عضضت داخل فمي بشدة على اللحم الطري.
‘تماسكي، لاريت.’
‘توقفي عن الارتباك من كل كلمة يقولها.’
‘هل تنوين أن تبدي مظهراً أحمقٍ أمامهُ؟’
بعد لحظات.
تظاهرت بالهدوء وابتسمت.
“شكرًا لك. لُطفك هذا على الأرجح هو السبب في أنك تحظى بشعبية بين السيدات.”
“لا أعلم. لم أقل ذلكَ لأجل شعبيةٍ.”
هاه؟
رمشت بعينيّ بدهشةٍ.
أضاف الدوق كلامًا بشكل غير معتاد.
“أنا فقط، قلت ما أفكر فيه بصدقٍ.”
“……”
في تلك اللحظة، شعرت بأن لساني انعقد.
‘لا.’
‘لو تلعثمت الآن، فكل شيء سينتهي.’
‘أنت تعرفين جيدًا أن الدوق شخص مهذب بطبيعته، أليس كذلك؟’
أسرعت ألوّح بيدي في توتر، مغيرةً الموضوع.
“أوه، أنت تبالغ. الآنسة مورغان واحدة من أجمل النساء في العاصمة، وهي موهوبةٌ أيضًا…”
لكن تعبير وجه الدوق بدا منزعجًا على نحو غريبٍ وسألني:
“معذرةً، إلى متى ستتحدثين عن الآنسة مورغان؟”
“نعم؟”
“أظن أن هذا كافٍ.”
هذا… بدا وكأنه لا يريد أن يسمع المزيد عنها.
تلعثمت دون أن أدري.
“إذًا، عن ماذا يمكن أن نتحدث…”
“لا أعلم.”
حدّق فيّ مباشرةً.
ازدردت ريقي بصعوبةٍ.
شعرت وكأني عالقة داخل تلك العيون الزرقاء الجليدية.
لم أعد قادرة على الحركة إطلاقًا…
“أريد أن أتحدث عن الآنسة آنسي.”
“عني؟”
“نعم. على سبيل المثال…”
تدحرجت عيناه الزرقاوان لتصل إلى شحمة أذني.
“عن الأقراط التي أهديتكِ إياها.”
آه.
تجمدت.
هل يعقل أن الدوق ما زال يفكر في الهدية التي أعطاني إياها؟
… لم أكن الوحيدة التي كانت تفكر بها؟
“بدا لي أنك لم ترتديها حتى الآن.”
سألني برفق:
“هل لم تعجبكِ؟”
“……”
نظرتُ إليه بهدوء.
الدوق، الذي كان دائمًا يبدو مرتاحًا، بدا متوترًا اليوم على نحو غريبٍ.
“لا.”
هززت رأسي بسرعة.
“فقط… لم أجد الوقت المناسب.”
“الوقت المناسب؟”
“نعم.”
أردت أن أشيح بنظري عنه على الفور.
تلك العينان الزرقاوان اللتان تحدقان بي…
كانت آسرةً للغاية.
وشعرت أنني قد لا أستطيع الهرب منهما أبدًا.
ومع ذلك…
“لأنك من منحني تلك الهدية… لذلك…”
لم أشيح بنظري عن عينيه.
نظرت إليه بثبات، وتحدثت بوضوح:
“… كنت أرغب أن تكون أول من يرى كيف أبدو بها.”
جفّ فمي تمامًا.
تابعت الحديث، حريصةً ألا ترتجف نبرتي.
“لكن بما أنني لم أكن أعرف متى سأراك، ظللت أؤجل ذلك…”
“إذن…”
تكلم الآنسة بنبرة نفد فيها صبره:
“كنتِ تنتظرينني، ولم ترتديها لذلكَ السبب؟”
“……”
ماذا لو قلت الآن نعم؟
ألن ينهار السدّ الذي كنت أحاول الحفاظ عليه، فقط لأنّه “رجل القدر لسيرافينا”؟
كنتُ خائفةً.
ومع ذلك…
“نعم.”
اعترفتُ بذلك بصدقٍ.
في تلك اللحظة، ارتسمت ابتسامةً ببطء على وجهِه الوسيم.
ابتسامةٌ نقيّة، بيضاء بلا شائبة.
“… هذا يُسعدني.”
في اللحظة التي رأيتُ فيها تلك الابتسامة،
بهتت ألوان كل ما أراهِ.
الشيء الوحيد الذي ظلّ مشرقًا ومتوهجًا…
كان الدوق وحدهُ.
‘ما العمل…’
وضعت يدي على صدري الذي ينبضُ بجنونٍ.
‘يبدو أنني حقًا… وقعت في حبّهُ…’
توقفت عربة بهدوء أمام منزل عائلة آنسي.
ترجل ديتريش أولًا من العربة، ثم مد يده ليُساعد لاريت على النزول بلطفٍ.
ابتسمت له وهي تضع قدمها على الأرض.
“شكرًا لكَ على اليوم.”
“بل أنا من يجب أن يشكركِ ، قضيتُ وقتًا رائعًا معكِ، آنسة آنسي.”
وبعد هذا التوديع،
دخلت لاريت إلى المنزل.
نظر ديتريش بصمت إلى ظهرها وهي تبتعد،
حتى اختفت تمامًا داخل البوابة.
حينها فقط، عاد إلى العربة.
تحركت العربة باتجاه منزل عائلة كلاوديوس.
جلس ديتريش متكئًا على المقعد، يستعيد أحداث اليوم في ذهنه.
