خرجت إيفانجلين إلى الشرفة بخطواتٍ متسارعةٍ وهي تحمل كأس مشروب في يدها.
نسيم الليل البارد يداعب خدّيها المتورّدين بإحساس لطيف.
“آه، أشعر بالملل حتّى الموت.”
اتّكأت إيفانجلين على درابزين الشرفة وتمتمت بنبرة متذمّرة.
الأميرة كلاوديوس.
هذا الاسم كان كفيلًا بجذب انتباه العديد من الناسِ لا محالة.
لكن ما لم يكن المرء من طبقة نبيلة عالية بما فيه الكفايةِ، لم يكن هناك وريث يجرؤ على طلب الرقص من إيفانجلين.
في النهاية، وجدت إيفانجلين نفسها محاطةً بنظرات متلهّفة تتطلّع إليها من بعيد دون أن يجرؤ أحد على مخاطبتها.
“أوف.”
ارتشفت إيفانجلين مشروبها بنزق.
مرّ السائل البارد إلى حلقها، فخفّف من ضيقِ صَدرها قليلًا.
رفعت إيفانجلين عينيها إلى السماء بلا تركيزٍ.
فوق سماء الليل السوداء، كانت النجومُ الصغيرةُ تتلألأ كقطع الذهب المتفرّقة.
وهي تنظر إلى تلك السماء، تذكّرت فجأة شعر صديقتها الأسود القاتمِ.
حتّى زينة اللؤلؤ التي اختارتها إيفانجلين بنفسها ووضعتها في شعر لاريت المرفوع بأناقة.
‘الآن وأنا أفكّر، أخي والسيّدة آنسي.’
ابتسمت إيفانجلين ابتسامة خفيفة.
‘يبدوان متناغمين جدًا.’
تذكّرت إيفانجلين المشهد الذي رأتهُ قبل قليل.
تحت أضواء الثريّا، كان شخصاها المفضّلان يدوران معًا في رقصةٍ رشيقةَ.
الحفل، بصراحةٍ، لم يكن ممتعًا جدًا، وكان الرجال التافهون الذين يتقرّبون من لاريت يثيرون استياءها.
لكن مشاهدة الاثنين يرقصان كانت ممتعةٍ على الأقلِ.
لكن في تلكَ اللحظة.
“الأميرة كلاوديوس؟”
نادى أحدهم إيفانجلين بحذر.
‘هم؟’
التفتت إيفانجلين لتجد عينيها متسعتين كعينَي أرنب مندهش.
“زوجة فيكونت آنسي؟”
كانت والدة لاريت، زوجة فيكونت آنسي.
ابتسمت إيفانجلين بأكبر قدرٍ ممكن من اللطف.
“ما الأمرِ؟”
اقتربت زوجة الفيكونت من إيفانجلين بخطوات حذرة.
“غدًا ستعودين إلى العاصمة، أليس كذلك؟”
“آه، نعم. صحيحٌ.”
أومأت إيفانجلين برأسها.
كان ذلك متوقّعًا، فقد أغرقها ديتريش بالتوبيخ في رسالتهِ.
[لا يجب أن تُسبّبي المزيد من الإزعاج لعائلة فيكونت آنسي.
عندما أعود إلى العاصمة، ستأتين معي دون نقاش. فهمتِ؟]
لهذا السبب، قرّرت إيفانجلين العودة إلى العاصمة مع ديتريش أوّلًا.
في المقابل، كانت لاريت تخطّط للبقاء بضعة أيّام إضافيّة في مسقط رأسها لتقضي وقتًا مع والديها.
لكن…
‘هل لديها ما تريد قولهُ؟’
ألقت إيفانجلين نظرة خاطفة على زوجة الفيكونت.
ما إن التقت عيناهما، ارتجفت كتفاها وتشنّجت.
ثمّ فتحت فمها مجدّدًا بصوت خافت كصوت بعوضة:
“أيمكنني أن أقول كلمة، رغم وقاحتي؟”
“بالطبع. تحدّثي براحتكِ.”
أومأت إيفانجلين برأسها بلطف.
لكنّها شعرت داخليًا ببعض التوتر في هذا الموقف.
‘هل… هناك شيء أزعجها بشأنَي؟’
في الحقيقة، لم تكن إيفانجلين من النوع الذي يحبّه الكبار.
مكانتها النبيلة العالية في الإمبراطوريّة كانت حاجزًا يصعب على البالغين تجاوزهُ.
وأسلوبها المباشر وطباعها الجريئة كانا أيضًا من الأمور التي تجعل الكبار يشعرون بالضيقِ.
‘بما أنّها والدة السيّدة آنسي، أردتُ أن أترك انطباعًا جيّدًا بأيّ طريقة…’
لكن بعد رؤيتها تتحدّث إلى لاريت في الصالة سابقًا، ظنّت أنّ صورتها لم تُفسد تمامًا.
‘ربّما أفسدتُ كلّ شيء.’
بينما كانت إيفانجلين تكبح تنهيدة كادت تخرج، قالت زوجة الفيكونت فجأة:
“شكرًا جزيلًا، يا سيّدتي الأميرة.”
وانحنت برأسها بعمق.
ارتدّت إيفانجلين متفاجئة كقطّةٍ مذعورة، وقفزت في مكانها.
“ماذا؟!”
“أعني، مرّ وقت طويل منذ آخر مرّة رأيتُ فيها لاري تبتسم بهذا السطوع.”
ظهرت ابتسامةٌ خفيفةٌ على وجهِ زوجة الفيكونت المتوتّر.
“…كنتُ دائمًا أشفق على تلك الفتاة التي كانت تشعر بالضعفِ.”
“هذا…”
“في عينيّ، كانت مليئة بالمميّزات، لكن لاري كانت دائمًا تقلّل من شأن نفسها.”
