وضعَ غريجوري يده على كتف سيرافينا النحيل.
“أنتِ، ترتجفين هكذا.”
“…غريجر.”
“كيف يمكنني أن أترك فتاة هشّة مثلكِ تواجه لاريت المتعجرفة تلك بمفردها؟”
ابتسمَ غريجوري بعطفٍ، كأنّه رجل نبيل يراعي السيدات.
نظرتْ سيرافينا إليه بنظرةٍ حادّة.
لكن ذلك لم يدم طويلًا.
“أجل، شكرًا لكَ.”
تظاهرتْ بالامتنان ظاهريًا، ورفعتْ زاوية شفتيها بلباقةٍ.
كبتتْ سيرافينا غضبها المتصاعد بجهد.
‘آه، حقًا لا يملك ذرّة منَ الإحساسِ.’
بصراحةٍ، كانت تكره ذلك حقًا.
في حفلة عائلة كونت جوستو، كان من المفيد بالطبع أن تكون مع غريجوري، ابن جوستو.
لكن هل كان عليها أن تسحبه كظلّها حتّى في حفلة عائلة فيكونت آنسي؟
بل إنّ البقاء بمفردها كان سيمنحها حريّة التنقّل أكثر…
“سيرا؟”
“آه، نعم. هيّا بنا بسرعة.”
كبحتْ الضيق الذي وصل إلى حلقِها بقوّةٍ.
قبلتْ سيرافينا مرافقة غريجوري، وخطتْ خارجَ قاعة الحفل.
* * *
كانت الأغنية التي تُعزف الآن والتزًا خفيفًا ومبهجًا.
كانت الأكثر شعبيّةً في الإمبراطوريّة مؤخرًا، والسبب…
‘هذا، أليس قريبًا جدًا؟!’
لأنّ هذا الوالْتز تضمّن حركات تجعل الجسدين متقاربين جدًا.
‘لا يجب أن أخطئ أبدًا.’
جفّ فمي تمامًا.
‘إذا ما دُستُ على قدم الدوق…’
آه.
مجرد التفكير في ذلكَ جعلَ رأسي يدورُ.
وأنا أخطو بحذرٍ متوتر، ألقيتُ نظرة خاطفة على الدوقِ.
بينما كنتُ أحبس أنفاسي بحذر، بدا الدوق أمامي مرتاحًا جدًا.
…كيف أقولها، أن أرقص مع بطل هذا العالم قبل سيرافينا؟
شعورٌ غريب حقًا.
“شكرًا جزيلًا لحضوركَ حفلتنا، يا سيّدي الدوق.”
بدأتُ الحديث بحذر، ثمّ طرحتُ سؤالًا:
“هل… ربّما طلبت الأميرة منكَ الحضورَ إلى حفلتِنا؟”
فجأة، مرّت ظلال تعب عميقة على وجه الدوق.
“حسنًا، لا يمكنني القول إنّ ذلك غير صحيحٍ تمامًا.”
يا إلهي، كم عانى؟
ارتجفتُ كتفيّ دون قصد.
لكن تلك النظرة المرهقة اختفت سريعًا.
“على أيّ حالٍ.”
تحت ضوء الثريّا المتلألئ كالندى، لمعت عينا الدوق الزرقاوان بمرح.
مال برأسهِ نحوي قليلًا، وهمسَ بهدوء:
“ليس شيئًا يجب أن تقلقي بشأنه، يا سيّدة آنسي.”
“ماذا؟”
ليس شيئًا يعنيني، ما معنى ذلك؟
“حتّى لو ألحّت إيفا، لما حضرتُ حفلةً لا أريدها.”
أضافَ الدوق بلا مبالاة، بوجه هادئ:
“أعني أنّني جئتُ لأنّني أردتُ ذلك.”
ابتلعتُ ريقي.
سيدات مزيّنات كالزهور، ورجال نبلاء يمسكونَ بأيديهنّ.
