على أي حال، لم يكُن ليتخيلَ يومًا أنهُ سينتهي به الأمر مُتزوجًا منها.
حينها، راودتهُ ذكرى صوتها المُتوسل برقة.
〈إذا مرضتُ يومًا، سأكونُ مُمتنةً لو كُنتَ لطيفًا معي حينها…〉
ازدادت التجاعيد على جبين إيزار عُمقًا.
‘هل كانَ حتّى هذا الطلب مُجرّد تمثيل و نفاق؟’
حتّى نطقت بهذهِ الكلمات، كانت تلكَ الراعية الصغيرة تحافظ على تعبيرٍ هادئ.
لكن عندما تفوهت بهذا الرجاء البائس، بدا وجهها يائسًا إلى درجة جعلت إيزار يلتزم الصمت.
كما لو أنَّ شخصًا على وشك الموت يتوسلُ ليعيشَ يومًا آخر.
“هاه…”
شعرَ بضيقٍ في صدره من شدة الإذلال، و بدأ رأسهُ ينبض من ثقل هذا العبء.
و لكن قبلَ أن يتزعزعَ قلبهُ الأحمق، صدحَ يقينهُ في داخله.
〈تذكر، إيزار.〉
و جاءَ يقينهُ على هيئة والده الراحل.
قبلَ أن يبرُزَ إيزار، كانَ أشهرَ مُبارزٍ في الإمبراطورية هوَ دوق أركتوروس السابق.
تجسيدٌ شُجاعٌ لفن السيف، محبوبٌ من الجميع، و كانَ شمسًا أشرقت في حياة إيزار الصغير.
〈لا تدع النساء تخدعك أو تضللك.〉
لكن ذلكَ كانَ قبلَ أن يفقِدَ نوره و يسقط نحوَ الهاوية بسبب والدته.
دربهُ والدهُ بدموعٍ في عينيه.
معَ كُلِّ جلسةٍ، كانَ والدهُ يمسك بأكتاف إيزار و ينظرُ في عينيه.
〈أن تُخدع يعني أنكَ تُصبح أحمقًا.〉
كانت عيناهُ تحترقان من الغضب تجاه زوجته، و الخزي الناتج عن أفعالها.
و كانَ والدهُ يريد أن يغرس تلكَ النار نفسها في إيزار.
〈إذا تجرأ أحدهم على إهانتك هكذا، حتّى لو كانت امرأة، لا تدعهم يفلتون بفعلتهم.〉
〈…….〉
〈لا تدع نفسكَ تتحملُ نفسَ الإهانة التي تحملتُها أنا، يا بُني.〉
بيدين مُتورمتين، أمسكَ إيزار بسيفه بقوة و أومأ برأسه.
〈نعم، يا أبي.〉
كانَ والدهُ على حق.
لقد أحبَّ والدهُ والدته و أعطاها قلبهُ بصدق. كانت من أسرة منخفضة، و معَ ذلك استقبلها زوجها و أهل الأرض بأذرُعٍ مفتوحة، مُقدّمين لها الراحة و الملاذ.
لكنها خانتهم جميعًا. أعطت قلبها لـِمُتمرد من عامة الناس، و هربت معه.
لذلك، وعد إيزار والده.
〈لن أُخدع أبدًا.〉
〈من أيِّ أحد؟〉
ضغطَ والدهُ عليه بنظراته التي كانت تتلألأ كـعيون إيزار الذهبية.
كانت قبضتهُ على كتفه تشعر و كأنها تخترق العظم، لكنَ إيزار أقسمَ بهدوء أمامَ قدوته.
〈نعم. أبدًا، حتّى عندما أتزوج.〉
〈جيد… 〉
عندها فقط، أطلقَ الدوق السابق قبضته عن إيزار الشاب.
لذا قررَ إيزار أركتوروس أنَّ الخيانة أفضلُ من أن يُخدع، و أن يوجه الجروح بدلاً من أن يتلقاها.
تصلبت عيونه الذهبية مرّةً أُخرى بعزيمة.
‘لا يهم ما هيَ نواياها الحقيقية.’
