2
فِريسـيَا أَنتَـارِس قد تَوفّت مرةً سابِقـة
وَحـدث ذلكَ بعدَ ثلاثِ سنـواتٍ منها، بعدَ أَن صارت زوجةً لأيزَار أَركتورُس، عندما كانت فِي عمر ثلاثةٍ وَعشْرينَ سنة.
لكن بالعـودة إلى نقطة البداية الحقيقية…
في الماضي، كانت فِريسيَا تعيش كراعِية في ملك أَركتورُوس.
لم تكن تعرف من هو والدها البيولوجي، وكانت تعيش مع والدتها حتى بلغت سن الرشاد. زعمت والدتها أنها من نُبل ساقط (نبيلة سابقة) ، لكن فِريسيَا لم تكن تؤمن بذلك.
للتوضيح أكثر، لم تقم والدتها “بقول” ذلك. فـمنذ ولادة فِريسيَا، تم قطع لسان والدتها، لذا لم يتواصلوا فعليًا عبر الحديث ابدًا.
في كوخهما المتضائل، كانت الأصوات الوحيدة التي تُسمع هي آهات والدتها الغريبة “أه، أه، أه” عندما تعبر عن احباطها، وصرخاتها في اليأس، وصوت حفرها للكلمات في التراب.
بفضل ذلك، تعلمت فِريسيَا القراءة، لكن المحتوى كان يصعب عليها فهمه حتى لعيونيها الشابتين.
” فِريسيَا، أنتِ ابنة نَبيل. والدتكِ كانت نَبيلة أيضًا. لذا فلا يجب أن تُخالطي في السوق مع أطفال العامة.”
إذًا، ألم يأتِ أحد للبحث عنكِ، أمي؟ إذا كنتِ نبيلة، فلماذا لا ترتدين الفساتين الجميلة؟
رغبت فِريسيَا في طرح هذه الأسئلة، لكنها أدركت مبكرًا أنه لا فائدة من ذلك. فقد أُصيبت والدتها بالجنون مُنذ زمن بعيد قبل أن تبلغ فِريسيَا سن الرشد.
والدتها، التي لم تتذكر شيئًا سوى مكانتها النبيلة.
والدتها، التي لم تستطع حتى تذكر اسم زوجها المفترض.
والدتها، التي كانت تعاني من الكوابيس كل ليلة وتصرخ بصوت خشن…
عندما رأت والدتها رد فعل ابنتها الباهت، بدأت تكتب بسرعة أكبر.
ألا تصدقين كلام والدتكِ؟ انتظري فقط، سيأتي والدكِ ليأخذكِ على حصان أبيض.
“…ألا يمكنني أن أذهب وألعب مع الأطفال الآخرين؟”
كانت فريسيَا وحدها أثناء جمع الفواكه اليوم، ولم يكن أمامها خيار سوى مراقبة الأطفال الآخرين وهم يلعبون بجانب الجدول… ومع ذلك، كانت فريسيَا الصغيرة أحيانًا تنسى حزنها.
كانت والدتها، المجنونة والمهزوزة جسديًا حتى كادت أن تصبح مجرد جلدٍ وعظم، تملك قبضة قوية بشكل غير عادي.
وجه والدتها الحالم، الذي كان يتخيل والدها، سرعان ما تحوّلَ إلى غضب، وتِلكَ اليد التي كانت منذ لحظات تشير إلى ابنتها كأغلى ما لديها، صَفعَت خدَّها بعنف.
حتى بعد أن تلاشى الصوت الحاد للصفعة، بدأت الأم تضرب صدرها بالإحباط الذي لا يُوصف، وتصرخ.
“أُه، أُه، أُه!”
“مظهرها لم يكن يختلف عن حيوان جريح يصرخ، ولم يكن من الغريب أن يسخر منها الناس بأعتبارها “امرأة فقدت عقلها بسبب هجر الرجل لها”.
وكان من الطبيعي أن يبتعد أهل القرية عن فِريسيَا. كانت تبدو عاقلة، لكنهم قد يخشون أن تصاب بجنون والدتها في يوم من الأيام.”
