“انتهيتُ!”
صرخت الأميرة بصوتٍ مبهج، وهي ترفع ورقةً في الهواء بفرحة غامرةٍ.
كانت تلك ورقة طلب الزهور التي سيتم تزيين الحفلة بها.
“آنسة آنسي ! انظري! لقد أنجزتُ طلب الزهور بالكامل!”
لوّحت بالورقة في الهواء بحماس، وكأنها لا تستطيع الانتظار لرؤية ردة فعلي.
ابتسمتُ وأنا أمدّ يدي لآخذ الورقة منها.
“أحسنتِ، لنلقِ نظرة.”
تصفحتُ المستند بسرعة، ثم ابتسمتُ برضى.
“ممتاز، لقد نجحتِ!”
“يااااهو!”
قفزت الآنسة فرحًا، وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة مشرقة.
بالفعل، مهارتها في التعامل مع الأوراق الرسمية تحسّنت كثيرًا.
شعرتُ بفخر غريب، يشبه ذلك الإحساس الذي يراود المرء عندما يرى شقيَقته الصُغرى تكبر أمامه.
لكن قبل أن أعلّق على الأمر، رفعت الآنسة قبضتيها بحماس وعزيمة.
“انتظري فحسب، آنسة آنسي ! سأحرص على أن يكون أول شريكٍ لكِ في الرقصة هو شقيقي!”
ضحكتُ بتوتر.
“هاها… حسناً.”
في الحقيقة، كان من الطبيعي أن تحلم جميع سيدات المجتمع الراقي بالرقصة الأولى مع دوق كلوديوس.
فهو الرجل الذي اجتمع فيه النسب الرفيع، والوسامة الطاغية، والثروة الهائلة، والسلطة المطلقة.
إنه أشبه بأمير خرجَ من صفِحات قصةٍ خيالية.
لكن…
“مستحيل أن يحضر الدوق، أليس كذلك؟”
بدا الأمر غير منطقي.
فهو رجل مشغول للغاية، ولم يأتِ إلى إقليم آنسي إلا من أجل العمل.
لا يمكن لأحد أن يتوقع حضوره لمجرد نزوة من شقيقته.
كما أن وقته أثمن من أن يُهدر في مثل هذه الأمور…
بينما كنتُ أفكر بهذه الطريقة، فوجئتُ بالأميرة تنهض فجأة من مقعدها.
“أنا سأخرج قليلًا!”
رفعتُ رأسي نحوها بدهشة.
“تخرجين؟ إلى أيَن؟”
ارتبكتْ للحظةٍ، ثم أظهرت ابتسامة غامضة.
“سرّ!”
“ماذا؟”
“سأعود سريعًا، لذا لا تقلقي!”
قالت ذلك قبل أن تندفع خارج الغرفة بسرعة غير متوقعة.
حدّقتُ في أثرها بذهول.
“لما هَذه العجلة؟”
وبينما كنتُ لا أزال مستغرقة في أفكاري، سمعتُ صوتًا مألوفًا يناديني.
“لاري.”
التفتُ بسرعة، فرأيتُ والدتي تطل برأسها من خلف باب الصالة.
“أمي؟”
دخلت إلى الغرفة بخطوات هادئة، وعيناها تجولان حول المكان.
“أين ذهبت الأميرة؟”
“خرجت قليلًا، لكنها ستعود قريبًا.”
أومأت أمي برأسها، ثم نظرتْ إليّ بتمعّن قبل أن تقول بصوتٍ يشوبه بعض التلميح:
“لكن يا لاري… هناك أمر مهم لم تخبريني به بعد، أليس كذلك؟”
شعرتُ بقشعريرة خفيفة تسري في ظهري.
“ماذا تعنين؟”
ضيّقت أمي عينيها وهي تسأل بجدية:
“كيف أصبحتِ صديقةً لآنسة كلوديوس؟”
آه…
في تلك اللحظة، شعرتُ بحبات العرق الباردة تتشكل على جبهتي.
“أم… حدث ذلك… هكذا فحسب.”
لم يكن بإمكاني أن أخبرها بأنني أصبحتُ صديقتها بسبب عقد بيننا!