لم يعد مهتمًا بأن يكونَ بيدقًا في سخرية الإمبراطور و عائلة انتاريس، و كانَ من الصواب أن يبتعد عنها، حتّى و إن كانت بريئة.
توجهَ إيزار ليغادر. و لكن قبلَ أن يخطو خطوةً أُخرى، سمِعَ أنينًا خفيفًا صادرًا من اتجاه المقعد.
كانَ صوتًا رقيقًا، يُشبه صوت الطائر.
كانت مُنحنية على المقعد و مِنَ الطبيعي أن يبدو عليها الانزعاج. كانَ عُنقها النحيف يبدو مُتألمًا و هيَ تفركهُ على مسند المقعد.
راقبَ إيزار عدم راحتها للحظة، لكنهُ في النهاية استدارَ و غادر.
بمُجرّد أن يتخذ قرارًا، لا يعود عنه أبدًا.
عندَ خروجه من الغرفة، انحنى لهُ كبير الخدم.
“سيدي، لقد تمَّ تجهيز غرفتك لليلة.”
“فهمت. ادخُل هُناك وضعها بشكلٍ مُناسب على السرير.”
ترددَّ الخادم للحظة.
لكن، كونهُ ذو خبرة في خدمة النُبلاء، فهِمَ الكلمات غير المنطوقة بسرعة.
“نعم، سيدي.”
لم يقل إيزار المزيد.
بعدَ يومٍ مليءٍ بالإزعاجات المُتعلقة بالزفاف، لم يرغب في شيء أكثر من إغلاق أي اهتمام بالعروس المزعجة.
انتظرت فريسيا بهدوء في الظلام أن يفتح الباب، تأملًا في أي تغيير صغير قد يدفعه للعودة. و معَ ذلك، لم يعد الدوق.
مرهقة من تداعيات حفل الزفاف، انتهى بها الأمر إلى النوم. حتّى دونَ أن ترتكب أي أخطاء في المرة الثانية، كانت مقاومة الخبث الذي كانَ يرغبُ في إذلالها أمرًا ليسَ بالسهل.
لكن عندما استيقظت، كانت فريسيا في حيرةٍ من الإحساس الناعم تحتَ ظهرها.
‘هل تمكنتُ من الوصول إلى السرير بنفسي الليلة الماضية؟’
لا، لم تكُن لديها أيُّ ذاكرة بذلك، لذلك لا بُدَّ أن شخصًا آخر قد نقلها إلى السرير.
و كُلُّ من كانَ سيدخل هذهِ الغرفة جاءَ إلى ذهنها.
‘هل يُمكن أن يكون الدوق؟’
ارتفع الأمل مثلَ الرغوة على سطح الماء.
لكن قبلَ أن تستمتع بذلكَ الأمل البسيط، فُتِحَ الباب و دخلت خادمة ترتدي مئزرًا أبيض.
فريسيا، و شعرها لا يزالُ مُبعثرًا، رأت الخادمة ذاتَ الشعر الأحمر تنحني أولًا.
كانت الخادمة ذاتَ العيون السوداء و النمش على جسر أنفها، تبدو سريعة الحركة و صاحبة عزيمة قوية.
“تشرفت بلقائك.”
“أنتِ…”
“أنا ثيا، تمَّ تعييني لخدمتكِ، سيدتي.”
“……”
حدقت فريسيا في وجه الخادمة. كانت زوايا فمها مشدودةً بإحكام، مما يدل على استياء بالكاد مكبوت.
و معَ إحساسٍ مُتجددٍ بإعادة العيش في الزمن، أُظلمت عيون فريسيا.
‘إذن، لقد أتت مُجددًا هذهِ المرة.’
لم يكُن مُفاجئًا أن لا توجد أيُّ سيدات من العائلات النبيلة مستعدات لخدمة فريسيا، كانَ هذا الشعور مُشتركًا بينَ باقي الخادمات أيضًا. الفكرة بأنَّ شخصًا وضيعًا أو حتّى أقل من راعية غنم هوَ في الحقيقة سيدة نبيلة؟
‘بما أنهُن جميعًا يكرهنَّ خدمتي، فلا بُدَّ أنهُن أرسلوا أدنى مرتبة بينهن.’
