ردود فعل الحاضرين على تحيتي جاءت متباينةً
“آه… حقًا؟ آنسة آنسي؟”
نظرات الدهشة تملأ وجه إحدى السيدات النبيلات، وعيناها معلقتان بي في ذهول.
“يا لها من حفلةٍ رائعة! تليق بحضور الآنسة كلوديوس.”
نبيل آخر، يولي اهتمامًا بالغًا بوجودها أكثر من أي شيء آخر.
“أأنا… حقًا أمام آنسة آنسي؟ هذا… لا، لا شيء.”
شاب نبيل، مأخوذ تمامًا بما يرى، يكاد يطرح سؤالًا وقحًا ثم يعود لرشده في اللحظة الأخيرة.
لكن ذلك لم يكن كل شيء.
“أهذه حقًا آنسة آنسي؟!”
صدى الهمسات يتردد خلف مراوح الحرير وكؤوس الشمبانيا المتلألئة.
كان الجميع يتوقع أن تكون الأضواء مسلطة بالكامل على الآنسة كلوديوس…
لكن، وعلى غير المتوقع، كنت أنا موضوع أحاديثهم أكثر مما تخيلت.
“يا إلهي! لم أرها متأنقةً بهذا الشكل من قبل!”
“طالما كانت ترتدي ألوانًا قاتمة كغرابٍ أسود…!”
“لطالما طغى جمال آنسة لوبيز على الجميع، لكن الآن… بعد أن تزينت آنسة آنسي، تبدو مذهلةً بحق!”
تجاهلت تلك الهمسات بصعوبة، كأنني لم أسمعها.
لكن شيئًا واحدًا فقط راقني في كل هذا.
“كونتيسة آنسي! آنسة آنسي تبدو فاتنة بحقٍ، ما سر ذلك؟”
“شعرها ينسدل بنعومة رائعة! هل لديكِ سرّ معين؟ أود تجربة الأمر على ابنتي!”
في وسط هذا الحشد، رأيت والدتي محاطةً بصديقاتها، وكتفاها مشدودتان بثقٍة نادرًا ما رأيتها بها.
أما والدي…
“أيها الكونت آنسي، لا بد أنك أنفقت مبلغًا كبيرًا على فستان ابنتك!”
“هاه! وهل كنتُ لأبخل على ابنتي الوحيدة؟!”
ضحك بصوت عالٍ، بفخر لم يخفه أبدًا أمام أصدقائهِ.
كانا دائمًا قلقين بشأن ابنة لم تكن يومًا كافيةً في أعين المجتمع…
لكن هذه المرة، رأيتهما يبتسمَان بسببي.
راقبتُ هذا المشهد بارتياح دافئ في صدري.
“آنسة آنسي!”
ثم، بخطوات صغيرة سريعة، اقتربت مني الأميرة كلوديوس.
“أنتِ فاتنةٌ اليوم!”
تأملتني من رأسي حتى قدمي، ثم رفعت إبهامَها بفخر طفولي.
“هكذا يكون الصديقُ الحقيقَي!”
“أنا ممتنةٌ لكِ، آنسة كلوديوس.”
أجبتها بأدب، لكن فجأة، أدارت رأسها بمرح وسألتني بخبث.
“إذن، من هو العبقري الذي تولّى تجميلكِ اليومَ؟”
ابتسمتُ، وبتصنعٍ متقن، رفعت صوتي قليلًا ليصل إلى مسامع الجميع.
“بالطبع، إنه لا أحد سوى الأميرة التي تقود صيحات الموضة في المجتمع الإمبراطوري، الأميرة كلوديوس نفسها!”
ضحكت الأميرة ضحكةً رنانة، وكأنها تتذوق كلمات المدح التي سكبتها عليها بسخاء.
عندها، وقعت عيناها على طاولة الضيافة، حيث استقرت مجموعة من البسكويتات الفاخرة.
“آه! هذا البسكويت من نوعي المفضل!”
وبحماس طفولي، هرولتْ نحو الطاولة.
بدت تمامًا كقطة صغيرة متحمسة لرؤية وَجبتها المفضلة…
“كم هي ظريفةٌ.”
ابتسمتُ دون وعي، مستمتعةً بمشاهدتَها.
لكن في تلك اللحظة، وقف أمامي رجل.
“آنسة آنسي.”
