و تبحث في المكتبة عن سوابق مقبولة تُبرّر تصرّفاتها.
أما إن تجاهلت الحلوى المصنوعة من الجريب فروت كُليًا، فذلك سيُثير شكّ إلكترا، أليسَ كذلك؟
حينها، يكفي أن تُعدّل حصة شخصٍ واحد فقط، و تجد سببًا مقنعًا لذلك.
و هكذا، انتهى حفل الشاي دون أي أخطاء تُذكَر، و إن لم يكن دافئًا، فقد خيّمَ عليه جوٌ مُتوتِّر و مُربك.
‘و بحسب معاييري… هذا يُعدّ نجاحًا.’
لقد عُدَّ الأمر نجاحًا طالما لم يُصاب أحد بطفح جلدي، و لم ينفجر أحد في البكاء.
غير أن ما حدث بعدَ ذلك جعلَ حاجبي فريسيا يرتجفان قليلًا.
فور انتهاء الحفل، استدعت إلكترا فريسيا إلى غرفتها، و كأنها تُفرغ غضبها عليها بشكلٍ غير مُباشر، إذ صَفَعَت بيدها المنضدة بقوة.
“كيفَ تجرؤين! من الذي تَصَرَّف دونَ إشراف مَن قضت أطول فترة في إدارة هذا المنزل؟”
“بِمَ اقتديتِ؟ أبهذاك الحدث الوحيد، عندما قمتُ بذلك بنفسي؟ تجرؤين على تقليده؟!”
لكن بدلًا من الرد، اختارت فريسيا الصمت.
‘ومَن الذي قالَ لي أن أتولّى الأمر بنفسي أصلًا؟’
لو كانت قد ذهبت لتطلب النصيحة، لكان من المؤكد أنها ستُضرب بالكلمات المعتادة : “ألا تعرفين ذلك؟ لن أترك هذا يمرّ مثلما حدث من قبل.”
لقد كانت تلكَ هيَ الحال مرارًا و تكرارًا في حياتها السابقة.
“أبوكِ أصبحَ فجأة دوق أنتاريس، و الآن تعتقدين أن هذا المنزل مجرّد مزحة؟ الجميع هُنا يعرف كيف كنتِ أنتِ و أمكِ تعيشان!”
“تجرؤين على أن تكوني جاحدة للرعاية التي قُدمت لجثة والدتك المجنونة، التي كانت تتعفن و تغصُّ بالديدان، و تجرؤين الآن على أن تكوني وقحة!”
عضّت فريسيا شفتها السفلى بصمت.
على الرغم من أن تلكَ المرأة قد جنّت و ضربتها يوميًا…
إلا أنها كانت أقرب شخص إليها، كانت قريبتها الوحيدة بالدم.
و رغم قسوة والدتها، لم تكن فريسيا تعتقد أنها تستحق أن تُتَّهم بتلكَ الطريقة البائسة حتّى بعد وفاتها.
ثُمَّ أومأت إلكترا نحوَ النافذة.
“تلكَ التصرفات الوقحة يجب أن يتمّ تصحيحها بشكلٍ مناسب.”
كانت هُناكَ عدة أشجار ناضجة خارج النافذة، لكن فريسيا كانت تعرف تمامًا ما كانت تشير إليه.
“اختاري غصنًا ليكون عصا لك.”
“إذا جلبتِ شيئًا غير مناسب، ستعودين لاختياره مجددًا.”
“… نعم، سيدة إلكترا.”
انحنت فريسيا بأدب، و انتهت في داخلها من التفكير.
‘سأتركها تضربني.’
رغم مظهرها الحالي، فقد كانت قد تعرضت للضرب طوال حياتها، و رُبما لأنّها كانت ترعى الأغنام، لم تكن هشة.
لهذا السبب، لم تتردد إلكترا في حياتها السابقة في “تأديب” فريسيا أيضًا.
أخذت فريسيا مقصًا و سكينًا من البستاني و ذهبت بمفردها لاختيار شجرة. لفت نظرها غصن بدا مناسبًا تمامًا لتمسكه إلكترا.
‘يجب أن يكون مقبولًا أن أتعرض للضرب بهذا.’
بينما كانت تقطع الغصن، بدأ ذهنها يغرق في حالة من اللامبالاة المتزايدة.
صوت لم تسمعه مُنذُ فترة طويلة، لكنها لم تفتقده أبدًا.
“… مُرهِق.”
كانَ ذلك الصوت الذي سمعته كثيرًا خلال زواجها.
كانت إلكترا تغضب منها، و في النهاية كانت تطلب منها تحضير عصا كهذه لكي تتعرض للضرب بها.
“مُرهِق.”
كانَ الأمر دائمًا هكذا عندما كانَ “زوجُها” غائبًا.
