Come and Cry at My Funeral - 11
لم تكُن يد أتريا قويةً بشكلٍ خاصٍ.
ما مدى قوة يد لم ترفع شيئًا ثقيلًا طوالَ حياتها؟
“أيتها الشيء القذر، كيفَ تجرؤينَ على النظر في عينيّ و الرد عليّ؟”
“استيقظي، ‘أختي’. أنتِ في هذا الوضع بسببي أنا!”
طعنت أتريا بِعنف منطقة الترقوة لدى فريسيا بإصبعها.
لكن في تلكَ اللحظة، ظهرَ ضيفٌ غير مدعوّ آخر في الغُرفة الصغيرة.
“أتريا، ما هذهِ الجلبة؟”
“آه، أمي!”
تراجعت أتريا على عجل بعيدًا عن فريسيا، بينما اقتربت منهما سيدةٌ نبيلةٌ بشعرٍ أسودٍ مربوط بإتقان.
تفحّصت السيدة أنتاريس يد ابنتها و هيَ توبخها برفق:
“يا إلهي، أتريا. ما هذا؟”
ألقت نظرة خاطِفة فقط على خدّ فريسيا المتورّم، ثُمَّ تنهدت بمودة و هيَ تُخاطِبُ ابنتها:
“يجِبُ أن تكوني لطيفة معَ أُختكِ الكبرى. فهيَ على وشك الزواج قريبًا جدًا.”
“لكن أمي! هااه…”
اشتعلَ غضبُ أتريا للحظة، ثُمَّ هزّت رأسها بأستسلام.
“أمي، أنتِ دائِمًا لطيفةٌ جدًا، و هذهِ هيَ المشكلة.”
استمعت فريسيا إلى حديثهما بتعبيرٍ جافٍ.
‘لطيفة؟ من؟’
المرأة التي كانت تضحكُ و هيَ تُهددني بعدَ أن قتلت أمي؟
لكنها كتمت اشمئزازها، و انحنت باحترام قائِلة:
“سيدتي، أعتذِرُ عن إثارة القلق في هذا الوقت المُتأخر. لقد كانَ خطئي بالكامل بسبب وقاحتي تجاه الآنسة الصغيرة.”
“أوه، فريسيا.”
لمعت عينا السيدة أنتاريس السوداوان بدهاء.
“نحنُ عائِلة الآن. لا تكوني رسمية هكذا.”
“لكن مِثلَ هذهِ الوقاحة لا تُغتفر.”
ردّت فريسيا بهدوء، تمامًا كخادِمة مُطيعة.
بعدَ أن وقعت في هذا الفخ مرّةً من قبل، أصبحت تعرِفُ طبيعتهُ جيدًا.
ففي إِحدى المرات، عندما نطقت بحذر كلمة “أمي” مُخاطِبةً الدوقة أمامَ الآخرين، لم تلبث الأخيرة أن ابتسمت لها، ثُمَّ سحبتها إلى مخزن بعيد عن الأعين.
كانت فريسيا قد اعتادت على صفعات والدتها الحقيقية مُنذُ زمنٍ طويل، لكن في ذلك اليوم، دارت الدنيا بها بلا هوادة.
حتّى مُجرّد استعادة الذكرى كانَ كفيلًا بجعل العرق البارد يتصببُ منها.
نظرت السيدة أنتاريس إلى فريسيا بتلك المُجاملة المُفرطة، و ابتسمت بِخُبثٍ خافت.
“هممم…”
كانت السيدة النبيلة تُراجِعُ رأيها في فريسيا باستمرار، تُعيدُ تقييمها من جديد.
‘أذكى مما توقعت؟’
كانَ مظهرها مقبولًا، إذ لم يكُن بإمكانها، مهما تمَّ تهذيبُها، أن تتفوقَ بجمالها على ابنتها. لكن سلوكها المُتحفظ كانَ مُزعِجًا.
لم تكُن راقيةً بما يكفي لتُعتبر سيدة نبيلة، لكنها أيضًا لم تكُن بسيطةً بما يكفي لتبدو مُجرّد فتاةً عاديةً.
‘كانَ سيكونُ من المثاليّ لو كانت أكثرَ سذاجة… أو تصرفت كخادمة وضيعة.’
لأن هذا بالضبط ما كانَ الإمبراطور يُريده.
