بعيونٍ ضبابية، كنتُ أتأمل الآنسة كلوديوس والدوق بالتناوب، قبل أن أتحرك وأؤدي انحناءةً رسمية بكل احترام.
“لاريت آنسي، أُحيّي الدوق كلوديوس.”
رمقني بعينيه الزرقاوين العميقتين، الباردتين كالجليد، قبل أن ترتسم على وجهه الوسيم ابتسامةٌ خفيفة.
على عكس ابتسامتهِ عند التعاملِ مع الأميرة، كانت هذه المرة ابتسامة دافئة.
“أخشى أنني تأخرتُ قليلًا.”
أفقتُ من شرودي على الفور وهززت رأسَي سريعًا.
“لا، على العكسِ، حضوركَ يُشرّفنا، دوق كلوديوس.”
“سماع ذلك يُسعدني. وبالمناسبة… هؤلاء هم؟”
تجاوزني بنظره قليلًا إلى الخلف، ثم حنى رأسه بتحية لطيفة.
“تشرفت بلقائكم، ديترِيش فون كلوديوس.”
وعند نهاية نظراته، كان والدَي واقفين هناك، متجمدين في أماكَنهم.
“آه…”
شعرتُ بغصة مفاجئةٍ في صدرِي.
‘الدوق… إنه يُراعي والدَي.’
بهذه البساطةِ، وبمجرد هذه اللفتة، أظهر للجميع في القاعة أن عائلة آنسي يحظون باحترامهِ وتقديرَه.
إنه دوق كلوديوس بنفسهُ من يُبادر بالتحية…
“د-دوق كـ-كلوديوس، إنه لشرفٌ عظيم أن نلتقي بكَ أنا الفيكونت آنسي.”
“إنها بحق لحظةٌ مهيبةٌ لنا.”
ردّ والدَي بتحيةٍ رسميةٍ، وإن كانت أصواتهما تحمل شيئًا من التوترِ.
لكنَ رُغم ذلك، بدا عليهما السرور الغامرُ.
ابتسم لهما الدوق مجددًا، قبل أن يوجه نظره إليّ هذه المرة.
“آنسة آنسي.”
“نعم؟”
استجبتُ فورًا، وشعرتُ بتوترٍ خفيف في صدريِ.
عندها، مدّ الدوق يده نحوي بأدب جمّ.
“إن لم يكن لديكِ مانعٌ، هل تتكرّمين بمراقصتَي؟”
“…”
في تلكَ اللحظةِ…
شعرتُ بشيءٍ دافئٍ يتفجرُ في داخلِي، يغمَرُ صدري بالكاملِ.
قاعةُ الاحتفالاتِ هَذه…
رغم أنها جزءٌ من منزلنا، لم تحملَ لي يومًا ذكرى سعيدةً.
كل ما كنتُ أفعله هنا هو التراجع في الظل، أراقب الآنسة سرافينا وهي تتألق وسط الأنظار، أو ألبي احتياجات غريجوري بحذر…
لم يحدث أن كنتُ يومًا جزءًا حقيقيًا من هذا المكان.
لكن الآن… الأمور اختلفتْ.
“يشرفني ذلك.”
وضعتُ يدي فوقَ يده بخفة.
وفي تلك اللحظةِ ، شعرتُ للمرةِ الأولى أنني لستُ مجرد ضيفةٍ في هذا المكان، بل أنني… صاحبتهُ.
“إذاً، لنذَهب.”
قال الدوق بابتسامةٍ رقيقةٍ، بينما كان يقودني برفق إلى ساحةِ الرقَص.
تقدّمتُ إلى قاعة الرقص، تحت إرشادهِ، بخطواتٍ ثابتة.
قبل ذلك بـ30 دقيقة – في قصر عائلة جوستو
كانت قاعة الاحتفال هناك… فارغة تمامًا.
“…”
“…”
بصمتٍ ثقيل، خيّم على المكان جو أشبه بجنازةٍ لا حفلة.
