جلست سيرافينا وحدها داخل العربة، وكتفيها يرتجفان من الغضب.
‘كيف يمكن لغريجوري أن يفعل هذا بي؟!’
تفهمت أنه كان متوترًا بسبب لاريت.
فهي لم تكن أقلّ من أن نسفت اللورد آنسي وإقطاعية آل آنسي بالكامل.
وسيرافينا نفسها، منذ أن تدهورت علاقتها مع لاريت، بدأت تعاني من بعض الصعوبات في المجتمع الأرستقراطي.
لذا، رأت أنه من الطبيعي أن يتأثر غريجوري أكثر منها، وأن يصبح أقل اهتمامًا بها.
لكن…
‘رغم ذلك، كيف يمكنه أن يُهينني بهذا الشكل!’
انطلقت من شفتي سيرافينا كلمات باردة كالجليد.
“إلى منزل المدينة التابع لكونت جوستو.”
وهكذا وصلت إلى منزل الكونت غوستو.
عندما شاهدها الخدم، لم يستطيعوا إخفاء ارتباكهم.
“الآنسة لوبيز؟”
“ما الذي أتى بكِ إلى هنا…؟”
ثم لاحظت سيرافينا تغيّر تصرفاتهم الطفيف.
في السابق، كانوا يكادون يخلعون أكبادهم ترحيبًا بها، أما الآن، فرغم محافظتهم على مظهر اللباقة، كانوا يبدون مسافة واضحة تجاهها.
رسمت سيرافينا ابتسامة مقصودة على شفتيها.
“أين غريجور؟”
تعمّدت مناداته بلقبه المحبّب، لتُظهر مدى قربها من صاحب المنزل، غريجوري.
لكن الخدم ظلّوا متحفظين.
“إنه… خارج من أجل…”
“غريجور… خارج؟”
هو يعلم أنني سأحضر تجمع نادي فيوني اليوم.
في السابق، كان سيأتي ليأخذني بنفسه.
‘هل سبقني وجعل جدول أعماله أهم مني؟’
تشققت ابتسامتها الرقيقة قليلًا.
“قال إنه سيتأخر قليلًا اليوم.”
“حسنًا، سأنتظره في الداخل.”
“عفوًا؟”
دون أن تنتظر ردًّا، خطت سيرافينا بثقة إلى داخل المنزل.
فقد اعتادت التردّد عليه كأنه منزلها، وكانت تعرف تصميمه عن ظهر قلب.
“آنسة لوبيز، انتظري!”
ناداها أحد الخدم بدهشة، لكنها تجاهلته ودخلت إلى غرفة الاستقبال.
جلست على الأريكة في راحة، وأمالت رأسها تنظر إليه بابتسامة هادئة.
“ما الأمر؟”
ازدادت ابتسامتها لطفًا، لكنها كانت تنضح ببرودة غريبة.
” أنتَ لا تُفكر في طردي، أليس كذلك؟”
“……”
نظر إليها الخادم بنظرات مضطربة، ثم هزّ رأسه وتراجع.
“لا يمكن أن يحدثَ ذلك، طبعًا.”
تحدثت سيرافينا وكأنها صاحبة المنزل.
“أرغب في تناول شاي دافئ، هل يمكنُ ذلك؟”
“نعم، بالطبع.”
بعد لحظات، قُدّمت ضيافة وشاي على الطاولة.
وكان من نوع الشاي المفضل لدى سيرافينا.
“……”
عندها فقط، ارتاحت قليلًا.
فرغم كل شيء، لا يزال غريجوري يحتفظ بتقاليد الضيافة الخاصة بها في منزله.
وكان ذلك عزاءً كبيرًا لها.
‘رغم كل شيء…’
شمّت عبير الشاي الساخن، ثم فتحت عينيها الحادتين.
‘لا يمكنني أن أتجاوز ما حدث بهذه السهولة.’
لا يمكنها أن تخسر غريجوري أيضًا.
أبدًا.
في تلك الليلة، عندما عاد غريجوري متأخرًا، اتسعت عيناه في دهشة.
“سيرا، ما الذي أتى بكِ إلى هنا؟”
“فقط شعرت أننا لم نمضِ وقتًا معًا مؤخرًا.”
ابتسمت سيرافينا بدلال.
“فقلت أن أمرّ لرؤية وجهك، أليس من الجيد رؤيتي؟”
كانت تتوقع أن يستقبلها بحرارة كما اعتاد.
لكن ردّ فعله كان فاترًا على غير العادة.
“لماذا كل هذا التكلّف؟”
“……ماذا؟”
توهّجت عينا سيرافينا في حيرة من ردّه المفاجئ.
“لقد رأينا بعضنا في القصر مؤخرًا.”
جلس على الأريكة، ومسح وجهه بيده المتوترة.
“بما أننا التقينا الآن، أريد أن أسألكِ عن شيء.”
