هل قامَ زوجي بحرقه؟
أم أنهُ أُلقيَّ جانبًا، تافهًا إلى حدٍ لا يستحِقُ الاحتفاظَ به…
“هذهِ المرة يجِبُ أن تكون مُختلفة.”
كانَ لا بُدَّ أن تكونَ كذلك.
حدّقت فريسيا بصمت في الأرقام المنقوشة على ظهر الزر.
340.
كانَ العدّ التنازلي لـعمرها يتناقصُ يومًا بعدَ يوم.
لكن هذهِ لم تكٕن سوى البداية.
و على الأقل، أمامَ موتها، ذلكَ الرجُل سيذرِفُ دمعةً مِن أجلها.
—–
طوالَ الوقت الذي كانَ إيزار يُغادر فيه جناح العروس، كانَ قلبهُ يغلي بالسخط.
في سيليستيكا، كانَ الفارق بينَ الطبقة الحاكمة و سُكان الدوقية شاسعًا كـأتساع السماء عن الأرض. و من منظور الطبقة الحاكمة، كانَ الزواج من شخصٍ مثلَ فريسيا أشبهُ بإجبارهم على النوم معَ حيوان.
“حتّى لو كانت بالفعل ابنة عائلة أنتاريس… ابنةً غيرُ شرعية؟”
و يُلقى بها عليه، هوَ سيد دوقية أركتوروس؟
مُنذُ أن كانَ في العاشرة من عمره و حتّى الآن، في الثالثة و العشرين، قادَ إيزار الدوقية بنفسه، و كانَ تحمُّلُ مثلَ هذهِ الإهانة أمرًا لا يُطاق.
“تلكَ المرأة الراعية…”
حدّقَ إيزار بغضب في باب جناح العروس من الممر.
“إلى أي مدى يمكنني الوثوق بما تقوله؟”
بما أنها أخبرتهُ سرًا بـمُخطط عائلة أنتاريس، بدا و كأنها أرادت التأكيد على أنها لا تتواطأ معَ عائلتها.
لكن من يدري؟
حتّى تصرفاتها قد تكونُ محسوبةً بدقة.
معَ تدخل الإمبراطور، لا يُمكن تصديق أي شيء كما هوَ.
و معَ ذلك، لم يكُن الأمر المزعج حقًا بشأن تلكَ المرأة مُجرّد الوضع المُرهق معَ العائلة.
أن تظلَّ مُتماسكةً بهذا الشكل أمامَ إعلان زوجها الصريح: “ليسَ لكِ أيُّ حقوقٍ كـزوجة.”
و أن يكونَ طلبها الأكثر جرأة مُجرّد : “اعتنِ بي عندما أمرض” ؟
قبضَ إيزر على أسنانه، شاعِرًا بإحساس بالهزيمة يتسللُ إليه.
“من أين تأتي بمثلَ هذا الهراء؟”
رغم أسوأ العلاقات معَ العائلة الإمبراطورية، كانت أركتوروس لا تزالُ أُسرةً نبيلةً مرموقة.
كانَ مِنَ المُستحيل على شخص يتزوج في مثل هذهِ العائلة ألا يضمر أي طموحات.
‘إما أنها لا تمتلِكُ كبرياء، أو أنها تخطط للتسلل إلى قلب الرجل بخبث.’
لم يكُن لدى إيزار أيُّ نيةٍ للوقوع في أي من هذين الفخّين.
و بينما دخلَ إلى مكتبه، نهضَ مستشاروه لتحيته بوجوهٍ يعلوها القلق.
على الفور، تفجّرت الشكاوى و الإحباطات.
“سُموّك!”
“كيفَ يجرؤون على الخداع في مثلِ هذا الحفل المُقدّس…!”
“لا يُمكننا السماحُ لعائلة أنتاريس بالإفلات بهذا الأمر. هذهِ مسألةٌ تستدعي إعلان الحرب!”
كانَ إيزار قد حذّرهم مُسبقًا، لذا كبحوا غضبهم، لكن خيبة الأمل و الإذلال كانت تختمر في نفوسهم.
