كان ذلك في ظهيرة شتوية حين كانت الثلوج البيضاء تتلألأ تحت دفء أشعة الشمس. ورغم أن الطقس البارد كان واضحًا في الهواء، فإنّ إيلينا، التي كانت تحبّ التنزّه، كانت تتجوّل ببطء في أرجاء الحديقة الواسعة.
‘ما زال البرد كما هو…’
حين هبّت نسمة باردة، ضمّت شالها حول كتفيها بإحكام. وفجأة، أحسّت بنظرة حادّة تخترقها، فالتفتت حولها تبحث عن مصدرها، ولم تلبث أن اكتشفت السبب حتى أطلقت تنهيدة طويلة.
‘يبدو أن عينيّ تتقاطعان مع نظرات لوبيون كثيرًا هذه الأيام…’
لسبب ما، كانت نظرته المليئة بالتحفّز والحيطة قد ازدادت شدّة. والأغرب أنّها لم تتجمّد خوفًا حين تلتقي بعينيه الباردتين.
‘لا يمكن أن أستمرّ هكذا، عليّ أن أعرف السبب بنفسي اليوم!.’
وقد اتخذت قرارها، خطت بخطوات واثقة نحو لوبيون الذي كان واقفًا بجانب أحد الأعمدة الرخامية.
“لوبيون، هل لديك ما تودّ قوله لي؟.”
ارتسمت على وجهه ملامح خفيفة من الارتباك، وكأنّ سؤالها المباغت لم يكن في الحسبان.
“ليس بالضبط.”
“…”
‘هل فعلت شيئًا أزعجه؟.’
راحت تُقلّب في ذاكرتها، فلم تجد ما يمكن أن يكون قد أغضبه، فابتلعت غصة خفيفة من الإحباط.
‘لقد كان يُظهر مشاعره بوضوح أكبر عندما كنّا صغارًا…’
رغم أن طباعه الجادّة والمنغلقة كانت تجعلها أحيانًا تشعر بالصِغَر أمامه، إلا أنّها قرّرت ألا تدع ذلك يُثنيها. فحتى لو كان زواجهما زواج مصلحة لا حبّ فيه، لعلّ بإمكانهما أن يتبادلا الودّ والاحترام مع الوقت. وبهذا العزم، قرّرت أن تبادر هي أولًا.
‘في مثل هذه الحالات، المواجهة المباشرة هي الأفضل!.’
رفعت رأسها بشجاعة والتقت نظراته بثبات، فبدت عليه الصلابة كأنّه تجمّد في مكانه. كتمت إيلينا ابتسامة خفيفة وتقدّمت نحوه خطوة واحدة، فما كان منه إلا أن تراجع خطوة إلى الوراء.
“لوبيون، هل أنت… تتجنّبني؟.”
“…ولماذا أفعل ذلك؟.”
ابتسمت في سرّها؛ كان واضحًا أنّه ليس بارعًا في الكذب، شأنه شأن أناشا.
‘لهذا السبب من الممتع مضايقته…’
تعمّدت أن تُظهر شيئًا من الحزن في صوتها وهي تقول:
“إذن يبدو أنّني كنتُ أتوهّم، ظننتُ أنك تتجنّبني عمدًا…”
نظر إليها لوبيون وقد عقد حاجبيه قليلًا، ثم رفع يده ليفرك عنقه في ارتباك واضح. وفي تلك اللحظة، هبّت نسمة رقيقة وأسقطت ورقة صغيرة على شعره الأسود. مدّت إيلينا يدها لتزيلها، غير أنّه ابتعد عنها مرة أخرى خطوة سريعة.
تجمّدت في مكانها مندهشة من ردّ فعله القاسي، في حين غامت عيناه الزرقاوان بنظرة باردة.
“أُفضِّل ألّا نقترب أكثر مما ينبغي.”
“سيكون ذلك صعبًا…”
رفع حاجبه باستغراب خفيف وقال:
“هذا لمصلحتكِ أنتِ-.”
وقبل أن يُكمل كلامه، ارتفعت إيلينا على أطراف أصابعها وأزالت الورقة عن شعره بخفة، ثم ابتسمت قائلة:
رغم أنّه بدا كمن يرسم حدًّا بينهما، إلا أنّ في صوته نبرة دفء خفيّة جعلت عينا إيلينا في دهشة.
‘هل يمكن أن تكون طريقتي المباشرة قد نجحت؟ إن كان كذلك…!.’
اغتنمت الفرصة وسألته بلهجةٍ مليئة بالأمل.
“هل يمكنني رؤية المكتبة؟.”
“المكتبة؟.”
