ألقى إيزار نظرة جافة على الفرسان من حوله، و كأن عينيه تتركان شظايا من الجفاف.
‘من أخبرها أننا سنغادر؟’
من دون أي إشعار مسبق، كيفَ استطاعت أن تخرج و هيَ على هذا النحو من الاستعداد؟ و لسوء حظه، فاتته اللحظة التي تجنب فيها فين دريك نظرته بحذر.
كانت الراعية قد وصلت إليه بالفعل.
“أردتُ أن أودعك قبلَ أن تذهب، لذا خرجت.”
“لا حاجة لذلك.”
توجهَ ناظره بعيدًا عنها، أو كانَ سيفعل لولا أن الراعية سحبت كمَّه بجرأة.
“سيدي، أردتُ أن أُقدم لكَ هذا…”
لو لم تجرؤ على سحب كمّه، لكان قد أُصيب بالدهشة التامة. لكن عندَ النظر لأسفل، قدمت لهُ الراعية شيئًا كانت تمسكه في يدها بكُلِّ حرص.
“من فضلك، تقبل هذا… حتّى و لو كانَ هذا فقط.”
بينَ كفها الصغيرة كانَ هُناكَ سوار من خيط أسود.
رأى ذلك، و كادَ أن يرفع صوته، لكن للحفاظ على كرامته أمامَ هؤلاء الفرسان في هذا الصباح الهادئ، اضطرَ إلى أن يخفّض نبرته.
“لماذا لا تستطيعين تذكر ما قلته لك؟”
لم تكن نبرته خالية من القسوة.
‘قُلتُ لكِ ألا تتصرفي كأنكِ زوجة.’
لكن المرأة، السريعة كـفريسة صغيرة، قاطعت كلماته و تحدثت أولًا.
“أذكر. قُلتَ لي ألا أتصرف كـزوجتك.”
“إذن ما معنى هذا؟”
“هذا… ليسَ كـزوجة أُقدم لكَ هذا.”
رفعت الراعية كفها بحذر، و نظرت إليه بعينين مليئتين بالاحترام.
“أُقدمه لكَ، سيدي، كـامرأة قروية مُعجبة بك.”
“………”
“لذا، لم أُخالف كلماتك.”
أدارت وجهها خجلًا من تصريحها، فـضغطت شفتيها معًا بعد أن أنهت كلامها.
في تلكَ اللحظة، مرّت نسمة رقيقة بينهما داعبت خصلات شعرها. حتّى أن إيزار، الذي كانَ يحاول ضبطَ نفسه، وجدَ نفسه عاجزًا عن الرد حينَ نظرَ إليها مُباشرةً.
لقد فكرَ في هذا الأمر عدة مرات من قبل.
‘إن عيون هذه الراعية أكبر من اللازم.’
و ما لم يكن قد لاحظه حينَ كانت عيناها خاويتين، كـعيون امرأة مُسنّة، أصبحَ الآن جليًا. عندما امتلأت تلكَ العينان بالحياة، أصبحتا تتوهجان كما تتألق غابات الصيف في وضح النهار.
و تلكَ العينان المتلألئتان تجعلان الناظر إليهما ينسى كل أفكاره، و يجبرانه على الاستمرار في التحديق فيهما.
كم من الوقت مرَّ هكذا؟
اقترب تشارلز بتردد و همسَ لإيزار :
“سيدي، يجب أن نغادر…”
“… أعلم.”
لقد تاه للحظة في أفكار سخيفة، أسيرًا لضوء الصباح الذي يتسلل إلى عينيها الخضراوتين المتوهجتين.
و معَ ذلك، كانت المرأة لا تزالُ مُمسكةً بطرف ردائه برفق، تتحرك في توتر، كأنها تبحث عن كلمة أو لفتة تجعل هذه اللحظة أكثر وضوحًا.
‘يجِبُ عليَّ أن آخذه بسرعة و أتخلص منها.’
نظرًا لإصرارها، بدا أنها ستظل مُتمسكة و تتبع خطواته إذا لم يقبلها.
“أعطني إياها.”
“آه…!”
كانَ إيزار على وشك انتزاع سوار الخيط من يديها. دونَ أن يصغي لأي همسات كانت تخرج منها، ركبَ حصانه و لم يلتفت وراءه بينما كانت شمس الفجر تبدأ في السطوع.