ذلكَ الإمبراطور المسنّ الذي لم يغفر أبدًا للمُتمردين الذين قتلوا ولي العهد و الأمير الثاني.
و بالأخص، لم يغفر أبدًا لـ الدوقة السابقة أركتوروس، التي أفشت للمُتمردين موقع الفيلا المُفضلة لدى العائِلة الإمبراطورية.
‘لا بُدَّ أن جلالته يرغبُ في إذلال الدوق أكثر.’
و معَ ذلك، لم يكُن بإمكان العائِلة الإمبراطورية بيتيلجيوس أن تمحو أركتوروس تمامًا. فقد امتلكت بعض العائِلات النبيلة القديمة، بما في ذلك العائلة الإمبراطورية، قدرات خاصة.
و من بين تلك العائلات، منحَ الحاكم آدامانت سُلالة أركتوروس قوة تُمكّنهم من إخضاع الوحوش الشيطانية على مر الأجيال، مما جعلها سُلالة ثمينة جدًا لا يُمكن للإمبراطور أن يخسرها.
‘لكن هذهِ العائلة…’
من بين جميع العائِلات النبيلة، كانت عائِلة أنتاريس الوحيدة التي فقدت سُلالتها القدرة الخاصة بها. لذلك، كانَ عليهم أن يعملوا بجد أكبر لكسب رضا الإمبراطور.
ارتسمت ابتسامةٌ ماكرةٌ على شفتي السيدة أنتاريس.
“على أي حال، اعتني جيدًا بوجهكِ، فأنتِ عروسٌ جديدةٌ، يا فريسيا.”
“نعم، سيدتي.”
“لنذهب، أتريا.”
لكن بمُجرّد أن خرجتا إلى الممر، اغرورقت عينا أتريا بالدموع و هيَ تنظرُ إلى والدتها.
“أمي، هل حقًا يُمكِنُنا الاستمرار هكذا؟ كيفَ يُمكن لأبي أن…”
“اصمتي، أتريا.”
“… أن يترِككِ خلفهُ و… كيفَ يُمكنهُ فعلُ شيءٍ كهذا!”
ربتت السيدة أنتاريس على رأس ابنتها بصمت.
كانت تعرِفُ عن ذلكَ الوجود مُنذُ البداية، و كذلك كانَ زوجها.
فقد علِمَ الزوجان مُنذُ زمنٍ طويل أن امرأة من عائِلة نبيلة ساقطة، كانَ قد التقى بها الزوج في شبابه، قد أنجبت طفلًا و تعيشُ في دوقية أركتوروس.
‘تركتُ تلكَ المرأة و شأنها فقط لأنها جُنّت بعدَ أن قُطِع لسانها، و لكن…’
كانَ ذلك في صالحها، فقد كانَ زوجها دائمًا يحاولُ إرضاءها.
لكن، أليسَ الوضع الحالي مُشابهًا؟ لم يكُن زوجها ليمنحَ أي دعم لتلكَ الطفلة غير الشرعية.
و معَ ذلك، بدأت ابنتها تبكي بمرارة.
“هيا، لا بأس، أتريا. لا تبكي.”
“لكن أمي، أنتِ تعلمين كم أحب الدوق!”
“أعلمُ. لكن هل ترغبين حقًا في الزواج من تِلك العائلة و هيَ في وضعها الحالي؟”
“…….”
عضّت أتريا شفتيها أمام الحقيقة التي تعرِفُها جيدًا.
ما الفائدة من أن يُشادَ بهِ كـبطل الآن؟
طالما أن تلكَ العائلة مغضوبٌ عليها مِن قِبل الإمبراطور، فسيظلُ أفرادُها يعانون.
لم يكُن الأمرُ مُجرّد القضاء على الوحوش.
كانَ مِن الواضح أن عائلة أركتوروس ستُجَرُّ أيضًا إلى مُهمة القضاء على بقايا المُتمردين.
ابتسمت السيدة أنتاريس و طمأنت ابنتها:
“لا تقلقي كثيرًا، أتريا.”
“أمي…”
“سأتحملُ المسؤولية و أجِدُ لكِ زوجًا مُناسبًا.”
“لكن إن تحسّنَ وضعُ أركتوروس بما يكفي لاستقبالكِ يومًا ما…”
رفعت أتريا رأسها على الفور، لكنها كانت تبدو كئيبة قليلًا. كانَ هذا هو الأسلوب الذي تتبعه والدتها عندما تعِدُها سرًا بشيء مميز.
