“كنتُ أشعر بالملل وحدي.”
“آسفة، غفوتُ أثناء التّدليك.”
ابتسمتُ بإحراجٍ.
فنظرت إليّ الأميرة مليًّا، ثم طرحت سؤالًا مفاجئًا:
“إذًا، لم تعودي متعبة الآن؟”
“بالطّبع.”
لمَ تطرح مثل هذا السّؤال الواضح؟
شعرتُ ببعض الحيرةِ.
ربّما بسبب الطّعام الجيّد والرّاحة الكافية،
بدت بشرتي مؤخرًا ناعمة ومشرقةً كالبيضة المسلوقة حديثًا…
تمتمت الآنسة الدّوقيّة وكأنّها تتحدّث لنفسها:
“هذا جيّد. كنتُ قلقة لأنّكِ بدوتِ مرهقة نفسيًّا.”
“ماذا؟”
“لا شيء، لا شيء.”
هزّت الآنسة الدّوقيّة كتفيها، ثم أضافت بعينين تلمعان بحماس وهي تتحدّث بسرعة:
“إذًا، ماذا سنفعل اليوم؟ هل نخرج لتناول الشّاي والعشاء؟ أم أنّ هناك مكانًا قريبًا تتلوّن فيه أوراق الشّجر بجمال رائع…”
تردّدتُ للحظة.
تناول الشّاي رائع، والعشاء كذلك، ومشاهدة أوراق الشّجر مغرية،
لكنّ هناك شيء ظلّ يشغل بالي.
فتحتُ فمي بحذر:
“أم، إيفا، كلّ ذلك رائع، لكن…”
“نعم؟”
“هل الدّوق يحصل على قسط كافٍ من الرّاحة مؤخرًا؟”
“أخي؟”
مالت الأميرة برأسها متعجّبة.
خفّفتُ من حدّة كلامي:
“أعني، لم أرَ وجهه تقريبًا منذ وصولنا…”
هذا صحيح.
رغم أنّني والأميرة وصلنا إلى الإقليم الدّوقيّ أوّلًا،
سمعتُ أنّ الدّوق تبعنا بعد أن أنهى أمرًا عاجلًا،
مضى أسبوع منذ ذلك،
لكن بسبب انشغاله الشّديد، كان من النّادر رؤية الدّوق…
في بعض الأحيان، كنتُ أراه من بعيد:
“سيّدي الدّوق، من فضلك راجع هذه الوثائق أوّلًا…”
“بخصوص محصول الخريف، هناك نقاط أودّ مناقشتها!”
“لقد طرحت نقابة التّجار قضيّة جديدة، ونريد رأيك في هذا…”
كان الدّوق، بوجهٍ متعب، محاطًا بالمسؤولين الإداريّين. وعندما التقت عينانا، ابتسم لي بوهن.
كلّ ما استطعتُ فعله هو ردّ تحيّته بانحناءةٍ خفيفة.
بما أنّ الدّوق يقضي معظم وقته في العاصمة، فمن الطّبيعي أن يستغلّ أتباعه في الإقليم الدّوقيّ هذه الفرصة،
لكن…
‘أليس هذا مجهدًا جدًّا؟’
…شعرتُ بعدم ارتياحٍ.
تلقّيتُ مساعدة كبيرة منه في قضيّة غريجوري، ولم أتمكّن حتّى من شكره بشكلٍ لائق.
وأيضًا، شعرتُ بقليل من الأسف لعدم رؤيتهِ…
‘لحظة، أسف؟’
ضيّقتُ عينيّ قليلًا، وفي تلك اللحظة بالذّات،
“لماذا؟”
مدّت الأميرة صوتها بمرحٍ قاطعةً أفكاري وسألتني:
“هل أخي يشغل بالكِ؟”
“ماذا؟ لا، أعني، فقط أتساءل إن كان يُجهد نفسه كثيرًا…”
“أليس هذا يعني أنّه يشغلُ بالكِ؟”
شعرتُ بالذّهولِ للحظةٍ.
‘هذا صحيح.’
ضربني إدراكٌ مفاجئٌ.
‘كنتُ أفكّر في الدّوق باستمرار.’
لكنّ الاعتراف بهذا مباشرة سيكون خطأً فادحًا.
لأنّ الأميرة كانت تنظر إليّ الآن كوحشٍ يتربّص بفريسته.
إذا وقعتُ في هذا الفخّ، سأصبح مادّة للسّخرية لثلاثةِ أيّام وليالٍ!
“ليس هذا، أنا…”
لوّحتُ بيديّ بسرعة لأنقذ الموقف، لكنّه كان متأخّرًا جدًّا.
“حقًّا؟ حقًّا لا؟”
بدأت الأميرة تبتسمُ بخبثٍ…
“إذًا، سواء أجهد أخي نفسه أم لا، ألا يمكننا تركهُ وشأنه؟”
سألتني بنبرةٍ مرحة.
حاولتُ التّبرير بشدّة:
“لا، أعني، من النّاحية الإنسانيّة، عندما ترين شخصًا يعاني… من الطّبيعي أن تقلقي…”
“لاريت.”
نقرت الأميرة على لسانها، ورفعت سبّابتها :
“قلقكِ على أخي لأنّه يُجهد نفسه دليلٌ على أنّكِ مهتمّةٌ بهِ.”
“لا…”
“عادةً، لا يلاحظ النّاس إن كان شخصٌ لا يهمّهم يُجهد نفسه أم لا.”
“…”
أصابت الصميم.
شعرتُ بحرارةٍ في وجهي، فأشحتُ بنظري دون داعٍ.