كان الحفل الصيفي السنوي بالنسبة لأسرة الكونت غوستو حدثًا بالغ الأهمية.
فحفلات موسم المجتمع عادةً ما تنظمها العائلات البارزة في كل منطقة، مما يُتيح فرصة للتباهي بمكانتها ونفوذها.
ولهذا، لم يدّخر الكونت أي جهدٍ في التحضيرات هذا العام، بل أنفق مبلغًا طائلًا لإنجاح الحفل.
لكن…
“توقعتُ أن تستقطب حفلة عائلة آنسي بعض الضيوف… لكن لم أتخيل أن يصل الأمر لهذا الحد.”
عضّت الآنسة سرافينا على شفتيها بانزعاج.
“لم أكن أدرك أن اسم دوقية كلوديوس يتمتع بكل هذه الهيبة.”
لم يكن هناك ضيوف… على الإطلاق.
الموسيقيون، الذين جُلبوا خصيصًا لإحياء الأمسية، كانوا متجمعين في الزوايا، مترددين في لمس أدواتهمِ الموسيقية.
الأطباق الفاخرةُ، التي استُثمرت فيها ثروة، كانتَ تُركن هناك، تُصاب بالبرودة شيئًا فشيئًا.
حتى أن القاعة نفسها بدأت تشعر وكأنها كئيبة أكثر مما ينبغي.
“لا يمكن أن يستمَر هذا الوضع.”
خفضت الآنسة سرافينا نظرها نحو يدها، حيث كانت تمسك بطاقة دعوة راقية.
إنها… الدعوة التي تلقتها من عائلة آنسي.
من الناحية الرسمية، كان إرسالها لائقًا، فالعائلتان متجاورتان، وكانت هناك محادثات زواج بينهما في الماضي.
لكن…
أطبقت أصابعها على البطاقة، حتى برزت عظام يدها البيضاء.
“كم هذا مهينٌ.”
كانت تدركَ تمامًا نوايا الطرف الآخر.
فهي نفسها اعتادت على استخدام أسلوب مماثل، ترسل دعواتها إلى من ترغب في إزعاجِهم عمداً.
لكن رغم ذلك…
“لا يمكنني الجلوسُ مكتوفةَ الأيدي هكذا.”
الآن، في قصر عائلة آنسي، كانت نُخبة المجتمع الأرستقراطي بأكملها مجتمعة.
ولا يمكنها السماح لنفسها بأن تُهمَّش بهذا الشكل.
أخذت نفسًا عميقًا، ثم التفتت إلى غريجوري، مخاطبةً إياه بصوتٍ ناعمٍ لكنه محمّل بالعزم.
“غريجوري، لدينا حفلة لحضورها.”
“أنا… ؟”
رفع غريجوري نظره من مقعده، حيث كان يهز ساقه بتوتر، وألقى نظرةً سريعةً نحوها.
ابتسمت سيرافينا بأقصى ما يمكنها من لطف.
“سأتوجه إلى حفلِ عائلةَ آنسي.”
لطالما كان غريجوري يرضخ لأي شيء تقوله سيرافينا، لم يعتَرض أو يرفضُ لها طلبًا ولو لمرة واحدةٍ.
لذا، افترضت أن الأمر سيكون كذلك هذه المرة أيضًا.
لكن…
“ماذا؟!”
كانت مخطئةً تمامًا.
اتسعت عيناه، وقام من مقعده بغضب واضح.
“سيرا، ما الذي تقولينه؟ هل تدركين حتى ما تفوهتِ به الآنَ؟”
حدّقت به سيرافينا بدهشة، غير قادرةً على استيعاب الموقف.
غريجوري اللطيف الهادئ، الذي اعتادت عليه دائمًا، لم يكن موجودًا الآن.
ذلك الوجه المتجهم المليء بالغضب… لم ترَه منه من قبل.
ارتبكت، وتلعثمت قليلًا.