—
في الحقيقة، لم تكن فريزيا تنوي تقديم سوار الخيط حتّى اللحظة الأخيرة، رغم أن ذلك كلفها تقليص وقت نومها لتصنيعه.
‘كانَ ينبغي لي أن أطلب من السير دريك أن يسلم الخنجر بدلاً من ذلك.’
ندمت على ذلك مراتٍ لا تعد و لا تحصى، لكن ما حدثَ قد حدث. و فكرت في أنها كان ينبغي لها ألا تذهب لتوديعه.
لم يكن جيدًا أن تستفز إيزار من البداية بهذا الشكل.
و معَ ذلك، بينما كانت تراقب خياله يختفي في الأفق، شعرت فريسيا بالامتنان للشجاعة التي منحها إياها عمرها المحدود.
“أنا سعيدة لأنني قدمتُ لهُ ذلك.”
رأتهُ يضع ما أعطته أياه في جيبه.
“أنا سعيدة لأنني تحدثتُ من صميم قلبي.”
كانَ من حسن حظها أنها استطاعت أن تقول و لو لمرة واحدة، في الوقت الذي تبقى لها، إنها تحبه.
لماذا لم تكن قد قالت تلكَ الكلمات البسيطة في حياتها السابقة؟
رُبما كانت خائفة جدًا، و غارقة في ظروفها.
‘كنتُ أستطيع أن أقولها على الأقل مرّةً عندما كنتُ حاملًا.’
ابتسمت فريسيا ابتسامة ساخرة، ثُمَّ استدارت نحوَ القلعة. كانَ هُناكَ جبال من العمل تنتظرها، لذا حان الوقت للتركيز.
“…أوه.”
لكن فجأة، اتسعت عيناها معَ إحساس بارد بينما كانت تفكر في الطفل، انحرفت أفكارها بلا إرادة إلى أيامها الأخيرة قبل الموت…
‘كيفَ متُّ؟’
تذكرت حتّى اللحظة التي خرجَ فيها “زوجها” من الغرفة. لابُدَّ أنها عاشت قليلاً بعد تلكَ اللحظة.
استرجعت محاولتها التظاهر بأن كل شيء على ما يرام، في سعيها لاستعادة صحتها و مواصلة الأنشطة الاجتماعية ببطء.
لكن ذكرياتها عن تلك الأيام الأخيرة كانت مُظلمة، كأنها محجوبة.
“…؟”
فركت فريسيا جبهتها و اغمضت عينيها لعدة ثوانٍ. مهما حاولت، لم تستطِع أن تتذكر يومها الأخير.
و معَ ذلك، نادت ثيا التي كانت تمشي أمامها بصوت عالٍ :
“سيدتي! سيدتي، ما الذي يحدث؟ يجب أن ندخل الآن!”
“آه… أنا قادمة.”
هزّت فريسيا رأسها بعنف و تقدمت للأمام.
‘هذه المسألة ليست مهمة الآن.’
كانَ من الأفضل إطفاء الحرائق العاجلة أولًا و التفكير في الأمر لاحقًا.
***
اقترب اليوم الذي سيجتمع فيه الجميع لملاقاة المضيفة الجديدة في حفل الشاي.
كانت شفاه إلكترا مشدودة بإحكام و هيَ تمشي نحوَ الحديقة التي سيُقام فيها الحفل.
‘هل كانت تلكَ الفتاة حقًا تعرف ما الذي كانت تحضر له؟’
لم تُعين الفتاة أي خادمة للاهتمام بها، و لم تُعطَ أي تعليمات حول كيفية إدارة هذا الحدث.
على الرغم من أن إلكترا كلفت ميروب بمراقبة الأمور، كلما زادت مراقبتها، كلما تزايدت شكوكها.
‘هل تم تعليمها بسرعة بواسطة أنتاريس؟ و إلا، فإنه من غير المفهوم…’
عندما فُتِحت بوابة الحديقة، كانت فريسيا، المنظمة لهذا اليوم، أول من استقبل إلكترا.
“أهلاً بكِ، سيدتي.”
تأملتها إلكترا بنظرات حادة.