هم؟
رفعتُ بصري نحوه.
كان يبتسم بثقة، ويمدّ يده نحوي بلباقة.
كانت هذه دعوة للرقص، وفقًا لأعراف السادة النبلاء.
“أتسمحين لي بشرف هذه الرقصة؟”
“…”.
حدّقتُ بصمت في يده الممتدة نحوي.
“اسمه… فيليب تود، أليس كذلك؟”
فيليب تود.
وريث عائلة البارون تود… وأحد أتباع سيرافينا المخلصين.
لم يكن قد منحني أي اهتمام من قبل، ولا حتى بنظرة عابرة…
“يا لها من مفاجأةٍ.”
لطالما كنتُ زهرةً منسيةً على جدار القاعة.
الراقصَة التي تتهافت عليها الدعوات كانت دومًا سيرافينا.
أما أنا، فكنت الظل الذي يعزز تألقها، بردائي القاَتم وكتفيّ المنحنيين.
حتى خطيبي، غريطوري، لم يمدّ يده سوىَ لسيرافينا…
لكنني اليوم، أنا من تُدعى للرقِص.
ولكن…
“هل يُفترض أن أكون ممتنةٍ لهذا؟”
رفعتُ بصري ببطء، متأملة وجهه.
ورأيتُه.
“من الطبيعي أن تقبلي دعوتي، أليس كذلك؟”
هذا ما قرأته في نظرته الممتلئة بغرورٍ مزعج.
عندها، قررتُ.
“أنا آسفة.”
“ماذا؟!”
بدا الذهول مرسومًا على ملامحه، كما لو أن فكرةَ رفضي لم تخطَر بباله أبدًا.
لكنني لم أكن أنوي التراجعَ.
“لطالما رفعتَ سيرافينا فوق الجميع، أليس كذلك؟”
كنتُ أتذكرُ بوضوحٍ.
تلك النظرة التي رمقني بها ذات يوم، حين طلب من سيرافينا الرقص، وكأنه يقيمّني بازدراء.
“آنسة لوبيز مع آنسة آنسي معًا؟ إنها أشبه بمقارنةِ الجميلةُ بالوحشِ!”
كان ذلك صوت سخريةٍ مرتفعً، موجّهًا نحو أصدقائه، يردد كلماته دون خجل.
…ولم يكتفِ غريجوري بعدم ردعه، بل كان يضحك معه أيضًا.
“آنسة آنسي!”
وفي اللحظة نفسها، أطلت الآنسة كلوديوس برأسها نحوي، تقطع ذلك الموقف كأنها لمحتْ فريسةً على وشك السقوط.
” آ-آنسة ك-كلوديوس ؟”
ارتبك اللورد تود للحظة، ثم هرع إلى تعديل ملامحه المتجهمة.
فكيف يجرؤ على إظهار امتعاضه أمام الابنة الوحيدة لعائلة دوق كلوديوس؟
يا لهذه الهيبة العظيمة، كم كانت محبّبةً في هذه اللحظة!
“أعتقد أنني أفرطت في تناول الحلويات، أشعر بالعطش.”
قالت الآنسة كلوديوس بلطف ماكر، متشبثةً بي كقطةٍ مدللة.
“هل أجلب لكِ كوبَ عصيرٍ؟”
“تجلبينَ لي؟ لا حاجة لذلكَ، يمكننا الذهاب معًا.”
قالت بمرح، ثم أمسكت بذراعي علنًا، دون أدنى تحفظ.
وبعينين باردتين، ألقت نظرة جانبية على اللورد تود، الذي كان لا يزال واقفًا متخشبًا في مكانهِ.
“بهذا، سأستعير آنسة آنسي لبعض الوقت، حسنًا؟”
“….”
ولم تمنحه فرصةً للردِ، فقد جذبتني معها على الفور، تاركةً إياه متجمّدًا بلا حراك.
‘هه… كم هو ممتعٌ الشعور بقوةِ النفوذ.’
ما إن ابتعدنا عنه قليلًا، حتى اقتربت مني الآنسة كلوديوس وهمست بحماس.
“أحسنتِ صنعًا برفضه! كيف لوجهٍ بائسٍ مثله أن يتجرأ على الاقتراب من صديقتي؟”
“هاه.”
كتمتُ ضحكتي، ضاغطةً على أسناني كي لا أنفجر ضاحكة.