فهمت إيفانجلين بسرعة ما تعنيه زوجة الفيكونت.
لاريت آنسي.
في الحقيقة، كان المجتمع ينظر إلى لاريت كخادمة لسيرافينا تقريبًا.
ولم تكن إيفانجلين بعيدة عن هذا التصوّر كثيرًا.
سيرافينا التي كانت تزعجها في كلّ صغيرةٍ وكبيرة.
ولاريت التي كانت دائمًا تتحمّل أخطاء سيرافينا وتنحني نيابة عنها.
لذا، كان الانطباع الأوّل الذي شعرت به إيفانجلين تجاه لاريت هو فضول خافت.
‘لمَ تُظهر مثل هذا التفاني تجاه السيّدة لوبيز؟’
في نظر إيفانجلين، كان نجاح سيرافينا في المجتمع يعود بالكامل إلى لاريت.
بسبب وجود لاريت إلى جانبِها.
سيرافينا، النبيلة المتواضعة بلا إقطاعيّة، استخدمت صديقتها كوسيلةٍ لدخول مجتمع العاصمة لأوّل مرّة.
اشترت فساتين فاخرة عديدة بمال صديقَتها.
واستخدمتها بلا تردّد كمادة للنكات، لتكتسب سمعةَ السيدة المرحة والممتعة.
كلّما زاد حبّ الناس لسيرافينا، زادت التضحيات التي كان على لاريت تقديمها.
ومع ذلك، كانت لاريت تبتسم لسيرافينا.
“سيرا صديقتي.”
…تلك النظرة الحنونة التي كانت ترمق بها سيرافينا.
منذ لحظةٍ ما، بدأت إيفانجلين ترى أنّ لاريت أفضل ممّا تستحقّه سيرافينا.
‘صديقة.’
بدأت… تحسد تلك العلاقة قليلًا.
أن تُحبّ شخصًا بصدق دون أن يكون من عائلتك المرتبطة بالدمّ.
‘هل سيكون لي شخص مثل هذا يومًا ما؟’
لذا عندما جاءتها لاريت لأوّل مرّة، كانت تتوقّع شيئًا ما بصراحةٍ.
ربّما كانت تأمل أن تشاركها لاريت ولو قليلًا من تلك الصداقة التي أعطتها لسيرافينا.
ولاريت…
منذ توقيع عقد الصداقة، لم تخيّب آمال إيفانجلين ولو مرّةً واحدة.
“حتّى رقصها هكذا هو الأوّل من نوعه.”
استفاقت إيفانجلين من أفكارها على صوت زوجة الفيكونت.
“وريث جوستو كان دائمًا يطلب الرقص من السيّدة لوبيز فقط، لذا كوالدَين، كان ذلك يؤلَمنا.”
استقامت زوجة الفيكونت ونظرت إلى إيفانجلين.
هل كان ذلك وهمًا؟
بدا وكأنّ الأضواء المتسرّبة من قاعة الحفل تعكس رطوبة خفيفة في عينيها.
“أن تتغيّر لاري هكذا، كلّ ذلك بفضلكِ يا سيّدتي الأميرة لأنّكِ أصبحتِ صديقتها.”
تعمّقت ابتسامة زوجة الفيكونت قليلًا.
“قد تكون لاري ناقصة في جوانب كثيرة،ٍ لكن أرجوكِ، اعتني بابنتنا في المستقبل أيضًا.”
“….”
وهي تواجه زوجة الفيكونت المبتسمة بسطوع، شعرت إيفانجلين فجأة أنّها تفهم كيف استطاعت لاريت أن تنمو لتصبح شخصًا دافئًا كهذا.
…وشعرت ببعض الحسد تجاه لاريت.
لأنّ إيفانجلين، في طفولتها المبكّرة، فقدت دفء والديها إلى الأبد.
“لا، ليس كذلكَ.”
لإخفاء شعورها بالضيق، ابتسمت إيفانجلين بجهد وهزّت رأسها.
“السيّدة آنسي هي صديقتي الوحيدة. بل أنا من تتلقّى مساعدةً كبيرة منها.”
“قولكِ هذا يظهر مدى لطفكِ، يا سيّدتي الأميرة.”
لطيفة.
كلمة لم تسمعها في حياتها قط.
لكن زوجة الفيكونت كانت تنظر إليها بعينين صافيتين مليئتين بالطيبةِ.
نظرات نقيّة تشبه تمامًا نظرات لاريت.
“أرجوكِ، زورينا مجدّدًا في المرّة القادمة. سنبذل قصارى جهدنا لاستضافتكِ.”
“لا، لم يكن هناك أيّ نقص في الضيافة الآن أيضًا. لكن…”
لوّحت إيفانجلين بيدها، ثمّ طوّت عينيها بلطف وقالت:
“بما أنّكِ قلتِ ذلك، سأحرص على زيارتكم مجدّدًا يومًا ما.”
“أوه، يبدو أنّ علينا أن نجتهد لنكون عند حسَن ظنّ الأميرة.”
ردّت زوجة الفيكونت مازحة ًبخفّة، ثمّ تابعت بجديّة:
“قد لا يُضاهي جمال إقطاعيّة الدوق، لكن هناك أماكن ذات مناظر خلّابة حولنا. سنرافقكِ لزيارتها في المرّة القادمة.”
“آه، أصبحتُ فضوليّة من الآن؟”
ضحكت إيفانجلين بخفّة، ثمّ فكّرت فجأة:
‘لو كانت أمّي لا تزال على قيد الحياة، بجانبي… هل كان هذا شعوري؟’
كان هذا الإحساس بالراحة ِنادرًا جدًا بالنسبة لها.
ترجمة : مريانا
التعليقات لهذا الفصل " 47"