و هكذا كانت ثيا هيَ الخادمة ذات المرتبة الأدنى. طوالَ السنوات الثلاث في نطاق دوقية عائلة إيزار، نشأت العديد من المشاكل الصغيرة بسبب هذهِ العلاقة. و كانَ ذلكَ واضحًا من سلوكها، إذ كانت تدخل دونَ إذن.
〈ثيا، الغرفة لا تزال مُتسخة. يجِبُ تنظيفها مرة أخرى.〉
〈يا إلهي، لا يوجد ما يلاحظ. أنا أنظف الغرف الأخرى بالطريقة نفسها.〉
〈في المرة الماضية خلال حفلة الشاي، فعلتِ نفس الشيء، و تركتِ الغبار في الزوايا، و الضيوف…〉
〈إذن اعطِ تعليماتكِ مُباشرةً للخادمات الأخريات!〉
الخادمات الأخريات، اللاتي خدمن السيدة العجوز إليكترا لفترة طويلة، تعاملن مع أوامر فريسيا باستخفاف، و كُنَّ يعرفن أنهن يمكنهن تحمل هذه الجرأة.
فريسيا ضيّقت عينيها.
‘ماذا يجِبُ أن أفعل…؟’
لم يكُن قد مرَّ وقتٌ طويل مُنذُ الزواج. هل يجب أن أتجاوزَ ذلكَ اليوم؟
لكن الرقم اللامع على ظهر الزر قد تغير.
339.
لقد اختفى يومٌ آخرٌ ثمين.
و فقدان يوم يعني عيشَ حياة أكثرَ كثافة كُلَّ يوم.
حياةٌ لا يُهدرُ فيها الوقت، حيثُ يتمّ تصحيح كل خطأ على الفور.
رفعت فريسيا عينيها إلى المرأة التي بالكاد كانت تحافظ على رباطة جأشها.
“ثيا.”
“نعم، سيدتي.”
“أُخرجي مرّةً أُخرى، اغلقي الباب، و انتظري هُناك.”
“… عُذرًا؟”
اتسعت عينا ثيا بشكلٍ غير إرادي.
خفّفت فريسيا ارتجافها بتوتر و أجبرت نفسها على الرد.
في تلكَ اللحظة، كانت مُمتنة للضربات القاسية التي تلقتها من إلكترا.
بفضلِ تلكَ الضربات، و على مدار ثلاث سنوات، تمكنت من تقليص “السلوك الفطري” المتأصل في جسدها.
و كانَ من بين ذلك أسلوب كلام النُبلاء الحقيقي. سلاسة، لا تهتمُ براحة من هُم أدنى منها.
“لم أُعطكِ إذنًا للدخول.”
“……”
“لذا، اذهبي إلى الخارج مرّةً أُخرى و انتظري حتّى أُناديكِ.”
تحول وجهُ ثيا إلى الأحمر تمامًا مثل لون شعرها في لحظة.
صرت ثيا على أسنانها، لكنها كانت تعلمُ ذلكَ جيدًا.
لقد اقتحمت الغرفة و كأنها تكسر الباب، معتقدةً في نفسها : “ما الذي تعرفهُ راعية الأغنام عن آداب السلوك؟”
“…نعم، سيدتي.”
عندما غادرت ثيا الغرفة غاضبة، أعادت فريسيا تأكيد هدفها في ذهنها.
“أن أُصبحَ زوجةً مُفيدة لإيزار قبل أن أموت.”
كيفَ يمكنني تحقيقُ ذلك؟
و في وسط توترها، غاصت في تفكير عميق.
“أفضل طريقة هيَ بالطبع الحصول على عفو من العائلة الإمبراطورية.”
إزالة تلكَ البقع القديمة التي تُلاحق عائلة الدوق مُنذُ زمنٍ طويل ستكونُ أكثرَ من مُفيدة.
مُنذُ حوالي عشرين عامًا…
الثوار، و استنادًا إلى الأسرار التي كشفتها دوقة أركتوروس السابقة، قاموا بقتل الأمير و زوجته، والأمير الثاني بوحشية.
