Come and Cry at My Funeral - 10
كانَ تشارلز أولَ من تفاعلَ معَ كلماتها.
“كيف تجرؤ مُجرّد عاميةً مِثلكِ على التحدُث بوقاحةٍ إلى صاحب السمو!”
“يكفي، تشارلز.”
“و لكن!”
أوقفَ إيزار مُساعِدهُ، الذي كانَ سريع الغضب مثله.
لكن المرأة لم تُبدِ أدنى خوف، حتّى أمامَ غضب تشارلز.
“لا بأس إن لم تُصدقني، يا صاحب السمو.”
بدت نبرتها الهادئِة و كأنها تترُك الحقيقة للوقت كي تكشِف عن نفسها.
“سأستعيدُ الخاتم في يوم الزفاف.”
غادرت المرأة مقر إقامة أركتوروس بنفس السهولة التي جاءت بها، مودِّعةً بأدب.
و ما إن اختفت، حتّى انفجرَ تشارلز غاضبًا.
“هل تُصدق كلماتها؟ أن منزل أنتاريس قد يخدعُنا!”
“من الصعب التصديق، لكنهُ ليسَ مُستحيلًا، أليسَ كذلك؟”
راعيةُ أغنامٍ من أحد الأرياف، تتحولُ فجأة إلى ابنةٍ غير شرعيةٍ لعائِلة نبيلة مرموقة.
كانت مهزلة لا تُصدَّق، لكن عندما تذكَّر حماس العائلة الإمبراطورية لدعم هذا الزواج…
“لا بُدَّ أنهُم يستمتعونَ برؤيتي أُخدع.”
فلْتنلكَ اللعنةُ، يا إمبراطور بيتلغيوس، و لْتنلها أيضًا عائِلةُ أنتاريس.
كانَ الإذلال ينهشُ قلبه، حتّى شعرَ أن حلقهُ ينقبض من الغضب.
لاحظَ تشارلز تجهُّم ملامح إيزار، فسأله:
“يا صاحب السمو، هل ستقبلُ حقًا بِتلك المرأة زوجةً لك؟ حتى أهل القلعة لن يقبلوا بها.”
“إذن، تقترِحُ أن أفسخ خطبةً رتَّبها الإمبراطور؟ بأسم أركتوروس؟”
“…أعتذر.”
“أما مسألة قبول القلعة لها أم لا، فذلك شأنٌ عليها وحدها مواجهته.”
مهما اشتدَّ غضبه، لم يكُن بوسعِه فعل الكثير.
لم يكُن أمامهُ سوى أن يتعهَّد بردّ هذا الإذلال أضعافًا مُضاعفة في يومٍ ما.
بخطواتٍ هادئِة، اقتربَ إيزار من النافذة.
و في تلكَ اللحظة، تلاشت امرأةٌ على صهوة جوادها في ظُلمة الليل.
ظهورها المُفاجئ و كشفها لمؤامرات عائِلة أنتاريس بدَوا و كأنهما تأكيدٌ على أنها ليست جُزءًا من مخططاتهم.
و معَ ذلك، صرَّ على أسنانه بأنزعاج، فيما تسلل إلى صدرِه شعورٌ خانقٌ أشبهُ بنارٍ غير مرئية.
لم يتوقع أن يرى هُنا، في هذا المكان، تلك المرأة التي لمحها ذاتَ مرّة و هيَ تخطو على تلال ملكيّته المغمورة بِوهج الغروب أكثر من كانت يومًا بعيدةً عنهُ، هامشيةً لا قيمة لها، كشبحٍ عابرٍ في سراب.
و فوقَ ذلك، ليست سوى ابنة غير شرعية.
مضغَ إيزار هذهِ الكلمة المقيتة في ذِهنه، ثُمَّ استدارَ، مُنصرِفًا عن صورتها التي تلاشت في الأُفق.
—
طوال رحلتها من قلعة أركتوروس عائِدةً إلى قصر أنتاريس، غرقت فريسيا في أفكارها.
ما الذي ينبغي عليها إصلاحهُ أولًا؟
كيفَ يُمكِنُها أن تعيشَ هذهِ الحياة المحدودة بأقلِ قدرٍ من الندم؟
كانَ إيزار رجلاً ذا كبرياءٍ شديد، فقد تولّى إدارة الدوقية مُنذُ صغره، و كانَ يمقُت الخيانة و الكذب أشدَّ المقت.
“عليَّ تصحيحُ حقيقةَ أنهُ خُدِع حتّى اللحظة الأخيرة قبل الزفاف.”
كانت تؤمن بأنَ تلكَ هيَ “الغرزة الأولى الخاطئة” التي تسببت في كُلِّ شيء.
“لا بُدَّ أن ألتقي بِه قبلَ الزفاف، بأي طريقة كانت.”
لِحُسن الحظ، نجحت محاولتها الأولى.
كانَ خضوعها التام حين أُعيدت إلى قصر أنتاريس قد جعلَ الحراس يتهاونون في مُراقبتها بسرعة. كما أن تذكّرها لعدد قليل من الأشخاص الذين أبدوا تعاطفًا معها في الأيام الأولى ساعدها في خطتها.
‘رغم أن ذلك التعاطف لم يدم طويلًا.’