لحسن الحظ، لم تكن هذه هي النقطة التي أراَدت التركيز عليها.
“لكن هذا رائع حقًا.”
“رائع؟ ماذا تقصدين؟”
ابتسمت أمي بلطف وهي تنظر إليّ بعينين دافئتين.
“يبدو أن الأميرة فتاة لطيفةٌ.”
رمشتُ بعدم فهم، فتابعت أمي كلامها بنبرة ناعمةٍ:
“على الرغم من مكانتها العالية، إلا أنها تبدو بسيطة وقريبة من القلب. أليس كذلكَ؟”
رغم أن أمي لم تُكمل عبارتها، فهمتُ تمامًا ما كانت تحاول قوله.
“هكذا إذن…”
لطالما كان والداي يواسيانني عندما كنتُ مع غريجوري وسيرافينا، قائلين:
“الأصدقاء يجب أن يتفاهموا جيدًا.”
لكنني لم أدركَ حينها…
بينما كنتُ أتنازل عن نفسي وأتقبل الإهانة لأكون معهم، كان قلبيهما يُثقل بالحزن.
كم مرة شعر والداي بالعجز عندما رأوا ابنتهما الوحيدة تُعامَل بتلكَ الطريقةِ؟
كم من الألم كتماه عندما أدركا أنني أتحمّل الإهمال وكأنه شيء طبيعي؟
لكن الآنَ
“أنا سعيدة لأن لاري وجدت صديقةً جيدةً.”
قالت أمي، وهي تضع يدها برفق فوق يدي، مداعبةً أصابعي بحنانٍ.
تأملتُ وجهها المبتسم، وشعرتُ بإحساسٍ دافئ يزحف إلى صدرِي.
رغبةٌ قويةٌ في طمأنِتها اجَتاحتنَي.
لذا، ابتسمتُ بحرارةٍ وقلتُ بصوتٍ واثق:
“لا تقلقي، أمي.”
“الآنسة ليست مثل غريجوري أو سيرافينا. إنها تعاملني بلطفٍ حقيقي.”
“أجل، حتى في نظر أمّكِ، يبدو الأمر كذلك.”
غير أن نبرة صوتها حملت شيئًا من الرطوبة الخفيفة، وكأن عاطفة ما تسكن بين كلماتها.
دون تفكير، قبضتُ على يدها برفق.
في تلك اللحظة، أدركتُ فجأة كم مرّ من الزمن منذ أن تشاركتُ معها مثل هذا القرب الحميمي.
كانت إيفانجلين تخطو عبر الممرات بخطوات ثقيلة، يتردد صداها مع كل خطوة.
“أيعقل أن يموت لو حضر حفلة واحدة؟ هل سيموت حقًا؟!”
كان لغضبها سبب وجيه.
فحتى هذه اللحظة، لم يصلها أي ردّ من شقيَقها العزيز!
لهذا، كانت عازمة على إرسال وابل من الرسائل لإزعاجه حتى يردّ عليها.
فقد أرسلت إليه بالأمس رسالة، ثم أرسلت أخرى هذا الصباح تُلحّ عليه بالإجابة.
أما حقيقة أن المرء عادة ما يمنحُ الطرف الآخر بعض الوقت للتفكير قبل الرد؟
فقد محتها تمامًا من عقلِها.
“انتظر فحسب! أتظن أنني سأستسلم بهذه السهولة؟!”
تلألأت عيناها الزرقاوان بشرارةٍ من التحدّي.
فالأمر لم يعد مجرّد دعوة لحضور حفلة، بل بات مسألة كرامةٍ بالنسبةِ لهاَ!
إذ سبق أن أعلنتْ أمام لاريت، وهي تضرب صدرها بثقةٍ:
“الرقصة الأولى لآنسة آنسي ستكون مع شقيقي، ولا مجال للنقاش!”
كانت متأكدة من أن لاريت لو علمت بخطتها في قصف شقيقها بالرسائل، لمحاولة إجباره على الحضور، فستحاول منعها بكل تأكيد.