و هكذا، أصبحَ وريث العرش الحالي هوَ “ريغيل بيتلجيز”، الحفيد الإمبراطوري.
ريغيل البالغ من العمر أربع و عشرين عامًا، على عكس الإمبراطور القديم، قيلَ إنهُ يمتلك طباعًا هادئة و عقلية علمية.
“لو أنهُ يمكنه أن يتولى العرش قريبًا، لكانت عائلة أركتوروس قد نجحت في إعادة بناء نفسها.”
‘… لو أنهُ يستطيع البقاء على قيد الحياة حتّى هذا العام.’
لكن ريغيل بيتلغيز سيموتُ هذا العام.
و بفقدان الإمبراطور آخر أحفاده المباشرين، يزدادُ كرهه لإيزار و عائلة أركتوروس أكثر في رد فعل متسلسل.
كانت حلقة مفرغة حقًا.
‘سأضعُ حدًا لهذا.’
لكن أولاً، كانَ على فريسيا أن تبني دائرة من الأشخاص من حولها الذين سيستمعون إليها. كانَ عليها أن تستخدم الجزرة و العصا معًا.
‘إيزار يُظهر ترددًا في توجيه غضبهُ نحوي، لكن مع ذلك… هوَ لا يثق بي على الإطلاق.’
لذا، تركت فريسيا ثيا تنتظر في الخارج لبعض الوقت قبلَ أن تسمح لها بالدخول. تحسنت طريقة تعامل ثيا معها بعض الشيء، و لكن الجزء الخلفي من يدها، التي كانت تمرر شعرها بها، كانَ يكشف عن أوردة مشدودة.
مُتجاهلةً إنزعاجها، سألت فريسيا : “أينَ ذهب الدوق اليوم؟”
“ذهبَ إلى المعبد.” أجابت ثيا.
“همم… فهمت.”
في العاصمة، كانَ هُناك معبد لأدامانت، الإله الذي منحَ الإمبراطورية السحر. كانَ مكانًا يعِجُ بالناس الذين يبحثونَ عن البركات قبلَ بدء رحلاتهم.
‘كُنتُ سأودعه لو لم أكُن مُتعبة للغاية.’
وضعت فريسيا جانبًا أسفها و نظرت إلى ثيا.
“و من وضعني في الفراش البارحة؟”
“لقد طلبَ منّا كبير الخدم أن نفعلَ ذلك.”
“همم… فهمت.”
شعرت فريسيا ببعض الإحراج. رغم محاولتها عدمَ رفع آمالها، إلا أنَّ قلبها رفضَ أن يسمع.
و بحلول الآن، لا بُدَّ أن القلعة بأكملها قد علمت أنهُم لم يستكملوا الزواج بعد.
في تلكَ اللحظة، أخرجت ثيا شريطًا من صندوق المجوهرات. كانَ أحد الهدايا الزوجية من عائلة أنتاريس.
ابتسمت فريسيا ابتسامةً خفيفة.
‘حانَ وقت الجزرة بعد العصا.’
كانَ الأمرُ تمامًا مثلَ التعامل معَ خروفٍ عنيد. تُعاقبه عندما يسلِكُ سلوكًا سيئًا، ثُمَّ تُكافئه عندما يُطيع.
“ثيا.”
“نعم… سيدتي.”
“يُمكنكِ أخذُ هذا الشريط.”
“أنا؟”
توقفت ثيا للحظة و هيَ ممسكة بشريط الحرير الوردي الفاتح في الهواء. كانَ مثل هذا الشيء الفاخر شيئًا قد يحتاج الخادم إلى سنوات من التوفير لشرائه.
“لماذا… لماذا تفعلينَ ذلك؟”
“لا يُناسبني.”
ابتسمت فريسيا ابتسامةً ساخرة. في العشرين من عمرها، كانت بشرتها لا تزالُ تحملُ آثار العمل تحت الشمس، مما يجعلُ مثل هذا اللون الساطع غيرُ مناسبٍ لها.
‘لا بُدَّ أنَّ دوقة أنتاريس كانت تعلم ذلك.’
التعليقات لهذا الفصل "15"