كانت الأمُ وابنتُها من أدنى طبقاتِ المجتمع وأكثرهنّ سُخريَةً في الإقطاعيَّة، مما جعل فِريسيَا تكافِح من أجلِ تَلبية احتياجاتها اليومية من خلالِ تفاعلِها مع الناس.
ومعَ ذلك، كان هناكَ في بعضِ الأحيانِ من تفوَّقَ تعاطُفُهُم على عدائِهِمْ.
“هل تودينَ تجربةَ رعيِ الأغنامِ؟ فقط عشرة أو نحو ذلك.”
قالَ مديرُ الإقطاعيَة بترددٍ في يومِ عيدِ ميلادِها الخامسَ عشرَ.
“الأغنامُ المدربة جيدًا تُرسلُ إلى قصر الدوق لتكونَ جزءًا من وجبات العائلة.”
بالطبعِ، كانت تلكَ وظيفةً منبوذةً لا يرغبُ الناسُ في أخذِها. قد تبدو الأغنامُ مسالِمةً، لكن في الحقيقة، هي كائنات شرسة.
ومعَ ذلك، حتى لو كانت تعرفُ ذلكَ، لما تجرأتْ على الرفضِ. الأجور الصغيرة التي كانت تكسبُها بالكادِ كانت تغطِّي الطَّعامَ والملابسَ.
نتيجة لذلك، لم تخلُ ذراعا فِريسيَا وساقاها من الخدوش الجديدة.
وفي كل مرة كانت والدتها ترى هذه الجروح، كانت تصرخ وتضرب الطاولة بعنف. وكان هذا التصرف و الانفجار يُترجم الى : “لهذا السبب لا يأتي والدك! لأنكِ عار!”
ماذا كان هناك في هذا المنزل لتجعلي نفسكِ تظهرين بمظهر لائق؟ فِريسيَا كانت مُرهقه و قد استنفذت طاقتها بالفعل من إطعام نفسها ووالدتها.
كان نفس اللوم يتكرر يومياً، والإساءات اللفظية التي تلتها بعد لم تعد تؤلمها.
وفي اليوم الذي اختفى فيه الحمل، سمعت نفس التوبيخ و اللوم قبل مغادرة المنزل.
وفي ذلك الحين، كانت فِريسيَا في الحقيقة تخاف أكثر على الحمل من خوفها من والدتها.
“هاه، هاه… أين ذهبتِ يا صغيرتي، هاه، هاه…”
رُغمَ أنه كان مجرَّد حَيوان، إلا أنه كان مِلكًا للعائلةِ الدوقية، وكان يُعتَبر أغلى من حياةِ فِريسيَا.
سواء تمّ العثورُ عليه ميتًا أو لم يُعثر عليه إطلاقًا، كان هناك خطر يُهددُ حياتَها.
كانت بقيةُ الخِرافِ في المرعى، فكيفَ اختفى هذا الخروف؟
بينما كانت تفتشُ عنه باكيةً في الحقولِ والأدغالِ التي اصطحبتهم إليها في ذلكَ اليوم، وصلَ إلى أُذنيها صوت غريب.
…آه! بَاء!
وبينما كانت تلاحقُ الصوتَ في ذعر، زَفَرتْ فِريسيَا بحزنٍ عميق.
“لماذا هناك…؟”
كانَ الحملُ قد سقطَ في بحيرةٍ داخلَ الأدغال، وكانَ يسبحُ في الماء.
مرهَقة، يائسه ومحبَطة حتَّى الموت، لكنَّها لم تكُن تَملِك خيارًا آخَر.
مبلَّلة بالكامل، تحسَّست طريقَها بحذر عبرَ الماء وتمكَّنت من الإمساك بالحَمَل.
بَاعَاه!
“اثبِت مكانَك، يا صَغيري. دعنا نَتوقَّف الآن.”
أمسكَت بالحَمَل وبدأت بالعودة، لكنَّها أُصِيبَت بالخطأ حينما داسَت على صَخْرَة زَلِقَة وسقطَت إلى الوراء.
“…آخ!”
كانت بحاجةٍ للخروج بسرعة.
بينما كانت تكافِح، كانت تَصرُخ في الماء، لكنَّ الحَمَل الجَاحِد، الذي كان يُحاوِل النَّجاة بنفسه، رَكَلَها بحوافره، ممَّا جعلَها تنزَلِق مرَّةً أخرى.
