“لوبيون، هل يمكنني الاطلاع على ذلك الكتاب القديم هناك؟.”
فما كان منه إلا أن مدّ يده إلى الكتاب ذي الغلاف البني الداكن، ومسحه برفقٍ من الغبار، ثم قدّمه لها. تناولته منه بأصابعٍ ترتجف قليلًا، وبدأت تقلب صفحاته الصفراء ببطء. كانت الكلمات القديمة باهتةً بالكاد تُرى.
“…!”
وبمجرد أن رأت الرسوم في الصفحات الأولى، تأكد لها أنّ هذا هو المجلد الذي بحثت عنه منذ قدومها. أشرق وجهها للحظة، لكن لم تلبث ملامحها أن خبت تدريجيًا.
‘ما… ما هذا؟.’
الكتاب، السبب الرئيس الذي جعلها تأتي إلى الشمال، كان مكتوبًا بحروفٍ لا تستطيع فهمها.
بالطبع، لم أكن أتوقع أن يكون الأمر سهلًا.
تنهدت بعمق، وأعادت المذكرات إلى الطاولة.
قال لوبيون بنبرة جافة كسرت الصمت:
“يبدو أنه مكتوب بلغة الديلفانيان.”
“…!”
اتّسعت عيناها وهي تنظر إليه ثم إلى الكتاب.
“أأنت تعرف هذه اللغة؟.”
“إنها شفرة عسكرية قديمة كانت تُستخدم لحفظ الأسرار.”
وبصفته تلقّى دروسًا كوليّ العهد في ذلك الوقت، كان لوبيون ملمًّا بتلك اللغة. كانت إيلينا قد سمعت عن مملكة ديلفانيا، التي أقامت تحالفًا قديمًا مع إمبراطورية فالديون، ثم اندثرت، ولم يبقَ من آثارها سوى قليلٍ من كتبها، غالبًا داخل العائلة الإمبراطورية.
وقادها هذا إلى فكرة مفاجئة:
‘إن استطعت إقناع لوبيون، فقد أفكّ الشفرة بسرعة.’
لكن علاقتهما لم تكن قريبة إلى الحدّ الذي يسمح لها بالطلب المباشر. وبينما تفكّر في كيفية طرح الأمر، أخذت تتفقد محتويات الخزنة بعينيها.
كانت الغرفة تعجّ بالتحف القديمة والقطع العتيقة، يعكس كلّ ركن منها عظمة زمنٍ مضى. وعلى مكتبٍ من خشب الماهوغني، لفت انتباهها شيء منحوت بدقةٍ بالغة.
‘نعم، هذا مناسب!.’
تألقت عيناها الذهبية وهي تحدّق في اللوح الرخامي وقطع الشطرنج المصقولة.
قالت بابتسامة مشرقة:
“لوبيون، ما رأيك في مباراة شطرنج؟ يمكننا وضع رهانٍ صغير.”
أمال رأسه قليلاً، يراقبها بصمت، فعدّت ذلك إشارة لتكمل.
“إن فزتُ، تُعلّمني لغة الديلفانيان.”
“…”
“وإن فزتَ أنت، أحقق لك أمنية تطلبها.”
توقعت أن يغريه الأمر، لكن صمته جعل قلبها يخفق بقلق.
وأخيرًا قال وهو يجلس ويلتقط أحد الأحجار السوداء:
“لنجعلها مباراة واحدة.”
رائع! سأفوز كما كنت أفعل دائمًا.
جلست إيلينا بثقة، وأخذت حجر الشطرنج الأبيض، ثم قالت بلطف:
“يمكنك أن تبدأ.”
لكن مع تقدّم اللعب، بدأت ثقتها تتلاشى، واتسعت عيناها في ذهولٍ تام.
“كش ملك.”
قالها لوبيون بهدوء، وهو يزيح ملكها الأبيض بضربةٍ مهارية.
حدّقت فيه في صدمةٍ كاملة.
مستحيل…
لطالما كانت تهزمه بسهولة حين كانا صغيرين، فظنت أنّ الأمر لم يتغير. لكن يبدو أنّ ثقتها القديمة لم تعد صالحة اليوم.
وبينما كانت تنظر بخيبة، قال بنبرةٍ تشبه المواساة، لكن بلا صدق كبير:
“يبدو أني فزت.”