لقد توقعوا أن ينالَ الدوق المجد لإنقاذه العاصمة من الوحوش.
لكنهم وجدوا أنفسهُم معرقلين مرّةً أُخرى.
حتّى أنَّ البعض ساورهم هاجسٌ مُقلق بأنَّ منصب “سيدة القصر” في هذهِ العائلة قد يكونُ ملعونًا.
عندها، تحدثَ تشارلز، و هوَ يلوّي شفتيه في استياء :
“سُموّك، ما العذر الذي قدّمتهُ عائلة أنتاريس لهذهِ الفضيحة؟”
“يقولونَ إنهُم لم يكُن لديهم خيارٌ، لقد كانَ بأمرٍ من الإمبراطور.”
سخرَ إيزار، مُستذكرًا أعذار “حماه” المزعوم.
قبلَ مجيئه إلى القصر، تذكّرَ مدى وقاحة ذلكَ الرجُل عديم الخجل.
〈لقد كانَ أمرَ جلالته، ماذا عساي أن أفعل…؟ كما قالَ جلالته، بمُجرّد أن وجدتُ ابنتي، كانَ عليَّ أن أُرسلها لأنها الابنة الكبرى!〉
أومأ تشارلز على مضض و سأل :
“إذن، سُموّك، ماذا تنوي أن تفعل بشأن… سيدة الدوقية؟”
“لن أُتمَّ الزواج معَ تلكَ المرأة.”
في سيليستيكا، كانَ يمكن إبطال الزواج غير المكتمل.
في الوقت الحالي، لم يكُن بإمكانهم التصرف علنًا بسبب العائلة الإمبراطورية، و لكن…
“عليَّ أن أجدَ ذريعةً لإعادتها متى سنحت الفرصة.”
بمُجرّد إيجاد مُبرّر مُناسب، سيقومُ بطردها و إرجاعها إلى أنتاريس.
تنفّسَ الحاضرون الصعداء.
لكن تشارلز تنهدَ بأسف، قائلاً :
“و معَ ذلك، فإن السيدة الكبرى إلكترا ستغضبُ بشدة…”
أومأَ الجميع موافقين، دونَ أن يجرؤ أحدٌ على التفوّه بكلمة.
بعدَ فرار والدة إيزار، تزوّجَ والدهُ على مضض من امرأة من إحدى العائلات التابعة. لكن بما أنَّ لقب “دوقة أركتوروس السابقة” كانَ يذكّرهم بوالدة إيزار، فقد اعتادَ الخدم على مُناداة الزوجة الجديدة، إلكترا، بـ “السيدة الكبرى”.
أُصيبت إلكترا بحمى معدية قبلَ الحفل مُباشرةً، و تعافت لكنها بقيت في الخلف، و لم ترافقهم إلى العاصمة هذهِ المرة. و بالنظر إلى طبعها، كانَ هذا أشبهُ بنعمةٍ غير متوقعة.
لو كانت هُناك، لـكانت السيدة الدوقة غير الشرعية قد تعرضت على الأرجح للسحب من شعرها و إجبارها على الركوع. و بمُجرّد عودتهم إلى الدوقية، كانَ مِنَ المُحتم أن تندلع المشاكل قريبًا.
و هل كانَ هُناكَ أحدٌ سيقِفُ حقًا إلى جانب السيدة الدوقة غير الشرعية؟
ضغطَ إيزار على صدغيه، مُعبّرًا عن إحباطه :
“إذن، عليها أن تواجه الأمر بنفسها.”
رُبما سيكونُ من الأسهل على الجميع لو أنها هربت؟
عندها، يمكنه إلقاء اللوم كله على عائلة أنتاريس.
أومأَ تشارلز موافقًا، لكنهُ تابعَ بطرح سؤال آخر.
“ولكن، سُموّك، لقد فوجئتُ بأنكَ تذكّرت وجه الراعـ… أقصد، السيدة الدوقة.”
“…….”