نظرت إليّ الأميرة بتعبيرٍ يقول إنّها تستمتع جدًّا.
“على أيّ حال، أنتِ قلقة على أخي، أليس كذلك؟”
واستمرّت في استجوابي…
“تريدين رؤية وجهِه ولو مرّة، أليس كذلك؟ تهتمّين بأخباره، وترغبين في الحديث معه، صحيح؟”
كدتُ أجيب بردٍّ تلقائيّ “لا”، لكنّني توقّفت.
صراحةً،
‘أنا فضوليّة.’
شريك سيرافينا المقدّر.
حاولتُ ترتيب أفكاري مستحضرةً مكانة الدّوق في القصّة الأصليّة،
لكن مهما حاولتُ إيجاد أعذار، لم أستطع كبح إعجابي بالدّوق.
أغمضتُ عينيّ بقوّة وأجبتُ:
“نعم، أنا فضوليّةٌ.”
“رائع.”
ابتسمت الأميرة بعينيها.
“ثقي بي فقط.”
“…”
في تلك اللحظة، شعرتُ كما لو أنّ دلو ماءٍ بارد سُكب عليّ، وقشعريرة سرت في ظهري.
لحظةً، يا أميرة.
في ليلةٍ غطاها السواد وأخذها الوقت ، حيث يغطّ الجميع في النّوم،
“…هوو.”
تنفّس ديتريش الصّعداء طويلًا، وخلع نظّارته الفضّيّة بعد أن طال تأمّله في الأوراق.
‘كنتُ أعلم أنّ الأمر سيكون مزدحمًا، لكن لم أتوقّع أن تتراكم الأعمال لهذا الحدّ.’
عندما سمع أنّ لاريت ستزور الإقليم الدّوقيّ، شعر بسعادةٍ غامرة.
ربّما توقّع أنّه سيتمكّن من رؤيتها ولو بحجّة المصادفة.
لكن…
‘مضى أسبوع بالفعل.’
شعر ديتريش بضيقٍ داخليّ.
بسبب الأعمال المتواصلة التي أغرقته، لم يرَ لاريت سوى مرّة واحدة منذ وصوله إلى الإقليم الدّوقيّ.
حتّى تلك المرّة كانت مجرّد تحيّة بعينيه من بعيدٍ.
لكنّه لم يستطع إهمال عمله، فتراكم استياؤه اللا منفّس له يومًا بعد يوم.
“…”
عبس ديتريش وسحب حبل الجرس بنزق.
بعد قليل،
“هل استدعيتموني، سيّدي الدّوق؟”
“أحضر منشفةً ساخنة، من فضلك.”
كان ينوي أخذ قسط من الرّاحة ووضع كمّادة دافئة على عينيه.
“حسنًا.”
انحنى الخادم وغادر.
أسند ديتريش جسده إلى الكرسيّ وأغمض عينيه بقوّة.
كانت عيناه، المرهقتان من العمل الطّويل، تؤلمانه.
‘الآن وقد فكّرتُ في الأمر… لاريت هي من علّمتني طريقة الكمّادة الدّافئة.’
تذكّر فجأة لاريت التي التقاها في المكتبة.
“إذا غطّيتَ جفنيك بمنشفة ساخنة، فهذا يساعد على إراحةِ عينيك.”
تلك العينان الورديّتان اللّتان نظرتا إليه بهدوء،
وكذلك صوتها اللّطيف الممزوج بالابتسامةِ الرقيقة:
“الأميرة كانت تشكو من إرهاق عينيها أثناء العمل على الوثائق، وكانت تحبّ الكمّادات الدّافئة في كلّ مرّة.”
في تلك اللحظة،
طق طق.
رنّ صوت طرق خفيف، ودون انتظار الرّد، فُتح الباب فجأة.
أطلّت إيفانجلين من بين فتحة الباب.
“هل طلبتَ منشفة؟ لقد وصل التّوصيل!”
دخلت إيفانجلين إلى المكتب بخطواتٍ واثقة، ووضعت صينيّة تحمل منشفة ساخنة.
نظر ديتريش إلى أخته متفاجئًا:
“ما الّذي تفعلينه هنا؟”
“التقيتُ بالخادم هناك، فقلتُ إنّني سآخَذها.”
أشارت إيفانجلين بذقنها نحو الباب وأكملت.
ثم ابتسمت بعينيها:
“ما رأيك؟ أنا الوحيدة التي يمكن الاعتمادِ عليها، أليس كذلك؟”
“…ما الّذي تخطّطين له؟ هل نفدت مصروفاتك؟”
نظر إليها ديتريش بعينين مليئتين بالشّك.
فضيّقت إيفانجلين عينيها وحدّقت به:
“كيف تقول هذا وأنتَ تملك أختًا رائعة مثلي؟”
ثم رفعت أنفها وأضافت بحدّة:
“وأنت مدين لي أصلًا!”
“……”
بدت على ديتريش علامات الذّهول، لكنّه لم يعترض.
في الحقيقة، كان لإيفانجلين الفضل الكبير في زيارة لاريت للإقليم الدّوقيّ هذه المرّة.
لكن، رغم ذلك، لم يجد هو الوقت لقضائه مع لاريت بسبب انشغاله الشّديد…
“أغمض عينيكَ واستند إلى الكرسِيّ.”
رفعت إيفانجلين المنشفة السّاخنةَ وتَحدثت.
تنفّس ديتريش الصّعداء وأغمض عينيهِ.
التعليقات لهذا الفصل " 93"