“عن ماذا؟”
تردّد لحظة، ثم تنهد وأكمل:
“عن لاريت…”
مرة أخرى، لاريت؟
تجعد جبين سيرافينا بشدّة.
“ظننت أنها قالت إنها ألغت الخطوبة بدافع الغضب فقط، لكن يبدو أن الأمر مستمر أكثر مما توقعت.”
ألقى نظرة خاطفة عليها.
“لكن… لا يمكن أن تكون قد نسيتني، أليس كذلك؟”
“……”
“مجردِ دلالٍ بسيط، وستعود إليّ في النهاية، أليس كذلك؟”
رغم سؤاله المُلِح، لم تجبه سيرافينا.
بل نظرت إليه بوجه بارد كالثلج.
“سيرا؟”
ناداها غريجوري بريبة.
“آه.”
أفاقت سيرافينا فجأة، ونظرت إليه بنظرة عتاب لطيفة.
“غريجور، أشعر بالأسى منكَ.”
وبنبرة مليئةً بالبراءةِ، تابعت:
“لم نلتقِ منذ زمن، فهل ستستمر في الحديث عن لاري فقط؟”
“……”
حدّق بها غريجوري بنظرات حسابية باردة.
كان في الماضي يذوب أمام هذه النظرات والكلمات،
لكن الآن…
‘سيرا… لم تعد ذات فائدة لي.’
صحيح، كان يشعر بالفخر وهو يتنقّل معها.
فهي، إلى جانب الأميرة كلوديا، من أكثر السيدات شهرة في المجتمع الراقي.
جميلة، لبقة، ورقيقة الكلام.
سيدة تخطف الأنظار بلا شكٍ.
لكن، هذا كل شيء.
‘إن استمررت هكذا… سأنتهي مُفلسًا تمامًا.’
عض غريجوري على أسنانه في توتر.
فرغم أن آل جوستو أعلى مرتبة من آل آنسي، فهو الابن الثاني،
ولا يمكنهُ وراثة اللقب.
وإن أراد النجاة…
‘عليّ أن أستعيد لاريت مهما كلّف الأمر.’
لكن الواقع كان قاسيًا.
إقطاعية آل آنسي الصغيرة والغنية.
لقب لورد آنسي.
…ولاريت نفسها.
كل ذلك على وشك الضياع بسبب انشغالهِ بسيرافينا.
زد على ذلك، لاريت أصبحت أكثر جمالًا من أي وقت مضى.
حتى بعض الشبان من النبلاء بدؤوا يلاحظونها.
بغيظٍ مكبوت، وقف غريجوري فجأة.
“لقد تأخر الوقت، سيرا.”
نظرت إليه سيرافينا بدهشة.
“غريطور؟”
“عليكِ العودة الآن. أنا متعب وأحتاج للراحة.”
ثم غادر المكان بسرعة، تاركًا سيرافينا وحدها في غرفة الاستقبال.
“غريجور!”
نهضت سيرافينا من مكانها بسرعة، ونادت عليه بيأس.
لكنه لم يلتفت حتى.
“أنتَ حقًا…!”
تشوّه وجه سيرافينا بالغضب.
كانت الساعة تقارب منتصف الليل، عندما وصلت سيرافينا أخيرًا إلى منزل المشتركِ حيث تقيم.
“……”
نظرت إلى المبنى بعينين مطفأتين.
في الحقيقة، مجرد امتلاك منزل مستقلّ في العاصمة كان نوعًا من الامتياز.
فأسعار الأراضي باهظة، ولا يقدر عليها إلا القلة من النبلاء الأثرياء.
لذا، غالبًا ما يستخدم النبلاء الفقراء منازل مدنية مشتركة إن اضطروا للبقاء في العاصمة فترة طويلة.
‘مقرف.’
وسيرافينا كانت منهم.
صحيح أن المكان نظيف ويليق بنبلاء،
لكن بعد أن كانت قبل لحظات في قصر الكونت جوستو الفاخر، لم يكن هذا يرضيها أبدًا.
من مركز العاصمة حيث تتركز منازل النبلاء، إلى هنا، يلزم وقت طويل في العربة.
‘متى سأتخلص من هذا المنزل المشترك الحقير؟’
حدّقَت سيرافينا بعينين تقدحان شررًا.
لاريت.
غريجوري.
بفضلهما أصبحت نجمة في المجتمع الراقي.
لكن كلما وطأت قدمها هذا المكان، تتذكّر الحقيقة المريرة.
فهي مجرد الآنسة لوبيز، بلا أي أراضٍ أو ثروة.
في حين أن لاريت هي الوريثة الوحيدة لعائلة نبيلة.
‘أكره هذا.’
عضّت سيرافينا على أسنانها، ودخلت المنزل.
عيناها، اللتان وصفهما النبلاء سابقًا بأنها كأجمل زمرد،
كانتا حادتين تبثّان طاقة شرسة.
دووم!
أُغلِق الباب خلفها بعنفٍ.
وساد السكون.
التعليقات لهذا الفصل " 58"