“كُح…! (سُعال) هااا!…”
بعد عدة محاولات، غرقت فِريسيَا في البحيرة مرةً أخرى، من رأسها حتى أخمص قدميها.
كان كل شيء مظلمًا، والماء البارد كان يلسع جلدها كالإبر. ومع ذلك، في تلك اللحظة، توقَّفَت فِريسيَا عن الصراع.
“لا أريد الرحيل.”
لقد خفتت رغبتها الفطرية في البقاء على قيد الحياة، مثل خيطٍ مشدودٍ يوشك على الانقطاع.
سواء كافحت للخروج أو بقيت في الظلام، بدا الأمر في نظرها متشابهًا.
التنفس يعني أن عليها الاستمرار في السعي للحياة، لكن إذا كانت تلك المحاولات عبئًا ثقيلًا في كل لحظة، فلماذا لا تستسلم وتجد السلام؟
لكن في اللحظة التي أغمضت فيها عينيها، شعرت وكأن غصنًا ثقيلًا سميكًا التفَّ حول خصرها.
وقبل أن تتمكن من فهم ما يحدث، كانت فِريسيَا على وشك أن تُقذف إلى الأرض الصلبة.
كان الهواء الذي يدخل إلى رئتيها يحرق حلقها وعينيها.
“(سعلت بشدة) ، كُح! كُح…! كُح!”
“جنون.”
“……!”
فركت فِريسيَا عَينيها وجلست سريعًا.
رَغمَ أَنها كانت مُجرد راعيةِ غنمٍ، إِلا أَنها تعرفت على هذا الصوت جيدًا. كانَ يَعودُ إِلى شَخصٍ يَترأَّسُ أَحداثًا هامةً، مثل المهرجانات في الاقطاعية.
لم تستطع إِلا أَنْ تُلاحِظَ أَطرافَ شَعرهِ السوداءِ التي كانت تتساقَطُ منها قطراتُ الماء، و جسر أنفهِ المُستقِيم، وَتِلكَ العُيُونِ الذهبية العَميقة التي لا تُخطِئُهَا العَيْنُ.
“أ… أعتذر! أَرجوكَ، أغفر لِي…!”
رَكعتْ فِريسيَا سَرِيعًا، وهي تَتوَسلُ لِإِيزار أَركتورُوس، سَيد هذه الإقطاعية، أَن يَعفوَ عنها.
كانت سَتُفَضل أَنْ تغرقَ في البُحيرة.
فذاكَ اَلأَلمُ كانَ خِيَارًا اختَارتهُ هي لِنَفسِها.
لكن اَلأَلمَ الذي يُسَببُهُ الآخرون كانَ شيئًا لا يُمكِنُها اَلتنبؤُ بِهِ و الخوف جعلها ترتجف بلا توقف
ومع ذلك، بدا أن إيزار كان منزعجًا حتَّى من اعتذارها، فوبَّخها قائلاً:
“كفاكِ. خُذِي هذَا.”
كان الحمل الجاحد في يد إيزار كأنَّه كرة قذِرة من الصوف.
شعرت فِريسيَا وكأنَّها المسؤولة عن تلوُّث الحمل، فتناوَلَتْه بحذرٍ وحملَتْه بين ذراعيها، ما زالت تراقبُه بنظرات قَلِقة.
“أنا آسِفة…”
“قُلتُ كفاكِ، أَيتُها الراعيَة.”
“نعم؟”
هل يعرفني السيِّد؟
توقفَ قَلبُها فجأَةً، مُختَلِطًا بالخوفِ والتوترِ، معَ شُعُورٍ غَرِيبٍ من الإثارة الّتي لم تَستَطِع تَفسِيرها.
أن يَعرفَ النُّبَلاءُ شخصًا من العامّة، قَدْ يكون إِمَّا أَسوَأَ كابُوسٍ أَو فُرصَةٍ لَا تُعوض.
لكن فِرِيسيَا ارتعشت وهي تُبَاعِدُ خصلات الشعر المُلتصقه بوجهِها.
ولم تُدرِك إِلَّا في تِلكَ اللَّحظة أنَّ ثيابها الباليةَ والمُتَآكِلَةَ كانت تَلتَصِقُ بِجَسدِها.