مال برأسه قليلًا، منتظرًا تبريرها. فسارعت تقول بحماس.
“أنا مهتمّة كثيرًا بالكتب القديمة والتحف النادرة!.”
ولتثبت صدق نيتها، أظهرت ابتسامة مشرقة على وجهها. وبعد لحظة صمتٍ قصيرة، قال بنبرته الهادئة المعتادة:
“حسنًا.”
“…حقًا؟! كنت أظنّ أنك سترفض.”
حدّقت فيه بدهشة، إذ لم تتوقّع تلك الموافقة السهلة. فالمكتبة مكان لا يُسمح بدخوله إلا لأفراد الأسرة، ولم تكن بعدُ خطيبته رسميًّا. ألقى لوبيون نظرة على ساعته الذهبية الصغيرة ثم قال بهدوء:
“سأفرغ وقتي هذا المساء.”
“ليس عليك أن تكلّف نفسك…”
‘لكن لا، الفرصة لا تُفوّت حين تسنح!.’
تألّقت عيناها الذهبيّتان بعزمٍ صريح وهي تقول بثقة:
“جيّد، سأراك لاحقًا إذًا!.”
—
حين وصلا إلى الباب الضخم المزخرف بالنقوش الدقيقة، توقّف لوبيون.
ولوهلة، لمعت في عينيه الزرقاوين نظرة باردة وهو يُدخل مفتاحًا ذهبيًا في القفل ويفتح الباب.
“هذه هي مكتبة قصر الدوق الأكبر.”
كانت المكتبة مقتصرة على أفراد العائلة وحدهم، وتضمّ مجموعة نادرة من التحف والكتب القديمة.
في القصة الأصلية، لم يُذكر سبب وجود هذه الكنوز الإمبراطورية هنا…
تحدث لوبيون وهو يسير بخطوات ثابتة بين الرفوف العالية.
“لقد أخفوا الميراث العائلي في أنحاء القصر ليبقى في أيدي الورثة المستقبليين.”
ثم أوضح أنه عثر على تلك التحف صدفةً حين وصل إلى القصر، فجمعها ووضعها هنا. أومأت إيلينا برأسها متابعة خطواته، حتى توقّف أمام لوحة كبيرة وحدّق فيها طويلاً بوجه متجمّد.
حين نظرت إلى اللوحة، أدركت مَن فيها، فصمتت باحترام.
‘المجد لحماة إمبراطورية فالديون، الإمبراطور والإمبراطورة الراحلين…’
أحنَت رأسها باحترام في صمت خفيف، تتمعّن في ملامح الصورة. فوفقًا للقانون الإمبراطوري، يجب أن تُحفظ لوحات الأباطرة السابقين بسحر خاص في القصر الإمبراطوري، لكن الإمبراطور الحالي لم يسمح بذلك. ولهذا السبب جلب لوبيون لوحات والديه المُهملة إلى الشمال البعيد.
‘كيف كان شعوره وهو يرى صوريهما، وهما منبوذان من العرش الذي كان حقّهما؟.’
تساءلت إيلينا في قلبها، ولم تستطع حتى أن تتخيّل ثقل الغضب والوحشة في صدره.
ولمّا وجدت أن الكلمات المواسية لن تُجدي، قرّرت أن تُخفّف الأجواء بدلًا من ذلك.
“لوبيون، إنك تشبه الإمبراطورة الراحلة كثيرًا.”
“حقًا؟.”
“نعم… كنتَ مشرقًا بحقّ.”
وحين أدركت أنها تفوّهت بما في ذهنها بصوت عال، احمرّ وجهها خجلًا.
‘ما الذي أقوله؟!.’
مال لوبيون برأسه قليلًا وكأنه ينتظر أن تُكمل، فبادرت تقول سريعًا بنبرة عادية.
“لا شيء.”
لم يُعلّق على الأمر، فعادت هي تركّز في ما جاءت لأجله. راحت تمسح بعينيها صفوف الكتب واحد تلو الأخر.
‘أين يمكن أن يكون؟.’
فقد دخلت المكتبة بحثًا عن كتاب مذكور في القصة الأصلية، يُقال إنه يحتوي على طريقة لمنع وقوع الكارثة القادمة. فقد ذُكر في الرواية أن مفتاح إيقاف الوباء مدفون داخل مكتبة الدوق الأكبر.
‘هذا أحد الأسباب التي جعلتني آتي إلى الشمال.’
وبعينين يملؤهما الإصرار، تابعت بحثها بدقة حتى لفت نظرها كتاب بعينه، فمدّت يدها نحوه وقد انعكست في عينيها لمعة الأمل.
التعليقات لهذا الفصل " 8"