قاطعَ إيزار صوتها المرتجف بحدّة. وجدَ سببًا آخر ليزدادَ نفورًا منها.
عيناها كانتا واسعتين بشكلٍ مزعج، و صوتها رقيقٌ أكثر من اللازم، مما جعلهُ يشعر و كأنهُ ارتكبَ ذنبًا عظيمًا، رغم أنهُ هوَ من تعرّضَ للظلم.
“لا أتوقّعُ منكِ شيئًا، و لن أتعامَل معكِ يومًا كـزوجةٍ حقيقية.”
“…أنا أتذكّر.”
رفعت المرأة نظرها إليه بينما كانَ يوبّخها.
عيناها الخضراوتين الواسعتين كانتا تلمعان.
لكن، و على عكس ما توقّع، انحنت المرأة بانضباط و احترام.
“أعتذر، يا صاحب السمو. لم يكُن في نيّتي أن أزعجك.”
“هاه…”
“سأحرصُ على أن أكون أكثر حذرًا من الآن فصاعدًا.”
كانَ وجهها هادئًا كـوجهِ نبيلةٍ تلقّت تدريبًا لسنوات، صلبًا لا يخترقه شيء كـالسيف الذي كانَ يشهره في مطاردة الوحوش.
“أتمنى لكَ قسطًا مريحًا من الراحة، يا صاحب السمو.”
“…… “
أدارَ رأسهُ عنها، متجاهلًا إيّاها تمامًا.
لقد شعرَ بهذا الإحساس ذاته عندما دخلت هذه المرأة القصر لأول مرة.
عاطفة بلونٍ أحمر… تُشبه الغضب، لكنها ليست غضبًا تمامًا.
كانت تلكَ الراعية تملك موهبة نادرة في اثارة الأعصاب و إهلاكها دونَ جهد.
—
بعدَ أن دخلَ إيزار غرفته أولًا، كانَ الخدم يقتادون الفرسان إلى قاعة الطعام.
و بغضّ النظر عن أعمارهم، كانوا جميعًا يثرثرون بحماس عن “تلك المرأة”.
“تشه، عندنا أيضًا سيدة نخدمها، كانَ على الأقل يكون شكلها جميل!”
“بالضبط! رأيتم تلكَ الراعية في المقاطعة، أليسَ كذلك؟”
“رأيتها. مقارنة بالسيدة إتريا، لا توجد كارثة أكبر في هذا العالم…”
“هاه، سيدنا مسكين فعلًا. ألا يمكنه أن يطلّقها فحسب؟”
“مرحبًا جميعًا”
“…!”
تجمّدَ المتحدثون في أماكنهم من الصدمة، عندما رأوا المرأة واقفة بانتظارهم في قاعة الطعام. المرأة التي نعَتوها مُنذُ لحظات بأنها “أكبر مصيبة في العالم”، كانت تحدّق بهم و هيَ ترمش بهدوء.
بدأت الهمسات تنتقل بينهم، و هم يكتمون أنفاسهم.
“اللعنة، هل سمعتنا؟ بالتأكيد سمعت، صح؟”
“أغلب الظن لا. لو سمعت، هل كانت ستتصرّف بهذا البرود؟”
“أعني… ما كانت لِتبتسم هكذا لو كانت قد سمعت شي.”
بالطبع، فريسيا سمعت كُلَّ كلمة.
‘ألا يعلمون أن الأصوات تنتقل بسهولة عبر الجدران؟’
لكن الابتسامة كانت خيارها الوحيد في تلكَ اللحظة. فالانفعال في غياب أي دعم لن يعود عليها سوى بالضرر.
بدلًا من أن تُظهر أي انزعاج، اقتربت منهم بخطى رشيقة، تشبه خطى نبيلة متمرسة.
“يبدو أنكم تستمتعون بحديثكم.”
“آه، إحم… ما الذي أتى بكِ إلى هُنا، سيدتي؟”
“لقد أعددتُ وجبةً بسيطةً كـتحية إلى بيت أركتوروس.”
اتسعت أعين الفرسان عندما وقعت أنظارهم على الأطباق المقدّمة.
‘هل كانت تعلم بهذا التقليد؟’
لم يتوقع أحدٌ منهم أن تكون على دراية بتلكَ العادة، بل كانوا ينوون استخدامها كـذريعة جديدة للانتقاد.