كانت جاهزة لتوبيخها إذا كانت مُزينة بشكلٍ مفرط، و مستعدة لإحراجها إذا كانت مرتدية بشكلٍ متواضع للغاية.
لكن الفتاة لم تعطيها أي سبب للانتقاد.
بصدق، لو كانت إلكترا قد أنجبت ابنة تزوجت للتو، لكانت قد نصحتها بأن ترتدي مثل هذا تمامًا.
“تفضلي بالدخول. سأرشدكِ إلى مقعدكِ.”
ما كانَ أكثر مفاجأة… هو أنها كانت تعرف الترتيب الصحيح لجلوس الضيوف الأكثر أهمية.
‘كـ – كيف…؟’
همست إلكترا بحدة إلى ميروب، بنظرة يمكن أن تقتل.
‘من أخبرَ تلكَ الفتاة؟’
“…!”
هزت ميروب رأسها بسرعة.
هيَ و بقية الخادمات قد تجنبن الراعية تمامًا.
في الواقع، عندما طلبت مساعدة إضافية، تجاهلنها تمامًا!
لكن مع بدء دخول السيدات النبيلات واحدة تلو الأخرى، لم يستطعن إخفاء ذعرهن.
لقد كانت تعبيراتهن مختلطة بينَ الاستياء و الحذر، مستعدات للشكوى إلى إلكترا إذا لم يتمّ مناداتهُن بأسمائهن بالطريقة الصحيحة.
“شُكرًا لحضوركِ من مسافة بعيدة، سيدة كابيلا.”
“سعدتُ بلقائكِ لأول مرّة، سيدة لاميوم. أليسَ ابنكِ الثاني قد بلغَ سن الرشد مؤخرًا؟ أعتذر لعدم تهنئتكِ في الوقت المناسب.”
بينما كانت تحييهن، كانت على دراية بالأحداث الأخيرة في عائلاتهن، و أخذت مكانهن وفقًا لمرتبة كل عائلة.
جلست السيدات النبيلات بتعبيرات باردة، لكن عيونهن كانت تراقب إلكترا، و كأنهن يسألن: “ألم تقولي إن هذا الاجتماع سيكون كارثة.؟”
حافظت إلكترا على تعبيرها المهيب بصعوبة، لكنها في داخلها بدأت تشعر بعدم الارتياح.
‘لقد أسأتُ تقديرها تمامًا.’
لأن إلكترا كانت قد رأت الفتاة تُضرب من قِبل والدتها و ترعى الأغنام فقط، فقد كانت تحتقرها بشكلٍ غير واعٍ.
لم تكن تتوقع أبدًا أن تتصرف فجأة و كأنها “سيدة نبيلة”…
ولكن مع تقديم الشاي، بدأت العيوب تظهر.
“اليوم، كـعربون شُكر لحضوركن، قررت أن أعد الشاي بنفسي.”
وقفت فريسيا لتصنع الشاي بنفسها، كما تفعل خادمات سيدات النبلاء!
رأت إلكترا و صديقتها المقربة، السيدة ألدوفارين، هذا المشهد فـتبسمتا وراء مراوحهما.
“يا إلهي، الدوقة بنفسها؟”
رغم أنها خاطبت الفتاة بـ”الدوقة” بشكلٍ صحيح، إلا أن نبرة صوتها كانت مشبعة بالسخرية.
“إنهُ عملٌ جدير بالثناء، لكن أليس ذلك نوعًا ما… غير لائق؟”
“كيفَ ترين ذلك كذلك؟”
“من المناسب أن يتولى الخدم إعداد الشاي.”
لوحت السيدة ألدوفارين بمروحتها مبتسمة بلطف.
“علاوة على ذلك، بما أنكِ انضممتِ حديثًا إلى ‘هذا العالم’، فلا بُدَّ أنكِ تملكين الكثير لتتعلمينه من السيدة إلكترا.”
و على تلك الكلمات، تبادلت النظرات معَ إلكترا و ابتسمت.
كانَ الوقت قد حان للسخرية الخفية من خلفية الراعية، دونَ أن تدرك ذلك، بينما كانَ الجميع على استعداد للإساءة إليها.
و معَ ذلك، تابعت الراعية بصبر في سكب الشاي.