وسط تلك اللوحة الرائعة، كان الدوق وحده بارزًا.
سَرَسَرَ.
مرّت ساقه الطويلة بلطف عبر حافة فستاني الرقيق.
في كلّ مرّة، شعرتُ بتوتر غريب يسري في جسدِي.
يدُه المستقرّة بخفّة على خصري، ونظراته الزرقاء التي تحدّق في عينيّ مباشرةً.
رغم علمي أنّ هذه حركات عاديّة أثناء الرقص.
ورغم إدراكي أنّها لا تحمل أيّ معنى عاطفيّ، ولا داعي للقلق…
لكنّني، باستمرار، أصبحتُ أكثر وعيًا بالدوق.
‘أصبحتُ أنتبهُ إليهِ.’
فجأة، تعثّر جسمي بشدّةٍ.
“آه!”
علق طرف فستاني بحذائي المدبّب.
لكن لحسن الحظ، لم أتدحرج على الأرض بطريقة محرجةٍ.
لأنّ…
“هل أنتِ بخير؟”
كان الدوق قد أمسك خصري بقوّة.
استندتُ إليه وعدّلتُ وقفتي.
كان تعامله سلسًا لدرجة أنّ أحدًا لم ينتبه لخطأي.
“سيّدة آنسي؟”
“….”
استعدتُ رباطة جأشي بعد لحظة ذهول، وأجبتُ بسرعة:
“نعم، أنا بخير. شكرًا لكَ.”
كأنّ حصاة أُلقيت في بحيرةٍ هادئة.
…أصبح قلبي مضطربًا بالكامل.
دخلتْ سيرافينا وغريطوري متأخرَين إلى قاعة حفل عائلة فيكونت آنسي.
كان الحفل قد بلغ ذروتهُ بالفعلِ.
كان النبلاء والسيدات يرقصون في قاعةِ الرقص.
وكانت السيدات والنبلاء في منتصف العمر يستمتعون بالمشروبات الخفيفة والحلويات، يتبادلون أحاديثٍ هادئة.
عند رؤية تلك اللوحة، شعرتْ سيرافينا بصدمة داخليّة كبيرة.
‘كيف لا يحيّيني أحد؟’
أن تكون مركزَ اهتمام الجميع.
أن يظهر الجميع تعاطفًا مع سيرافينا، وأن تقف في صدارة الجميع.
كان ذلك بالنسبة لها طبيعيًا كالتنفّس.
خاصّة في أيّامها كملكة المجتمع الجنوبيّ تحت حماية غريجوري.
لكن الآن…
‘لا أحد ينظر إليّ.’
عضّتْ سيرافينا أسنانها بقوّة.
لكن في تلك اللحظةٍ.
‘مهلًا.’
رفعتْ سيرافينا رأسها فجأة.
رأتْ ظهرًا مألوفًا في وسط قاعة الرقص.
شعر أسود لامع معقوص بأناقةٍ.
حافة فستان غنيّةٌ ترسم منحنيات ناعمًة تحت خصرها الرشيق.
ووقفتها المستقيمة دون اهتزاز.
‘لاريت؟!’
لم تستطع سيرافينا كبح دهشتها.
“سيّدة آنسي تؤدّي دور المضيفةِ هذه المرّةَ ببراعةٍ.”
“بالفعل. كنتُ أعتقد أنّها دائمًا كئيبةٌ، لكن عندما تزيّنت، بدت جميلة جدًا.”
“لا أعرف لمَ كانت تتجوّل بتلك الطريقة الباهتة حتّى الآن.”
توشوشتْ السيدات المجتمعات جانبًا خلف مروحاتهنّ المفتوحة.
“لم أرَ سيّدة آنسي تبتسم بهذا السطوع من قبلِ.”
كان ذلك صحيحًا.
لم يكن هناك ظلّ على وجه لاريت وهي تبتسم ببريق.
‘كذب.’
ارتجفتْ حدقتا سيرافينا بعنف.