ابتسمت فريسيا بهدوء، و قدّمت تحاياها.
“أرجو أن تعتني بي، يا سير مايسن.”
“آه، إحم، بالطبع…”
“و أنتَ أيضًا، يا سير سيندر. آمل أن تتعافى سريعًا من إصاباتكَ أثناء مطاردة الوحوش.”
تجمّدَ الجميع في مكانهم بدهشة حينَ أدركوا أنها تعرف أسماءهم جميعًا.
ثُمَّ تقدّمَ تشارلز كارولي خطوةً إلى الأمام.
“شُكرًا على الوجبة، سيدتي.”
“يُسعدني أنها راقت لكَ، يا سيدي.”
“أما أولئك الذين تكلّموا بقلة احترام قبلَ قليل… فسأتولّى أمرهم بنفسي.”
“…شُكرًا لكَ، سير كارولي.”
أهدَتهم فريسيا ابتسامة خالية من أي دفء.
فـالوجبة لم تكُن مُجرّد التزام بتقاليد الزواج الأرستقراطية.
كانت تبحث عن “مُقرّب إيزار ” الذي يمكنه مساعدتها فيما تبقّى من وقتها هنا.
و بالنسبة للباقين، بدا هذا الرجل مرشّحًا مثاليًا.
‘شارلز كارولي… أكثر من كرّسَ نفسه لعائلة أركتوروس.’
من بين الحاشية، كانَ تشارلز يتمتع بأفضل خلفية و كانَ يعرف إيزار مُنذُ أطول فترة. لكن رغم ذلك، لم يكن هوَ الشخص الذي كانت تفكّر فيه.
‘من الصعب كسب ثقته في وقت قصير.’
خصوصًا أنهُ، رغم مظهره المصغي، لا ينقل إلى إيزار شيئًا يعتبره “هراءً”.
و لحسن الحظ، فإن الشخص الذي كانت فريسيا تضعه في اعتبارها… كانَ حاضرًا بالفعل.
‘ها هو…’
تألقت عينا فريسيا قليلاً و هيَ تتقدّم نحوَ الرجل الجالس في الزاوية.
“سير فين دريك.”
“…”
“أتطلّعُ إلى الأوقات التي سنقضيها معًا من الآن فصاعدًا.”
كانَ فين دريك فارسًا ضخم البنية، في أوائل الثلاثينيات من عمره، و قد ردَّ على تحيّتها بهزّة رأس خشنة و صامتة.
من النظرة الأولى، قد يبدو أكثرَ جفاءً من كارولي، لكن فريسيا كانت تملك إحساسًا بسيطًا بطباعه.
‘كان الوحيد الذي لم يشارك في السخرية مني يوم زفافي.’
طوالَ ثلاث سنوات، لم يفوّت الفرسان هُنا فرصةً لتشويه سمعتها كُلما شعروا بالملل.
الدوقة البائسة، الراعية الحقيرة، العلقة المُتطفّلة.
حتّى أنَّ أحدهم اقترحَ، بنبرة تهكّم، أن تتعلّم بعض الحِيَل من بائعة هوى كي تُصبِحَ “أكثرَ إمتاعًا”.
و حينَ علِمَ “زوجها” بذلك، عاقبَ جميع من سخرَ منها، قائلًا إنهم تجاوزوا حدودهم.
‘فقط سير فين دريك لم يُعاقب في ذلكَ الوقت.’
حتّى و إن لم يُعجبه أصل فريسيا، فقد كانَ عنيدًا بما يكفي ليقول:
“بمجرد أن أصبحت دوقة، فإنَّ إهانتها أمرٌ غير لائق.”
و ذلكَ وحده جعلهُ يستحق أن يبقى إلى جانبها طيلة هذا العام.
خاصةً أنهُ دومًا يتقدّم الصفوف في مطاردات الوحوش، و كانَ إيزار يأخذ بنصائحه على محمل الجد.
‘و ذلكَ هوَ الأهم.’
لأن إنقاذ ريغيل بيتلجوس… سيعتمد على “سير فين دريك ” ليُنادي على إيزار.
***
تستغرق الرحلة من العاصمة إلى أراضي أركتوروس نحوَ عشرة أيام على صهوة الخيل.