نظرًا لأن الكدمات لم تكن مرئية، لم يلاحظها إلا في السنة الثالثة من زواجهما، بعد ليلة الزفاف.
ماذا كانت ردة فعله عندما رأى الندبات على ساقيها تلكَ الليلة؟
لم يقُل شيئًا.
كانت عيناه الذهبيتان ضبابيتين في تلكَ الليلة.
“مُرهِق…”
كم من الوقت يجب عليها أن تظل كائنًا موجودًا فقط لتتلقى الضرب حسب نزوات الآخرين؟
ليسَ فقط من إلكترا، بل مُنذُ ولادتها على يد أمها.
على يد أتريا.
و حتّى دوقة أنتاريس.
حتّى أن حياتها قد تغيرت عندما كانت حاملاً في طفلها…
تلاشى الضوء من عيني فريسيا.
ببطء، سحبت يدها من فرع السرو الذي كانت تقطعه، و تابعت مسيرتها.
نحوَ الأدغال الكثيفة من الورد البري المتفتحة من الأشواك أسفل غرفتها.
—
حتّى إلكترا المتعجرفة اضطرت للاعتراف.
هذه الفتاة الراعية، التي دخلت كـزوجة لابنها، لم تكن شخصًا عاديًا.
فقط حقيقة أنها اكتشفت ما لا تستطيع السيدة ميريوت أكله، أظهرَ مدى دهائها في الواقع.
بل كانت تتظاهر بالهدوء لكنها تحمل السمّ في قلبها.
“ما هذا…؟”
“كما طلبتِ، جلبتُ شيئًا ليُستخدم كـعصا.”
انظروا إلى وجهها الخالي من التعبير و هيَ تقدم “العصا” التي كسرتها من أجل إلكترا!
كانت الراعية تمد يدها بحزمة من الأغصان التي لا تزال مزدهرة بأزهار الورد البري البيضاء.
و رغم أن رائحتها قد تُغشي العقل، إلا أن الورد البري جاء بلا شك من الأشواك.
“هذا…!”
تدفقَ الغضب في إلكترا بشكلٍ عنيف لدرجة أنها ظنت أن طبلة أذنها ستنفجر.
هذه المخلوقة الوضيعة كانت تتحداها.
هل تعتقد أنها ستخيفني بتقديم شيء قبيح كهذا؟ أنا السيدة إلكترا؟
قامت إلكترا بكبح غضبها بابتسامة ملتوية ثُمَّ صرخت.
“ها! هل تعتقدين أنني لا أستطيع التعامل معَ ذلك!؟”
حتّى والدة إيزار نفسها كانَ عليها أن تكبح نفسها أمامها. و الآن، ظهرت هذه اللقيطة فجأة و تجرأت على تحديها بهذه الوقاحة؟
“إذا كانَ هذا ما تريدين، سأضربك بتلك الفروع الشائكة حتّى تسقط كل شوكة منها.”
“ارفعي تنورتك و اصعدي على الكرسي.”
أغلقت السيدة ميروب الباب في الوقت المناسب.
الآن، كانت الغرفة تضم فقط إلكترا، السيدة ميروب، و الراعية.
صمتت الراعية و هيَ ترفع طرف فستانها الأبيض حتّى ركبتيها.
و بمُجرّد أن صعدت على الكرسي، قامت إلكترا برفع العصا.
أثر الضربة على ساقيها، و الخدوش التي تركتها الأشواك على جلدها، كانت واضحة.
“من أين تعلمتِ هذا السلوك السيء؟ أن تسخري من الناس بمثل هذه الحيل!”
“هم؟ آه، بالطبع، لا بُدَّ أن ذلك من أمك المجنونة!”
ضربة تلو الأخرى.
الفرع القاسي ضربَ بشدة.
غرزت العديد من الأشواك في الجلد، و لكن لم يُمنح لها الوقت لإزالتها.
و بمُجرّد أن تصبح الفروع خالية من الأشواك، تُلقى بعيدًا. كانت هذه الفتاة قد قطعت الكثير منها.
تمَّ التخلص من الفروع المدماة واحدة تلو الأخرى على الأرض. و بينما كانت تنظر إلى هذا المنظر، عضت فريسيا شفتيها بشدة.
‘هل كُنتُ غبية؟’
لماذا تغير عقلي في اللحظة التي خرجت فيها إلى الحديقة؟
لا يوجد ما يمكن وصفه سوى الجنون.
تداخلت رؤيتها، و كأنها أصبحت مجنونة، قطعت و قطعت فروع أشجار الورد الشوكية.
لقد منحها القدر فرصة معجزة بـعامٍ إضافيّ.
يجب أن تستغل هذا الوقت جيدًا و تعيش بكل قوتها. في هذه المرة، قررت أن تعيش حياة تستحق البكاء عليها عندما تموت.
“هااه.”