حتى الأوبرا الرائعة التي شاهدوها،
وصوت صوفيا الجميل…
كلها اختفت من ذاكرتهِ.
الشيء الوحيد الذي كان يُفكر فيه… شخصٌ واحد.
‘الآنسة آنسي.’
لاريت كانت منبهرةً جدًّا بالأوبرا،
وكانت لا تتوقفُ عن الحديثِ عن صوفيا.
“الآنسة مورغان كانت جميلة جدًّا.”
كان مجرّد مدحٍ بسيط.
كان يستطيع الموافقة والانتقال للموضوع التالي.
“لكنني أعتقد أن الآنسة آنسي أجمل منها.”
خرجت هذه الجملة من فمهِ دون أن يدرك أنه كان يقول الحقيقة…
بصراحةْ، من حيث الموضوعية، كانت صوفيا أجمل من لاريت.
لكن في عينيهِ، كان الأمرُ مختلفًا.
لكن، منذ اللحظة التي التقى فيها بلاريت في دار الأوبرا، وحتى لحظة وداعهما…
كل ما رآه ديتريش كان لاريت فقط.
شعرها الأسود يتماوج برقةٍ تحت سماء الليل الزرقاء.
الضوء القمري المنسكب برقة على بشرتها البيضاء…
بدت وكأنها جنية ليل من الأساطير،
تكاد تذوب في الهواء من رقتها…
ربما لهذا السبب قال:
“أريد أن أتحدث عن الآنسة آنسي.”
ولم يرغب بسماع شيء عن الآنسة مورغان بعد الآن.
“مثلاً، عن الأقراط التي أهديتكَ إياها.”
حين نظر إلى أذنيها الخاليتين، قالها دون تفكير.
وفي اللحظة التالية، ندم.
‘يا إلهي.’
كيف تُستخدم الهدية هو شأنُ من تلقاها.
لكن سؤاله بذلك الشكل يعني…
‘هل يعقل أنني كنت أهتمُ لهذا الحد؟’
تفاجأ ديتريش من نفسه.
ثم رأى لاريت تنظر إليه بعينين مذعورتين، كأرنب مفزوعٍ.
“لأنك من أهداني إياها… لذلك…”
أجابت بخجل.
“… أردت أن أكون أول من يُريها لك.”
وفكّر ديتريش، أن تلك النظرة المرتبكة منها…
كانت ساحرةً للغاية.
‘سؤال غير ضروري.’
أخفى وجهه براحتي يديه.
وأذناه كانتا قد احمرّتا تمامًا.
“……”
ظل يستعيد اليوم مرارًا، ثم فجأةً رفع رأسه.
كان منزل عائلة كلاوديوس على مقربةٍ.
‘على أية حال، يبدو أن إيفا كانت وراء كل هذا التخطيط…’
قطب ديتريش جبينه بانزعاج.
لقد حان وقت استجواب شقيقته المشاغبة.
طاخ!
انفتح الباب دون حتى طرق.ٍ
وكان من دخل هو ديتريش.
شقيق إيفانجلين الوحيد، الذي كان دائمًا متزنًا لدرجة مزعجة.
“إيفا!”
صرخ ديتريش بصوتٍ عالٍ.
رفعت إيفا، التي كانت مستلقيةً على السرير، رأسها ببطء.
“آه، أخي؟”
ثم قفزت من السرير وبدأت تسأله بفضول شديد، وعيناها تتلألآن.
“كيف كان؟
كيف سارت الأمور؟
هل قلت لها إنها جميلة؟ هل أمسكت بيدها؟
لا، لا، مستحيل……
هل قبلتها؟!”
“اخرسي!”
ديتريش صرخ بصوت عالٍ، وجهه محتقن بالكامل.
“منذ متى وأنتِ تراقبين تحركاتي بهذه الدقةِ؟! هل كنتِ تتجسسين علينا؟!”
“ليس تمامًا. كنت فقط… أراقب من بعيد لأطمئن أن كل شيء يسير كما يجب.”
“هذا تعريف التجسس، أيتها الفوضوية!”
إيفانجلين لم تُظهر أي خجل، بل ابتسمت ابتسامة ماكرةً ،
“لا بأس، المهم أنكما قضيتما وقتًا رائعًا، أليس كذلك؟ أراك عدت متوترًا ومشتتًا كأنك وقعتُ في الحب.”
“أنا لست…”
ديتريش توقف عن الكلام، وكأنه يدركُ أن أي محاولة إنكار ستكون عبثًا.
إيفانجلين اقتربت منه بخفةٍ، وضربت بلطفٍ على كتفهُ.
“أخي، ليس عليك أن تنكر. أنا فقط… سعيدةٌ لأجلك.”
ديتريش تنهد طويلًا.
“لو كنتِ فقط أقل تدخّلًا، لكنتُ شاكرًا فعلًا.”
“لكن لو لم أتدخل، لما خرجت في موعد مع الآنسة آنسي، أليس كذلكَ؟”
“……”
“رأيتَ؟”
ابتسمت إيفانجلين وبدتَ مثل زهرةٍ، ثم استدارت نحو أريكتها وكأنها أنهت مهمتها في هذا العالم.
أما ديتريش، فقد بقي واقفًا مكانه للحظات، يحدّق في الهواء، ثم تمتم بهدوء:
“……الآنسة آنسي، هاه.”
نُقطة البداية الصغيرة التي فُتحت بينهما اليوم…
بدأت تنمو بهدوء، كما لو أنها كانت دائمًا موجودةً هناك، تنتظر لحظةً كهذهِ لتبدأ الظهور.
التعليقات لهذا الفصل " 73"