لكن، و قبلَ أن يصلَ العروسان حتّى، كانت الحكاية البشعة عن زواجهما قد انتشرت بالفعل في أرجاء أركتوروس.
و كما كانَ مُتوقَّعًا… حلّت الفوضى.
“كيفَ يمكن لشيء بهذه السخافة أن يحدث!”
صرخت السيدة إلكترا، زوجة والد إيزار، و الغضب يفور منها.
“حتّى امرأة ذاتَ نسبٍ نقيّ بالكاد كانت لتكفي، و الآن حدثَ هذا؟!”
صرخت مُعلنةً أنَّ ما جرى لا يُحتمل.
لكن الأمر كانَ قد تمّ، و وصلَ العروسان أخيرًا إلى قلعة أركتوروس.
و عندَ رؤيتها لـ “العروس الجديدة”، ازدادَ غضب السيدة إلكترا حتّى برزت عروق عنقها من شدّته.
إلى جانب “المُذَنّب”، السيّد الموقَّر لأركتوروس، وقفت امرأة تافهة إلى هذا الحدّ!
إلكترا نفسها لم تنَل بعدُ اللقبَ النقيّ الكامل لـ “الدوقة”، فـكيفَ يُمنح لتلكَ المرأة؟!
لم تُكلّف السيدة إلكترا نفسها حتّى عناء التظاهر بالاعتراف بالعروس الجديدة.
ترحيب دافئ؟ كلمات مواساة على مشقة الطريق؟
‘تبا لذلك!’
عليها أن تشكر السماء فقط لأنها لم تُمزَّق إربًا إربًا في لحظتها.
عجلت السيدة إلكترا في متابعة إيزار، و هيَ تفرغ شكواها أثناء سيرها.
“إيزار! ما الذي يحدث هُنا بالضبط؟”
“ألم أشرح لكِ الموقف في رسائلي، أمي؟”
“لكن ما زال…! أنتاريس سيء بما فيه الكفاية، و لكن هل تلكَ المرأة مجنونة؟”
بالطبع، لم تتمكن السيدة إلكترا من انتقاد الإمبراطور أو عائلة أنتاريس النبيلة مُباشرةً. و في النهاية، كانَ غضبها موجَّهًا فقط نحوَ الوافدة الجديدة التي لم تترك أي انطباع.
“لو كانَ لديها أي نوع من الكرامة، لكانت قد رحلت قبلَ أن تصل إلى هُنا! أو الأفضل من ذلك، كانَ عليها أن تموت!”
“……”
“كيفَ كُنتُ أشفق على والدتها المجنونة، فقط لأُخدعَ هكذا؟ بلا شك، هي تستخف بك، إيزار —”
“كفى.”
قطعَ إيزار حديثها المتواصل بصوتٍ مفعم بالاستياء.
كانَ ممتنًا لزوجة والده من أجل إدارتها المنزل نيابة عن والديه الراحلين، لذا كانَ يتحمّل ملاحظاتها التي تتجاوز حدودها بينَ الحين و الآخر.
و معَ ذلك، كانَ إيزار غير راضٍ لأسباب أخرى.
‘تلكَ المرأة ذاتَ العيون الكبيرة بشكلٍ مُفرط.’
طوالَ الرحلة، كانت الراعية التي جلبها في العربة تحدّق به بتركيز، و كأنها تأمل أن يبدأ هوَ في الحديث. كانَ قد لاحظَ هذا مُنذُ فترة لكنهُ اختارَ تجاهل نظراتها طوالَ الطريق.
‘تلكَ المرأة ستُعامل و كأنها غير موجودة من الآن فصاعدًا.’
و بعدَ أن نجحَ في إبطال الزواج، لم يكُن هُناكَ أي ضرورة للاعتراف بوجودها هُنا.
و بلهجة حازمة، و بغضب خفي، وبخَ إيزار زوجة والده، مُستعدًا لرفض أي شكاوى أخرى.
“لن أعترف بِتلكَ المرأة كـزوجة لي ابدًا، و سأطردها في الوقت المناسب.”
“لكن أليسَ قد تمَّ تلطيخ نسبنا في أركتوروس بالفعل!”
توقفَ إيزار عن السير في تلكَ اللحظة و نظرَ مُباشرةً إلى السيدة إلكترا، أرملة والده.