و كما توقعت، كانت السيدة تبتسِمُ بلُطفٍ بالغٍ.
“سأتخلصُ من تلكَ الفتاة، و أضمنُ أنَّ منصِب الدوقة سيكونُ من نصيبك.”
—
بعد مغادرة الأم وابنتها، قامت فريسيا بتهدئة تورم وجهها بماء الغسيل.
“آه… يؤلمني…”
لِحُسن الحظ، لم تكُن هُناكَ أيُّ آثار لأظافر. كانَ بإمكانها إخفاء ذلك باستخدام المكياج في يوم الزفاف.
مسحت فريسيا وجهها بِرفق و همست لِنفسِها.
“إذن يُمكِنُكَ أن تُظهِر تلكَ التعابير أيضًا.”
ظلَّ وجهُ إيزار، الذي قابلته سِرًا، عالِقًا في ذهنها.
‘زوجها’، الذي بلغَ الثالِثة و العشرين هذا العام، بدا أصغرَ سنًا مما كانَ عليه عندما رأتهُ في الجنازة.
كانَ حذِرًا منها، لكن هُناكَ بالتأكيد لمحة مِن الفضول التي عبرت في ملامحه.
اللامُبالاة، الإِحتِقار، خيبةُ الأمل.
كانت هذهِ المرة الأولى التي ترى فيها وجه زوجها خاليًا مِن تلك المشاعِر الثلاثة. حافظت فريسيا على تعبير هادئ، لكنَ قلبها كانَ ينبُض بِسُرعةٍ لا يُمكِنُها السيطرة عليها.
لم تكُن فريسيا تتوقع أو تأمل أن يُصبح إيزار لطيفًا معها فجأة.
لم تتوقع حتّى أن يشعُر بأي حُب تجاهها.
في حياتها السابقة، أخطأت فريسيا في كُلَّ شيء من البداية حتّى النهاية. بالطبع، لم تُلقي باللوم على نفسها بالكامل.
لكن كانَ من غير المُمكن إنكار أنهُ بسببها تأخرَ استعادةُ شرف عائِلة إيزار.
‘امحي الخطأ الكبير و كوني زوجةً قادِرةً على مُساعدته… بل و حتّى جعله يشعُر ببعض العاطفة.’
كانَ رجالُ عائِلة أركتوروس دائمًا عاطفيين.
و رغم أنهُم صريحون في كلامهم، إلا أنهُم لا يترددون في ذرف الدموع على موت شخصٍ عزيزٍ عليهم، و لا يوفرون دموعهم حتّى على موت حصانٍ محبوبٍ لديهم.
…هذا يعني أن نفسها السابِقة لم تكُن زوجةً ذاتَ قيمة.
‘لكن في هذهِ الحياة، رُبما يذرِفُ دمعةً واحِدةً على الأقل في جنازتي.’
إن تحديد التوقُعات المُنخفِضة جعلَ النجاح أسهل و قللَ من احتمالية خيبة الأمل.
سُرعانَ ما أغلقت فريسيا عينيها ببطء.
كانَ قصر عائلة أنتاريس يُشبه السجن، لكنهُ كانَ جنةً مُقارنةً بما كانَ ينتظرُها في مقر دوقية أركتوروس، حيثُ ستكون مُحاطةً بأشخاص يحتقرونها.
جهزت نفسها لِمُلاقاة هؤلاء الأشخاص مرّةً أُخرى في يوم زفافها، ثُمَّ غفت.
—
جو الزفاف بينَ عائلتي أركتوروس و أنتاريس كانَ مُشابهًِا بشكلٍ غريب لِـجو جنازةٍ. فاخِرةٍ، بلا شك، لكنهُ كانَ يحملُ الكآبة الثقيلة التي تُميّز الجنازات.
همسَ الضيوف طوالَ الحفل حولَ هذا الاتحاد الزائف. حولَ الطاولات المِزخرفة بشكل مُبهر، كانَ أفراد العائِلتين و أتباعهُما يرفعونَ أطراف شفاههم بأبتسامة، لكن عيونهم كانت مليئة بالعداء.
كانَ زِفافًا فاشِلًا بِشكلٍ كارثي.