“لا تبدو متأثرًا إطلاقًا…”
ثم رفعت نظرها باستسلام وقالت:
“هل فكرت في الأمنية؟.”
“ليس حقًا. لا يخطر ببالي شيء.”
حسنًا، الرهان كان مفاجئًا أصلًا…
ثم التقت عيناه الزرقاوان بعينيها، تحملان بريقًا خفيفًا.
“سأُعلمكِ لغة الديلفانيان.”
“…ماذا تقصد؟.”
“أليست هذه هي اللغة التي أردتِ تعلّمها؟.”
فتحت فمها في دهشة، ولم تستطع الرد لثوانٍ. عندها ارتسمت على شفتيه ابتسامة خافتة، قبل أن يقول بنبرته الهادئة المعتادة:
“سنبدأ الدروس مساء الغد.”
“مساء الغد؟.” أعادت السؤال غير مصدّقة.
“بما أننا سنخطب، فمن الأفضل أن نقضي وقتًا أطول معًا.”
“…”
قبل قليل كنت تقول إنك لا ترغب في أن نتقرب أكثر. ما الذي يجري في رأسك يا لوبيون؟.
ولوهلة، خُيّل إليها أنها رأت في عينيه مسحة خفيفة من المتعة.
—
في هدوء غرفة الدراسة، لم يكن يُسمع سوى طقطقة الحطب في المدفأة. جلست إيلينا تحدّق في اللهب المتراقص، تفكر في أحداث اليوم السابق. كانت تنتظر لوبيون الذي بعث يخبرها بأن اجتماعًا طويلًا قد أخّره.
‘هذا ما أردته، لكن الجلوس وحدي هنا غريب فعلًا.’
كانت الغرفة، بجدرانها الداكنة وجوّها الجاد، تُشبه شخصية لوبيون تمامًا. وأثناء تجوال عينيها في المكان، وقعت على شيء فوق مكتبه، فشهقت دهشة.
عدة مجلدات سميكة من أساسيات لغة الديلفانيان موضوعة بعناية فوق بعضها.
“كيف سأتعلم كل هذا…؟.”
قدّرت أنها تحتاج ثلاثة أشهر على الأقل لإنهائها. وبينما تفكر بذلك، قطع صوتٌ هادئ شرودها.
“هل انتظرتِ طويلًا؟.”
دخل لوبيون بخطواتٍ هادئة نحو الطاولة حيث كانت تجلس.
“لقد وصلت؟.”
كان يحمل معه برودة الشتاء، حتى إنها شعرت بقشعريرة حين جلس قبالتها. ومع نظرته الحادّة التي ملأت المكان توترًا خفيفًا، التقطت أنفاسها واستعدّت.
“لنبدأ الدرس.”
كان تدريسه أكثر صرامة مما توقعت. فقد كان دقيقًا، مركزًا، لا يلين، وكأنه معلّمٌ إمبراطوري يُدرّس الآداب الملكية. ورغم عودته للتو من اجتماعٍ طويل، لم تبدُ عليه أي علامات تعب، مما أثار إعجابها.
‘والآن، نحن وحدنا هنا.’
وبينما تحلّ التمارين التي وضعها لها، رفعت عينيها نحوه في قلقٍ خفيف. كان مشغولًا بقراءة بعض الوثائق غير المنتهية، جبينه مقطّب.
‘لماذا وافق على مساعدتي؟.’
لم تعرف الإجابة، لكنها كانت ممتنّة لذلك. ارتسمت على شفتيها ابتسامة صغيرة.
“لوبيون، إنك لطيف جدًا.”
توقّف قلمه لحظة، والتفت إليها بنظرةٍ متسائلة. أسرعت تقول:
“فاللطف، ليس أمرًا يسهل إظهاره دائمًا.”
“هل أساء إليكِ أحد؟.”
لثانيةٍ واحدة فقط، لمع في عينيه الزرقاوين بريق بارد جعلها ترتجف، فسارعت إلى نفي الأمر.
“لا، أبدًا! أنا مرتاحة هنا في الشمال.”
“…هكذا إذًا.”
وبالطبع، لم يكن خَدَم دوقية ديفونشاير ليُظهروا وقاحة تجاه خطيبة سيدهم المستقبلية، فهم شديدو الولاء والاحترام لسيدهم.
التعليقات لهذا الفصل " 9"