متفاخرًة بخلفية قوية بينَ بيوت النبلاء التابعة للدوقية، كانت تقارن كثيرًا بأمه. و على الرغم من فقدانها لزوجها في وقتٍ مبكر و عدم إنجابها لأطفال، كانت تسعى دائمًا للتصرف كأم له.
كانَ قد سمحَ لها بتجاوزاتها تجنبًا للتذمر من الإهمال بعدَ أن كرست نفسها للعائلة…
لكن هذه المرة، تجاوزت الحدود.
“حفظ نسل العائلة هوَ مسؤوليتي، و ليسَ مسؤوليتكِ.”
أدت نظرة إيزار الحازمة إلى جعل السيدة إلكترا تتراجع. كانَ ابن زوجها الناضج يشبه والده إلى حدٍ كبير لدرجة أن مُجرّد تجعد عينيه و شد حاجبيه كانَ كافيًا لسحق روح أي شخص.
فقط الوحوش من كانوا يجرؤون على مواجهة ذلكَ التعبير.
“لذا، اتركي تلكَ المرأة و شأنها. تجاهليها فقط.”
بعدَ أن وجهَ لها تحذيرًا باردًا، توجه مباشرة إلى مكتبه، تاركًا السيدة إلكترا وراءه.
اقتربت السيدة ميروب، الخادمة الرئيسية، من السيدة إلكترا التي تُركت وراءها.
“هل أنتِ بخير، سيدة إلكترا؟”
“كيف يمكنني أن أكون بخير؟!”
انفجرت السيدة إلكترا مرّة أُخرى.
كانَ كبرياء إلكترا في العائلة قوي مثل كبرياء إيزار. على الرغم من استمرار إيزار في وضع الحدود، كانت تعلم جيدًا إلى أي مدى كانت العائلة ستسقط أكثر بعد الحادثة التي تسببت فيها “الدوقة السابقة” لو لم تكن هناك!
على الرغم من أنها لم تنجب أطفالًا، كانت هذه القلعة ملكًا لها لتديرها.
“عائلتنا العظيمة لا يمكن أن تُلطخ سمعتها بتلكَ المرأة.”
قالَ إيزار “اتركيها و شأنها”، لكن ماذا يعني ذلك؟ إلى متى من المفترض أن تبقى تلكَ “القذارة”?
شهر؟ ثلاثة أو أربعة أشهر؟ أو حتّى عام؟
كيفَ يمكنها تحمل فترة طويلة معَ تلكَ الشوكة في أصبعها؟
“لكن إذا تصدرتُ القيادة في طردها، سيغضب إيزار بشدة.”
على الرغم من أنهُ كانَ يُظهر الاحترام أمام زوجة والده، إلا أنَّ إيزار كانَ رجُلًا عنيدًا بطبيعته. إذا تمَّ اكتشاف أنها خالفت أمره بترك المرأة و شأنها، فلن تُنقذها حتّى مكانتها كـزوجة أب من غضبه.
و معَ ذلك، فهمت السيدة ميروب تمامًا مزاج سيدتها.
“إذاً، ألن يكون من الأفضل أن تهرب تلكَ المرأة بمحض إرادتها؟”
“…!”
“إذا أدركت عبء واجبات الدوقة، ستستعيد رشدها.”
“…آه، بالفعل.”
تغيرَ تعبير وجه إلكترا، التي كانت ترتعش سابقًا، إلى ابتسامة دنيئة.
“هل يجب أن أجعلها تستضيف حفلة شاي أولًا؟”
“نعم، يا سيدة إلكترا. سيكون درسًا مثاليًا.”
“جيد. عندما أتمكن من الاسترخاء، أحضريها إلى غرفتي.”
كانت إلكترا تلوح بمروحتها، تمتمت بشكاوى متواصلة. كانت تخطط لسحق تلكَ المرأة بقدر ما كانت غاضبة. لكن قبل أن تغادر، أعطت أمرًا آخر.
“أوه، ضعي تلكَ المرأة في واحدة من الغرف المتبقية المخصصة للخادمات.”
من غير الممكن أن تسكن الراعية ذات النسب غير الشرعي في غرفة الدوقة الرفيعة. حتّى إلكترا نفسها لم تتمكن من دخول تلكَ الغرفة بحرية بسبب إيزار.
التعليقات لهذا الفصل "17"