“غـ-غريجور، اهدأ فقطَ…”
“هل تنوين الذهاب إلى حفل عائلة آنسي بدوني وكأنك مجرد متفرجةٍ؟!”
كانت عيناه الحمراوان متقدتين بغضب وهو يحدّق بها.
“أتعرفين من السبب في كل ما يحدثُ الآن؟!”
نعم، لقد كان محقًّا.
حضور الآنسة كلوديوس المفاجئ لحفل عائلة آنسي… كان بالكامل بسبب سيرافينا.
لو لم تقم بإثارة لاريت بلا سٍبب، لما ساءتَ الأمور إلى هذا الحدِ.
كانت النيران تتأجج في صدر غريجوري، فصرخ بغضبٍ.
“أتعلمين حجم الضغط الذي أتعرض له من العائلةِ؟!”
“غريجور، أنا…”
“هل لديكِ فكرةٌ عن مدى غضِب والدي عندما علمَ بالأمر؟!”
قبض يده بإحكام، وارتجف كتفاه من شدة الغضب.
“لقد أمرني بفعل أي شيء ممكن لتحسين علاقتنا مع عائلةِ كلوديوس!”
نعم… كان غريجوري تحت ضغط لا يُحتمل.
لاريت، التي كانت دومًا مطيعة وهادئة، انقلبت فجأةً وأعلنت فسخ خطوبتها به.
وعائلة جوستو بأكملها لم تتلقَ أي دعوة إلى صالون عائلة كلوديوس.
لم تصرح دوقية كلوديوس علنًا بسبب هذا الإقصاء، لكن…
“أليس لأنك أفسدتِ علاقتكِ مع تلكَ الفتاة، لاريت؟!”
كان الكونت جوستو قد صرخ غاضبًا، صوته يصدح في القصر.
“سمعتُ أن تلك الفتاة مقربة من الآنسة كلوديوس، وإن كانت الآنسة قد فعلتَ ذلك دعمًا لها…”
طاخ!
بقبضة غاضبة، ضرب الكونت مسند الكرسي بقوة.
“كيف تنوي حلّ هذه المشكلةَ؟!”
بسبب كل هذا، كان غريجوري يعاني من ضغطٍ هائل.
والآن، سيرافينا، التي كانت السبب في هذه الفوضى كلها، تقول إنها ستتخلى عن حفل عائلة جوستو؟!
“يبدو أنه غاضب حقًّا…”
أدركت سيرافينا الموقف بسرعة، وهزت كتفيها بضعف مصطنع.
“أ-أنا آسفةٌ، لم أقصد أن أضايقك…”
“إن لم يكن ذلك قصدكِ، فماذا كان إذًا؟!”
“فقط… سمعتُ أن حفل عائلة آنسي يزدهر، وأردت أن أفهم السَبب…”
خفضت صوتها تدريجيًا، ثم رفعت بصرها لتراقب ردّ فعله بحذرٍ.
“إن كنا نعرف ما يجعل حفلهم ناجحًا، فيمكننا الاستفادة منه في حفلاتنا القادمة، أليس كذلك؟”
“…”
“كل ما أفعله، أفعله من أجلكِ…”
أغمض غريجوري عينيه للحظةٍ، ثم فتحهما ببطء.
كان رأسه يغلي من التفكير.
في الحقيقة، لم يكن هناك لغز حول سبب ازدهار حفل عائلة آنسي…
لقد كان السببُ واضحًا.
وجود الآنسة كلوديوس هناكَ ، هذه وحدها كانت كافية لجذب الجميع.
لكنه لم يستطع أن يواصل الصراخ في وجه سيرافينا، ليس وهي ترتجف أمامه بهذه الطريقة.
“إذًا، سأذهب معكِ.”
“ماذا؟”
في تلك اللحظة، انقبض جبين سيرافينا للحظة وجيزةٍ، قبل أن تعودَ ملامحها إلى طبيعتِها.
التعليقات لهذا الفصل " 45"