لكن العروس الجديدة كانت تنظرُ إلى الموقف بشكلٍ إيجابي للغاية.
‘الأمرُ مُختلِفٌ عن حياتي السابقة. على الأقل هذهِ المرة لا يوجد شجار.’
في المرة الماضية، اشتبكَ فرسان أركتوروس، الذينَ غضِبوا بسبب الإهانة التي لحِقت بسيدهم، معَ جانب أنتاريس، مما أسفرَ عن سفك الدماء. لكن هذهِ المرة، لم يكُن هُناكَ مِثلُ هذا الصراع.
في البداية، بعد توقيع عقد الزواج، كانَ إيزار قد دفعَ يدها كما لو أنهُ كانَ يُريد التخلُّص بسرعة من شيء نجس.
لكن هذهِ المرة، أمسكَ بيدها بشكلٍ صحيحٍ حتّى غادروا معًا بعد الحفل. و لذلك، قررت فريسيا أن تعتبِر هذا تطورًا إيجابيًا.
في تلكَ اللحظة، رفعَ إيزار كأسه و هوَ جالس بجانِبها و قال:
“مِنَ المُدهش حقًا، دوق أنتاريس، أن تكونَ قد أخفيت ابنة في دوقيتي.”
“أممم… لم يكُن إخفاءً لها، بل كانَ اكتشافًا مُعجزيًا.”
“هل هذا صحيح؟ إذا كُنتَ قد بحثتَ أكثر، لرُبما تمكنت من ترتيب خطوبة في وقتٍ أبكر.”
ابتسمَ إيزار ابتسامةً خفيفةً.
“عندها كانَ الجميع سيشعرون براحة أكبر، أليسَ كذلك؟”
“أهم… ها ها…”
ابتسمَ دوق أنتاريس بِشكلٍ مُحرجٍ.
لكن كانَ واضحًا أنهُ كانَ في حالة من الارتباك الداخلي، عرقٌ بارِدٌ يتصببُ منه.
‘لماذا يتصرفُ هذا الشخص بِكُلِّ هدوء؟’
كانَ مِزاجُ أفراد عائِلة أركتوروس معروفًا جيدًا في الأراضي المُجاورة.
لذا، كانَ دوق أنتاريس يحاولُ استفزازَ إيزار لإثارة غضبه، من أجلِ توفير بعض الشائِعات المُثيرة للإمبراطور.
لكنَ إيزار، رغم أن ابتسامته أظهرت بعض الانزعاج، لم يُظهِر أي تصرُفٍ غير لائِق أولًا.
و كانَ باقي أفراد عائِلة أركتوروس في نفس الحال.
يبدو أنهُم كانوا مُستعدين نفسيًا، غير قابلين للاهتزاز أمامَ أي حادثٍ مُفاجئ.
و معَ ذلك، ما كانَ يبدو الأكثر غرابةً بالنسبة لدوق أنتاريس هوَ ابنتهُ نفسها.
‘لماذا هيَ هادئِةٌ جدًا؟’
بعدَ أن تمَّ التخلي عنها، سمِعَ أنهُ كانت الأُم قد أصبحت مجنونة إلى حدٍ ما، لذا توقعَ أن تكونَ الابنةُ غير الشرعيةُ في قمةِ الانحطاط.
لكن على الرغم من مظهرها المُتواضع، فإن سلوكها كانَ يفتقِرُ إلى أي خشونة، و لم تكُن تُظهِر أيَّ شعورٍ بالوضاعة.
‘إنها أكثرُ هدوءًا مما كُنتُ أعتقد.’
لم تتوتر حتّى في غُرفةٍ مليئةٍ بالنُبلاء.
حتّى عندما استخدمت أدوات المائدة، لم يكُن هُناكَ ما يُمكن انتقاده، و لم تنحني كتفيها أو تضعَ مرفقيها على الطاولة.
كانَ سلوكها كـعروسٍ نبيلةٍ مُتواضِعةٍ بشكلٍ مثالي.
‘هذا مُقلق.’
الخطة القادمة كانت إهانةُ إيزار، و كانَ مِنَ المُفترض أن تُستخدم العروس كأداة في تلكَ المسرحية.
و كأنها كانت تقرأُ أفكار دوق أنتاريس، أعلن أحدُ الخدم عِند الباب:
“لقد وصلَ جلالةُ الإمبراطور!”