“لقد استلهمتُ من حفلة الشاي الأولى التي نظمتها السيدة إلكترا. أليسَ ذلكَ مناسبًا؟”
“…ماذا؟”
“لقد خدمت السيدة إلكترا السيدات شخصيًا في حفلتها الأولى، حتّى أنها قامت بتحضير الشاي الثمين بنفسها.”
“كيفَ يمكنكِ أن تكوني متأكدة؟ لم تكوني حاضرة في ذلك الوقت.”
رمشت الراعية عينيها الواسعتين ببطء.
“لقد تمَّ توثيقه في سجلات هذه العائلة.”
“…!”
“لأنه من المعتاد الاحتفاظ بسجلات التحضيرات للفعاليات العائلية.”
تبادلت السيدات نظرات سريعة مندهشه.
بالفعل، يحرصن على توثيق الأحداث للاستعداد للقاءات مماثلة في المستقبل.
و عيون امرأة قريبة من سن إلكترا اهتزت بشكلٍ أقوى.
لقد تذكرن! كانَ ذلكَ بالفعل هوَ الحال!
بعدَ أن تمَّ تثبيت لقب “دوقة”، عمدت إلكترا إلى كسر التقاليد لتصبح أقرب إلى السيدات الأخريات، معتبرة ذلك من امتيازات الأقوياء.
ابتسمت الراعية بأدب للسيدة ألدوفارين.
“كما ذكرتِ، سيدتي، يجب عليَّ أن أتبع مثال السيدة إلكترا، خاصةً لأن هذه هيَ المرة الأولى لي. دعيني أخدمك أول كوبٍ تكريمًا لها.”
“شـ… شُكرًا لكِ.”
قبلت السيدة ألدوفارين الكوب بإحراج.
لقد ندمت على هجومها الأول. لقد هُزمت تمامًا.
في تلكَ اللحظة، اقتربت خادمة ذاتَ شعر أحمر بسرعة، تحمل عربة محشوة بالحلوى المرتبة بعناية.
و مرّة أخرى، قامت الراعية بالوقوف لتوزيع الحلويات شخصيًا.
كانَ الكعك، المزين بالكريمة البيضاء بوفرة، جذابًا، لكن كانَ من الصعب معرفة الفاكهة التي بداخله حتّى يأخذ أحدهم قضمة.
اتسعت عيون إلكترا و ميروب في نفس اللحظة.
‘داخلها مليء بالجريب فروت.’
ذلكَ كانَ الشيء الوحيد الذي تأكدوا من إخبار المطبخ به.
قطعت إلكترا نصف الكعكة بالشوكة، كاشفة عن قطع الجريب فروت المنقوعة بالعسل داخلها.
على الرغم من مظهرها المغري، رفعت إلكترا صوتها فجأة.
“دوقة، ما هذا بالضبط؟”
هزت إلكترا الجريب فروت على شوكتها كما لو كانت تعرضه عمدًا.
“ألم أؤكد لكِ؟ لا يجوز تقديم هذا الفاكهة للسيدة ميريوت!”
توجهت إلكترا بنظرة اعتذارية نحوَ السيدة ميريوت.
“سيدتي، لا تأكلي هذا. يبدو أنني كنت متساهلة في تأديبي للسماح بمثل هذا الخطأ.”
“لم أنسى، سيدة إلكترا.”
في تلكَ اللحظة، قطعت الراعية الكعكة المخصصة للسيدة ميريوت إلى نصفين.
داخلها خوخ مغموس بالعسل.
“لقد أبلغتني السيدة إلكترا، لذا جهزت جزء السيدة ميريوت بشكلٍ منفصل.”
ابتسمت الراعية و هيَ تضع الطبق أمام السيدة.
“عائلة ميريوت دعمت دوقية العائلة لخمسة أجيال. مهما كانت قيمة الجريب فروت، لا يجوز أن يؤذي صحة السيدة. آمل أن لا يغضب الآخرين.”
حتّى الظلم المبرر كانَ من الصعب الجدال ضده. فوق كل شيء، كانت السيدات مشوشات و متفاجئات في تلك اللحظة.
‘هل علمتها سيدة العجوز حقًا؟’
و في تلك النظرة البغيضة، لمع في عيني إلكترا شرٌّ مفاجئ.
التعليقات لهذا الفصل "21"