ألمٌ مُريعٌ امتدَ من داخل ركبتها إلى فخذها، مما جعلَ التنفس صعبًا للغاية.
كادت أن تسقط للأمام و لكنها تمكنت من الحفاظ على توازنها. رائحة دمها المختلط معَ عبير الزهور كانت كريهة.
حتّى الآن، لم تكن تريد الموت.
و معَ ذلك، كانَ غريبًا أنها في هذه اللحظة لم تكن تريد العيش أيضًا.
مهما قالت، لن يصلَ كلامها إلى أحد.
إذا كانَ عليَّ أن أتظاهر بأنني سليمة و أحافظ على واجهتي الهادئة وسطَ هذا الحقد المتفجر.
فأفضل أن أتكسر الآن، على أشواك شجرة السدر حيثُ ينام طفلي الذي لا اسم له.
ضربة!
أقسى ضربة حتّى الآن سقطت على ساقيها. في تلكَ اللحظة، فقدت فريسيا، التي كانت تحاول الحفاظ على توازنها، أخيرًا قدرتها على الوقوف.
معَ صوتٍ مكتوم، انهارت على الأرض في لحظة.
لكن لم يكن هُناكَ وقت للانحناء بسبب الألم الخدر الذي كانَ يرتفع.
“أيتُها اللقيطة المُتمرده القذرة!”
الشخص الذي يغلي غضبًا لا يتوقف بسهولة عن الضرب. كانَ صوت العصا و هيَ تضرب جسدها، معَ الصوت المكبوت لأنينها المقهور، يملأ أذنيها.
أدى الألم العنيف إلى تصلب عضلاتها ثُمَّ اهتزت كما لو كانت في حمى.
بعد ذلك، بدأ شعور فريسيا بالوقت في التلاشي.
“كان من الأفضل لكِ أن تموتي مع والدتك! و معَ ذلك تجرأتِ على جلب هذا العار إلى منزلي؟”
تسللت أشعة الشمس الساطعة عبرَ الستائر. كانَ الضوء شديد السطوع في الخارج، و معَ ذلك كانت لا تزال تزحف على الأرض.
كما في الماضي، كما لو كانت آفة.
كانت مليئة بالثقة في أنها ستتمكن من النجاح، لكن في النهاية لم تغير شيئًا…
ببطء، بدأ الضرب يصعد إلى ساقيها. فقط حينها رفعت فريسيا يديها لتغطية رأسها. رُبما يكون الضرب على الساقين أو الأجزاء الأخرى محتملًا، لكن ضربة على الرأس قد تكون كارثية.
و معَ ذلك، رأت إلكترا نواياها و ضربت يديها بعيدًا.
“أنزلي يديك فورًا!”
“هذه اللقيطة، تتظاهرُ بالضعف…”
كانَ يبدو أن صوتًا حادًا على وشك تمزيق أذنيها في أي لحظة.
من شدة الخوف، أغلقت عينيها بإحكام و هيَ تواجه الأرض. كانت تأمل فقط أن يُضرب في مكان لا يدفعها إلى الجنون.
لكن فجأة، توقفت الضربات.
“ماذا…؟”
مُرهقة، لم تستطع فريسيا حتّى رفعَ رأسها. كانت أذناها خالية من أي إحساس لدرجة أنها لم تتمكن من تمييز أي أصوات حولها.
“صـ – صاحب السمو! متى…؟!”
كانَ صوت السيدة ميروب يصرخ بلهجة مليئة بالذعر كما لو كانَ تحت الماء.
“الدوق…؟”
عندها فقط أدركت أن الباب خلفها قد فُتِحَ بعنف.
كانت السيدة ميروب قد أغلقته، و لا يمكن لأحد غير إلكترا أن يأمر بفتحه.
لكنها لمحت رجُلاً طويلاً يقف مقابل الضوء.
‘ذلكَ الشخص… لا يجب أن يكون قد عاد في هذا الوقت.’
في الظروف العادية، كانَ يجب أن يعود في وقتٍ لاحق، حتّى بعدَ أن انتهت الحفلة بشكلٍ كارثي…
لكن حتّى في الظلام، كانت تلكَ العيون الذهبية الساطعة لا شك فيها.
“ماذا تفعلين الآن بالضبط؟”
صوته، الذي كانَ باردًا بشكلٍ مُفزع عندما يغضب، و تلكَ العيون الذّهبيّة، كانا يجعلانها دائمًا ترغب في سؤاله شيئًا.
إيزار، لماذا لم تعترف بي عندما كُنتُ أتعذب في الجحيم…؟
لم أطلب أبدًا أن أكون وصمة عار عليك.
و إذا كُنتَ ستتجاهلني و تبتعد عني هكذا…
لماذا أنقذتني عندَ البحيرة؟
التعليقات لهذا الفصل "22"