“هل كُنتَ قريبًا منها في الدوقية؟”
في دوقية أركتوروس، كانت الشائعات حول “الأم المجنونة و ابنتها” مُنتشرة على نطاقٍ واسع.
كانت امرأة وصلت بجسدٍ متورم بسبب الحمل و لسانٍ مقطوع، مما جذبَ الانتباه بطبيعة الحال. و على الرغم من أنها كانت تكتبُ أحيانًا أنها تنتمي إلى طبقة النُبلاء، إلا أنها لم تتمكن قط من تذكّر اسم عائلتها أو اسم زوجها.
كما لو كانت مسكونة، لم تكُن تفعلُ شيئًا سوى الصراخ بجنون، و عيناها الخضراء مُتوحشتان، غير قادرة على النطق بلسانها المبتور.
و لم يردّ أي خبرٍ عن زوج أو عائلة يبحثون عنها.
حتّى أن الناس تكهّنوا بأنها رُبما كانت خادمة حملت بطفل سيدها و عوقبت على ذلك.
و هكذا، أنجبت المرأة طفلتها بمفردها، و كانت طفلة غير مُميزة بأي شكلٍ من الأشكال.
في سيليستيكا، كانَ يُنظرُ إلى مثلِ هذهِ الأفعال بازدراء، بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية. و معَ ذلك، أبقت عائلة أركتوروس المرأة و ابنتها المولودة حديثًا في الدوقية.
كانَ السبب في ذلك أن هذهِ الأم و ابنتها كانتا بمثابة درسٍ مفُيد لسُكان الإقليم : أن حياة أي شخص يمكن أن تنحدر إلى هذا المستوى المتدني، لذا عليهم أن يرضوا بنصيبهم الحالي.
و معَ ذلك، بينما كانت سمعة الأم سيئة و مشهورة، كانت الابنة شبه مجهولة.
و كأنها ترغب في محو وجودها، كانت تخفض رأسها و تتجنب الناس. و لهذا السبب لم يتعرّف تشارلز على الراعية عندما اقتربت لأول مرة.
لكن إيزار، و هوَ يرى تعبير تشارلز المُتحير، قطّبَ حاجبيه.
“كُنتُ أراها كثيرًا تتجولُ في التلال القريبة من القلعة. كانَ من الصعب عدم ملاحظتها، خصوصًا أنها راعية غنم.”
“آه…”
“انسَ الأمر. استعد للعودة إلى الدوقية في أقرب وقت ممكن.”
“ألن ترغب في البقاء لفترة أطول.؟”
“بالكاد، لا رغبة لي في البقاء و التسبب في المزيد من المشاكل.”
كبح إيزار غضبه و هزَّ رأسه. ما الفائدة من الظهور هُنا و هُناك؟
بعدَ أن كانَ يُلقب بـ”المُذَنّب”، لماذا يسقُطُ إلى الأرض مُجددًا بأعتباره “الرجُل الذي تزوجَ ابنة دوق غير شرعية”؟
“يكفي لهذا اليوم. يمكن للجميع الانصراف.”
وقفَ التابعون عندَ أمر سيدهم، رغم أن أيًا منهم لم يخفِ استياءه. في الواقع، لو لم يحذرهم إيزار مُسبقًا، رُبما كانوا قد أشعلوا شجارًا في حفل الزفاف.
و عندما غادرَ إيزار المكتب، اقتربَ منهُ كبير الخدم.
“سُموّك، أين ترغب أن نُجهز لكَ غرفة نومك الليلة؟”
“سأعودُ إلى غرفتي المعتادة. و سيكون الأمر نفسه عندما نعود إلى الدوقية.”
“نعم.”
هذهِ الليلة، و جميع الليالي القادمة، لن يُشارك غرفته أبدًا معَ تلكَ الراعية. إنَّ قدرته على كبح غضبه أمامها كانت أقصى ما يستطيع تحمله في الوقت الحالي.
لكن بينما كانَ يمر بجوار جناح العروس، توقف.
“سُموّك؟”
“انتظر لحظة.”