بعد أن تسللت إلى قصر أنتاريس دونَ أن يلحظها أحد، استدارت فريسيا نحوَ الخادمة التي جاءت معها، ثُمَّ همست بأمتنان:
“شُكرًا لكِ، آنا… على مُساعدتِكِ لي.”
“أوه، لا داعي لذكر ذلك.”
“إنهُ شيءٌ بسيط، لكن أرجو أن تقبليه.”
“يا إلهي، لم أكُن أتوقع شيئًا.”
و رغم كلماتها المُتواضعة، أمسكت آنا بالدبوس الذي قدمتهُ لها فريسيا.
دوق أنتاريس لم يكُن يُخفي ازدراءهُ لأبنته “الوضيعة غير الشرعية”، لكنهُ رغم ذلك أمرَ بأن يكونَ مظهرُها لائِقًا.
لكن بالكاد تمكنت من التسلل إلى غرفتها عبر النافذة و تعديل ملابسها، حتّى اقتحمَ شخصٌ غير مُرحبٍ بِه المكان.
“ماذا تفعلين في هذهِ الساعة المُتأخِرة من الليل؟”
تصلّبَ جسدُ فريسيا للحظة، قبلَ أن تلتفت ببطء.
“… السيدة أتريا.”
“و لماذا النّافذة مفتوحة؟”
كانت تلك أُختها غير الشقيقة.
أتريا، بجمالها الإمبراطوري النموذجي، كانت تشِعُّ في ظلام الغُرفة بشعرِها الذهبي المُتلألئ كالهالة، و عينيها الزرقاوتين العميقتين. كانت بالفعل محبوبةٌ بينَ أوساطِ النُبلاء، ليسَ فقط لجمال ملامحها، بل أيضًا لِقوامها الممشوق الذي طالما أثارَ الإعجاب.
بهدوء، أجابت فريسيا على تساؤل أختها غير الشقيقة.
“كنتُ أسمحُ لهواء الليل بالدخول.”
“يا إلهي، اعتقدتُ للحظة أنكِ وجدتِ شخصًا يُعجبكِ فورَ وصولكِ إلى قصرنا.”
“…….”
“يجِبُ أن تُحافظي على نقاء جسدكِ و عقلكِ من أجل زواجكِ من الدوق إيزار. قد يكونُ الأمرُ مُختلفًا بينَ العامة، لكن بينَ النُبلاء…”
لم تتلبّد عينا فريسيا بسبب الإهانة التي حملتها كلمات أتريا، فقد سمٓعت ما هو أسوأ من ذلك بكثير عندما يتعلق الأمر بالأهانة و الكلام الجارِح.
ما أثارَ ضيقها حقًا لم يكُن سوى جشع أتريا الوقح.
‘إن كُنتِ تُحبينَ إيزار إلى هذا الحد، فلماذا لا تُصرّين على الزواج منه، حتّى لو كانَ ذلك قسرًا’؟
على مدار ثلاث سنوات، شاهدت فريسيا كيفَ تُعامِلُ أتريا إيزار و كأنهُ مُجرّد جائزة تُضاف إلى إنجازاتها. لذا، كيفَ لها ألا تُدرِكَ حقيقتها؟
لكن أتريا لم تكُن ترغبُ سوى في الأشياء المثالية، و لم تكن تقبلُ أبدًا الارتباط بعائِلةٍ مُلطخةٍ بالعار.
‘و معَ ذلك، تظلُّ تلهثُ خلفهُ بهذهِ الطريقة…’
كبحت فريسيا اشمئزازها بصمت، بينما أخذت أتريا تمسَحُها بنظراتها من رأسها حتّى أخمص قدميها، قبلَ أن تضحكَ بِسُخرية.
“يا لهُ مِن سوء حظ، الدوق إيزار … أن يقبلَ بأمراةٍ مثلكِ زوجةً له.”
لم تردّ فريسيا، فالتعليقات السامة من أتريا لم تكُن غريبةً عليها.
“تُرى، ماذا كُنتِ تأكُلينَ هُناك؟ بما أنكِ راعيةُ غنم، هل كُنتِ تقتاتينَ على الحيوانات و العشب فقط؟”
تأملتها فريسيا بعينين باردتين قبل أن تُجيب بهدوء:
“إن وجدَ الدوق إيزار أنني لا أليقُ بِه، فبالتأكيد سيطردني.”
ضحكت أتريا بسُخريةٍ، قائِلة: “على الأقل تعرفينَ قدرك.”
لكنَ فريسيا لم تترُك لها فُرصة للانتصار الوهميّ، فأردفت بنبرة سلِسة:
“لكن، إن لم يختركِ بعدَ ذلك، يا سيدة أتريا، فـكُلّ ما قُلتِهِ الآن سينطبِقُ عليكِ أيضًا.”
تجمّدت ملامحُ أتريا، و تشنجَ فكها كما لو أن الكلمات علقت في حلقها.
“يا لهذهِ الوقاحة…!”
ما إن استوعبت سُخريتها المُبطنة حتّى رفعت يدها…
صفعة!
دوّى الصوتُ الحادّ في الغُرفة، و بدأت حُمرة ساخِنة بالأنتشار على وجنة فريسيا.