في الحقيقة، لم يكن اللورد تود سيئ المظهر إلى ذلك الحد.
كان مجرد رجلٍ عادي.
لكن الآنسة كلوديوس رفعت كتفيها بلامبالاة وكأنهاَ لم تقل شيئًا غير منطقي.
“أليس كذلكَ؟ لا يمكنني تحمّل رؤية رجل أقل وسامةً مني يقف بجوار صَديقتي!”
آه… إذن، هي كانت المقياس الجمالي هنا؟
حسنًا، إذا كان مقياس الجمال هو وجهها، فبالفعل… معظم الرجال بالكاد يستحقون النظر إليها..
في هذه الأثناء، تنهدَت الآنسة كلوديوس بتململ، وهي تضرب الأرض بقدمها الصغيرة.
“لماذا يتأخر هكذا؟”
تساءلت بصوتٍ منخفض، وكأنها تتحدث إلى نفسها.
‘من هو الذي تنتظره؟’
راودني فضول خفيف، لكنني لم أملك وقتًا للتفكير فيه.
لأن المشهد في قاعة الاحتفال تغيّر فجأة.
“ه-هل ر-رأيته-هـه؟”
“إنها الشارة على العربة…!”
بدأت الضوضاء تعمّ المكان من عند المدخل.
‘من القادمُ يا ترى؟’
استدرت بحذر، لكنني لم أحتج سوى للحظة لأفهم سبب هذه الفوضى المفاجئة.
“إنها شارة دوقية كلوديوس!”
أصوات الدهشة ملأت القاعة، وعيوني اتسعَت بذهول.
“هل يعقل… أن يكون الدوق نفسُه قد جاء؟”
انقلبت القاعة رأسًا على عقب.
“يا إلهي! دوق كلوديوس حضرَ بنفسه إلى حفل عائلة آنسي؟!”
“هل أتى لرؤية الآنسة كلوديوس؟”
“هذا يعني أن شخصين من العائلة الدوقية حاضران الآن!”
“لم أكن أعلم أن عائلة آنسي لديها صلة وثيقةٌ بعائلةِ كلوديوس!”
وفي تلكَ اللحظةِ، دخل رجلٌ إلى القاعةِ.
كان المشهد أشبه بلوحةٍ مرسومة بعناية.
لو تجسدت كلمة “أرستقراطي” في هيئة إنسانٍ، لكان هذا الرجل هو التجسيد المثالي.
شعر بلاتيني فاتح، مصفف بعنايةٍ.
بدلةٌ أنيقةٌ تفصّلت على جسده كما لو أنها خرجت من كتالوج لأرقى المصممين.
وقفة مستقيمة، ونظرات تنضح بالثقة المهيبة.
إنه هو… دوق كلوديوس.
‘لقد جاء… حقًا؟’
لم أستطع إلا أن أحدقَ بهِ بدهشةٍ.
في اللحظة ذاتها، انطلقت الآنسة كلوديوس نحوه كعصفورٍ صغير وجد ملاذه.
“أخي!”
نظرت إليه بتقطيبة خفيفة، وكأنها تلومه على أمرٍ مَا.
“لماذا تأخرت؟ كنتُ بانتظاركَ!”
“….”
“كيف تجرؤ على جعل آنسةٍ مثلي تنتظرُ؟ هذا لا يليق بسلوكِ النبلاء!”
“….”
أوه، يبدو أن الدوق كان على وشكِ أن ينفجرَ بالكلمات التيَ يريد قولها.
شدّ على فكه للحظة، قبل أن يضيقَن عينيه بابتسامةٍ باهتة.
وبصوتٍ منخفض لكنه قاطع، قال:
“علينا أن نتحدث لاحقًا، حسنًا؟”
اتسعت عينا الآنسة كلوديوس فجأة، وكأن زلزالًا أصاب نظراتها.
“مـ-ماذا؟ أي حديثٌ؟ لا يوجد شيء لأتحدث عنه معكَ!”
“لكن… لديّ الكثير لأقولهُ لكِ.”
أجابها الدوق بصوتٍ جازم لا يقبلُ النقاشَ.
‘هل يمكن أن تكونَ قد ورطت ْنفسَها في مشكلةٍ جديدة؟’
التعليقات لهذا الفصل " 44"