كان الأمر وكأنّ…
‘لاريت هي بطلة هذا الحفل.’
والأكثر إدهاشًا لسيرافينا كان شخصًا آخر.
“لكنّني صُدمتُ حقًا.”
أشارت إحدى السيدات بعينيها إلى الرجل المقابل لـلاريت.
“من كان ليظنّ أنّهُ…بالطبع،
ذلك السيّد سيطلب من سيّدة آنسي الرقصَ؟”
تحوّلتْ نظرة سيرافينا نحو الرجل الذي أشارت إليه السيدة.
الرجل الذي يمسك يد لاريت.
شعر بلاتينيّ لامع كأنّه مصنوعٌ من خيوطِ البلاتين، وعينان زرقاوان تذكّران ببحر الشتاء.
ملامح تشبه الأميرة كلاوديوس، أجمل وردةً في المجتمع، لكنّها أكثر وسامة بكثير…
‘الدوق كلاوديوس؟!’
اتّسعتْ عينا سيرافينا في ذهول.
‘كيف يمكن أن يحدث هذا؟!’
حتّى الآن، بذلتْ سيرافينا جهودًا جبّارة للاقتراب من الأخوين كلاوديوس.
صداقة الأميرة كلاوديوس، مركز المجتمع.
والرقص مع الدوق كلاوديوس الذي طالما حسدتهِ.
ما لم تستطع تحقيقه رغم كلّ جهودها، استحوذتْ عليه لاريت المتواضعة تلكَ بسهولةٍ.
…لم تستطع تصديق ذلك.
‘لا يمكن أن يكون هذا حقيقيًا.’
تلطّختْ عيناها الخضراوان الزمرديّتان بمشاعر متضاربة.
وكان أبرزها بوضوح…
الحسد.
‘كلّ هذا كذب. هذا…’
أصبح رأسها مشوّشًا تمامًا.
عضّتْ سيرافينا شفتيها حتّى نزف الدمّ.
‘لاريت الوضيعة تلك، لا يمكنها أن تتجاوزني!’
كان مكان لاريت تحت قدمي سيرافينا.
كان ذلك محدّدًا منذ البداية.
لتكون في تناقض مع سيرافينا، لتجعلها تتألّق أكثر جمالًا.
كان يفترض أن تظلّ لاريت دائمًا بجانبها بوجهٍ كئيب.
لا أن تبتسم بسعادة تحت أضواء الثريّا المتلألئة!
في تلك الأثناء، كانت سيرافينا منهمكةً جدًا في كبح غضبها وحسدها، فلم تلاحظ.
أنّ نظرات غريجوري المصدومة كانت معلّقة بلاريت فقط.
في هذه اللحظة، لم يكن غريجوري يهتمّ بسيرافينا أبدًا.
“لاريت؟”
تمتمَ غريجوري بصوتٍ مرتجف.
كان يظنّ أنّ لاريت ستظلّ دائمًا تتطلّع إليه، تسعى لإرضائه، وتبقى بجانبه كأمر مسلّمٍ بهِ.
كان الأمر كذلك دائمًا.
حتّى عندما يوبّخها باستمرار، يقارنها بسيرافينا الجميلة، أو يهينها بشتّى الطرق.
كانت تبتسم ببلاهة وتتجاوز الأمرَ.
لذا كان مقتنعًا أنّ كلّ شيء في لاريت سيصبح ملكهُ يومًا ما…
‘لاريت، كيف يمكنكِ أن تفعلي هذا بي؟’
شدّ غريجوري قبضتهُ بقوّةٍ.
لمعَتْ عيناه بخيبةِ الأمل والخيانة.
كانت لاريت دائمًا إلى جانبهِ.
كالهواء الذي يتنفّسه، كالماء الذي يشربه يوميًا.
لكن في هذه اللحظة.
…بدا له أنّ لاريت أمامهُ بعيدةٌ جدًا.
ترجمة : مريانا
التعليقات لهذا الفصل " 46"