تحت سماء مكفهرة،
تساقط الثلج الأبيض كالفراشات الميتة.
عالم مشكّل بالكامل من ألوان باهتة بلا حياة.
ديتريش، في العاشرة من عمره، نظر إلى النعش الأسود الموضوع في الحفرة بوجه خالٍ من التعبير.
“يا إلهي، من كان يتوقع أن يرحلَ الدوق هكذا.”
“ما الذي يحدث في عائلة الدوقية بحق السماء…”
همس المعزون، مرتدين ملابس سوداء، بأصوات خافتة.
“إذن، لم يبقَ من الخط المباشر لعائلة كلاوديوس سوى هذين الاثنين؟”
“يبدو كذلك.”
“الدوق الصغير والآنسة إيفانجلين، كلاهما صغيران جدًا…”
تظاهر ديتريش بأنه لا يسمع همهمات المعزين،
وأجبر نفسه على تقويم ظهره أكثر.
‘لا يجب أن يستخفَ بي أحد.’
كان يعزز عزيمته داخليًا.
اليوم كان جنازة والدٓه.
توفي والداه بفارق أسبوعين.
لم يعرف حتى سبب وفاتهما.
كل ما كان لديهم هو التخمين بأنه ربما مرض معدٍ لم يُحدد بعد.
لكن،
“…”
عض ديتريش شفتيه حتى سال الدم.
‘إذا كان مرضًا معديًا، فلماذا توفي والدي ووالدتي فقط؟’
‘لماذا أنا وإيفانجلين، والخدم الآخرون، جميعنا بخيرٍ؟’
فتشت أسئلة لا حصر لها عقله بعنفٍ.
وفي نهاية هذه الأسئلة…
‘أمي، أبي.’
لن يتمكن من رؤيتهما بعد الآن.
صوت والده الصارم لكنه دافئ،
وضحكة والدته كالعندليب،
لن يسمعهما أبدًا.
الآن، عليه أن يصمد بمفرده بطريقة ما…
ضغطت مسؤوليةً ثقيلةً على كتفيه.
في تلك اللحظة،
أمسكت يد صغيرة بطرف ثوبه بحركة خجولةٍ.
نظر ديتريش إلى صاحبة اليد بنظرة حائرة.
‘إيفانجلين.’
كانت أخته الصغيرة، البالغة من العمر ست سنوات فقط.
“أخي…”
كانت عيناها الزرقاوان مليئتين بالخوف.
“تعالي، إيفا.”
أمسك ديتريش يدها بقوة.
جسدها الهش.
عيناها الدامعتان.
عائلتهُ الوحيدة المتبقية في هذا العالم.
انحنى ديتريش ليلتقي بعيني إيفانجلين.
مد يده، ومسح دموعها بطريقة خرقاء.
“لا تبكي، حسنًا؟”
“حسنًا…”
أومأت إيفانجلين برأسها وهي تشهقُ.
لكن في تلك اللحظة،
نادى رجل ديتريش:
“ديتريش.”
“…”
أمسك ديتريش يد إيفانجلين بقوة،
ونظر إلى الرجل بحذر.
كان ماركيز إيفانز.
أخو والده، أي عم ديتريش.
كان من المفترض أن يكون بدون لقب،
لكن الدوق السابق من كلاوديوس أظهر لطفًا لأخيه،
وتنازل له عن لقب ماركيز إيفانز من بين ألقاب العائلة.
“هل أنت بخير؟ لا أعرف كيف أعزيكَ…”
نظر الماركيز إلى الأخوين بحزنٍ، ثم ابتسم بلطفٍ:
“لذا، هل يمكنني الاعتناء بكما مؤقتًا؟”
“الاعتناء بنا؟”
“نعم. فقط حتى تبلغ سن الرشد، ديتريش، بشكلٍ مؤقت.”
نبرته بدت وكأنه يهتم بالأخوين حقًا.
“هناك أمور يسهل على الكبار التعامل معها.
حتى ذلك الحين، سأتولى الأمور المعقدة…”
لكن عيني الماركيز كانتا تلمعان برغبةٍ لم يتمكن من إخفائها.
واجه ديتريش تلك العيون المشبوهة،
واتخذ قرارًا.
‘إيفا.’
زادت قوة قبضته على يد أخته.
‘يجب أن أحميها.’
تحدث ديتريش ببرود:
“اللقب خاطئ، سيدي الماركيز إيفانز.”
“ماذا؟”
“ليس ديتريش، بل دوق كلاوديوس الصغير.”
واصل ديتريش كلامه بوضوح إلى الماركيز المذهول:
“حتى الآن، تحملتُ حديثكَ غير الرسمي نظرًا لعلاقتنا العائلية كعم وأبن أخ.”