رغم أن نبرة كبير الخدم بدت حائرة، إلا أن إيزار أدارَ مقبض الباب بهدوء.
هل كانَ فضولًا ليرى إن كانت لا تزالُ مُستيقظة؟ من الصعب تحديد السبب بدقة.
‘مثل التحقق مما إذا كانت نارٌ مُنطفئة قد تشتعل مُجددًا؟’
أم لرصدها و هيَ تتآمر في الخفاء؟
لكن عندما فتحَ الباب، لم تكُن في انتظاره.
بدلًا من ذلك، كانت المرأة قد انكمشت على كرسي عندَ الطاولة الصغيرة التي تحدثا عندها و غطت في النوم.
بدت كـحيوانٍ صغير في سبات، و انفلتت منهُ ضحكةً ساخرة.
“سخيفٌ تمامًا.”
و في الوقت ذاته، بدأ صدغهُ ينبض بألم. حتّى هيئتها أثناءَ النوم أثارت أعصابهُ المُنهكة بالفعل.
‘لا يمكن أن يكون حتّى هذا الوضع محسوبًا، أليس كذلك؟’
كانت تبدو بائسة للغاية، و معَ ذلك كانت امرأة غريبة تجعلُ مِنَ المُستحيل الشعور بالشفقة الخالصة تجاهها.
اختبأَ ضوء القمر للحظة خلفَ سحب سوداء، ثُمَّ عادَ ليُلقي بظلاله على وجهها.
و عندما نظرَ إيزار إلى ملامحها التي أضاءها ضوء القمر قليلًا، نقرَ بلسانهِ داخليًا.
‘بعيدة كل البعد عن الجمال.’
(على اساس انتَ جميل مثلًا؟!! ما كذبت ماري لمن قالت رأسه كأنه هلال)
بشرتها، التي تعرضت للعوامل القاسية، حملت لونًا بُنيًا فاتحًا، و شعرها البُني الكتاني كانَ بعيدًا كُل البعد عن الأشقر اللامع. و رُبما بسبب حياة المشقة مُنذ الصغر، كانَ قوامها صغيرًا مقارنةً بأقرانها في العمر.
الميزة الوحيدة التي قد تشفعُ لها كانت عيناها الخضراء الواسعة.
لو كانتا تشعّان بالحيوية بما يُناسب سنها، لـرُبما شُبّهتا بأوراق الصيف، لكن حتّى هاتين العينين حملتا بينَ الحين و الآخر نظرةً مُنهكة، أقربُ إلى نظرة امرأة عجوز، مما جعلهما عديمتي الفائدة.
زهرةٌ برية انكسرت ساقها تحتَ وطأة المطر العنيف، ضئيلةً إلى حدٍّ لا يلحظهُ أحد، و لن يفتقدها أحدٌ إن لم تُزهر مُجددًا في العام القادم.
و معَ ذلك، كانَ يعرف هذهِ المرأة من قبل.
عقدَ إيزار ذراعيه و راقبها بصمت.
لطالما عرفها كابنةٍ مسكينة لتلكَ المرأة المجنونة.
كانَ يراها أحيانًا في طفولتها، وجهها مليءٌ بالكدمات، تترنحُ أثناءَ سيرها و هيَ تحمِلُ جرة ماء.
لاحقًا، أصبحت راعية صغيرة، تكافح بصعوبة حتّى معَ قطيعٍ صغير.
‘ثُمَّ، امرأةٌ حمقاء سقطت في البحيرة و لم تحاول حتّى السباحة للخروج منها.’
رغم ابتسامتهُ الساخرة، إلا أن تذكره لما حدث حينَ كانَ في الثامِنة عشرة جعلهُ يعبس.
لم يكُن من طبعهِ الالتفات إلى مثلِ هذهِ الأمور، لكن لماذا لفتت نظرهُ في ذلكَ العام تحديدًا؟
غيرَ أن ذكريات ذلكَ العام كانت بغيضة إلى درجة دفعته لإجبار نفسه على التوقف عن استرجاعها.
التعليقات لهذا الفصل "14"