ولهذا السبب، لم تُخبرها بالأمر من الأساس.
“أيّ مزاج متعجرف هذا! إذا دعوته، فعليه أن يأتي فورًا، دون هذا التعنّت!”
وبينما كانت تغلي في داخلها، سمعت فجأة صوتًا يناديها.
“مولاتي!”
استدارت إيفانجلين بسرعة، فرأت إحدى الخادمات تنحني باحترام.
“لقد وصلتكِ رسالة، سيدتي.”
“مستحيل…؟!”
مدّت يدها بسرعة وخطفت الرسالة من يد الخادمة.
كان الغلاف يحمل توقيعًا أنيقًا مكتوبًا بخط مُحكم:
“ديتريش فون كلاوديوس.”
“إنها منهُ!”
اتسعت عيناها بفرحة غامرة، وسرعان ما فتحت الرسالة بعجلة.
وما إن قرأت محتواها، حتى أشرقت ملامحها.
“رائعٌ!”
كان عليها أن تخبر آنسة آنسي بهذا الخبر السعيَ. د على الفور!
دون إضاعة لحظة واحدة، أسرعت بالعودة إلى الصالة.
“آنسة أن…! هاه؟”
كادت تدفع الباب باندفاع، لكنها توقفت فجأة.
إذ تسلل إلى مسامعها صوت محادثة هادئة من الداخل.
“الأميرة تبدو حقًا فتاةً لطيفةً.”
توسّعت عينا إيفانجلين في دهشة.
“ذلك الصوت…؟”
إنها والدة لاريت، الكونتيسة آنسي .
“على الرغم من مكانتها الرفيعة، إلا أنها بسيطة وودودة للغاية. أنتِ تدركين ذلك، أليس كذلك؟”
ارتسمت ابتسامة دافئة على شفتي الكونتيسة وهي تنظر إلى ابنتها بحنان.
“أنا سعيدة لأن لاريت وجدت صديقةً جيدة.”
“لا تقلقي، أمي.”
هزّت لاريت رأسها برفق، وقالت بصوت واثق:
“الآنسة ليست مثل غريجوري أو سيرافينا. إنها تعاملني بلطف شديد.”
ابتسمت إيفانجلين تلقائيًا وهي تصغي إلى حديث الأم وابنتها.
كان هناك شيء لطيف في هذه المحادثة جعلها تشعر بالرضا والدفء في آنٍ واحد.
لكن كان هناك شيء آخر لفت انتباهها بشدة
“لاري.”
كرّرت الاسم في عقلها، متذوّقة وقعه.
الكونتيسة، بل حتى غريجوري وسيرافينا، جميعهم ينادون لاريت بهذا الاسم.
“لكنني صديقتها أيضًا! بل لدينا عقد صداقة رسمي!”
عبست شفتيها بضيق طفوليِ.
“متى سيحين الوقت لأتمكّن من مناداتها بهذا اللقب أيضًا؟”
وأخيرًا، حلّ يوم الحفل.
كان قصر الكونتية قد فتح قاعة الاحتفالات للمرة الأولى منذ مدة طويلة، وكان المشهد أشبه بحديقة صيفية زُرعت داخَل القاعة.
امتلأت الأرجاء بزهور رائعة الجمال، جرى تنسيقها بعناية فائقة وفقًا لاختيارات الآنسة.
كان كل شيء يلمع ببريق فاخر من الشمعدانات الفضية المصقولة بعناية، إلى أدوات المائدة اللامعة التي تعكس صورة من يتأملها.
أما الثريا العملاقة المتدلّية من السقف، فقد بثّت في القاعة وهجًا دافئًا ساحرًا.
وفي وسط كل هذا المشهد المبهر، كنتُ أنا.
واقفةً باستقامة، أحيي الضيوف القادمين بابتسامة هادئة ولباقة.
“نشكركم لحضوركم حفل عائلتنا. إنه لمن دواعي سرورنا استضافتكم اليوم.”
ثم انحنيتُ برشاقة، وأنا أرى أمامي ليلة طويلة ومثيرةً تنتظر أن تبدأ…..
التعليقات لهذا الفصل " 43"