رفع ديتريش ذقنهِ قليلاً:
“لكن بما أنني سأرث لقب دوق كلاوديوس الآن، أعتقد أنه يجب عليكَ مخاطبتي باحترامٍ.”
“ديتريش!”
رفع الماركيز صوته فجأة،
لكن ديتريش لم يرف له جفن.
“سأتغاضى عن وقاحتكَ هذه المرة فقط، سيدي الماركيز.”
“كيف تجرؤ على معاملتي هكذا!”
احمر وجه الماركيز غضبًا.
“أنا عمك، كنتُ أفكرُ في مصلحتكَ!”
لكن ديتريش رد بهدوء:
“من يفكر في مصلحتي، يرفع صوتهُ في جنازةِ والدي؟”
“…”
أدرك الماركيز خطأه ونظر حوله.
كان المعزون ينظرون إليه وإلى ديتريش بعيون متسعةٍ.
حاول الماركيز إخفاء ارتباكه،
لكن جهوده باءت بالفشل بكلمة واحدة من ديتريش:
“وعلاوة على ذلك، قلتم إنكم ستعتنون بنا…”
هز ديتريش رأسه بحزم:
“لا حاجةَ لذلك.”
احمرّت رقبة الماركيز:
“اللعنة!”
تمتم الماركيز بلعنة وغادر بغضب.
في الوقت نفسه،
اندفع المقربون الآخرون نحو الأخوين:
“سيدي الدوق الصغير!”
“ما الذي يحدث…”
في تلك اللحظة، سألت إيفانجلين بحذر:
“أخي، هل أنتَ بخير؟”
كان ذلك لأن يد أخيها، التي تمسك بها،
كانت ترتجف بعنفٍ.
ابتسم ديتريش وأومأ:
“بالطبع.”
“حقًا؟”
“نعم.”
أجاب، وأمسك طرف ثوبه بقوة.
كان يحاول كبح ارتعاشَ يده.
أخته الوحيدة، التي تربطه بها الدم.
سكان أراضي دوقية كلاوديوس العديدين.
الخدم الذين يعملون تحت اسم كلاوديوس.
والشركات المختلفة.
‘يجب أن أتحمل مسؤوليتهم.’
عض ديتريش على أسنانه بقوة.
يجب أن يصبح دوقًا عظيمًا.
لمنع أي شخص من الاقتراب من دوقية كلاوديوس.
في الأرض التي ورثها من والديه، والتي ستعيش فيها أخته في المستقبل،
يجب ألا يطمع أحد…
لذا،
‘لا يجب أن أثقَ بأحد.’
اشتعلت عيناه الزرقاوان بحدة.
‘أنا الوحيد ، يمكنني أن اثقَ بنفسيَ فقط.’
الثلج الأبيض الذي يتساقط بصمت ابتلعَ كل شيء.
ابتسامة ديتريش، دموعه، براءة طفولته.
في ذلك اليوم، مع الثلج المتساقط كالفراشات الميتة…
ذاب كل شيءٍ واختفى.
* * *
كأنني غارقٍ في أعماق الماء، كانت أذناي مسدودتين.
كانت جفنيّ ثقيلتين كأن عليهما أوزان،
وجسدي مبللًا كالقطن المشبع بالماءِ.
فكرتُ أنني أريد النوم إلى الأبد هكذا.
‘ما هذا؟’
لمس شيء بارد ورطب جبهتي الحارة.
‘…منعش.’
مر الشيء المنعش على جبهتي عدة مرات،
ومسح خديّ وذقني بعناية.
كان شعورًا لطيفًا.
كيف أقول، كأن أحدهم يعتني بي هكذا للمرةِ الأولى منذ زمن طويل.
أو بالأحرى، منذ وفاةِ والديّ.
مهما حاولتُ إخفاء ضعفي، كنتُ أتناول الدواء بمفردي وأصمد.
لكن لم يعتنِ بي أحد هكذا من قبل…
‘من هذا؟’
في الوقت نفسه، رفع ديتريش جفنيه بصعوبة.
عبر رؤية ضبابية، ظهر وجه شخص ما يرتجفٍ.
ملامحُ أنيقةٌ ورموشٌ طويلةً.
وعينان ورديتان تنظران إليّ بقلقٍ.
” …سيدي!”
صوت يتردد كأنه قادم من تحت الماء.
“سيدي الدوق، هل أنتَ بخير؟!”
مع هذا الصراخ، عاد وعيي فجأة كأنني سُحبت من الماء.
“الآنسة… آنسي؟”
“نعم، أنا هنا.”
أمسكت لاريت المنشفة المبللة بكلتا يديها،
ونظرت إليّ بوجهٍ يكاد يبكي.
“هل تعلم كم أفزعتَ الآنسة إيفانجلين عندما انهرتَ هكذا؟”
ثم عضتَ شفتيها وتمتمت:
“…وأنا أيضًا.”
التعليقات لهذا الفصل " 104"