قال الفتى بنبرة يملؤها الضجر، وهو يرمي بحجر صغير نحو الأرض:
“التجمّعات الاجتماعية مملة، كلها مجاملات رسمية بلا معنى.”
ابتسمت إيلينا قليلًا، وأومأت برأسها موافقة:
“صحيح… أستطيع أن أتفهّم ذلك.”
أخذت تتأمله متفحّصة ملابسه. كان قميصه متجعّد غير مرتّب، لكنّه مع ذلك يرتدي صديريًا وسترة فاخرة تدلّ على أنّه من عائلة نبيلة، على الأرجح جاء إلى القصر مع والديه لحضور الاجتماع. لاحظ الفتى نظراتها، فرفع حاجبه بابتسامة جانبية متغطرسة.
“تسك، وما الذي تعرفه طفلة مثلكِ عن مثل هذه الأمور؟.”
ضحكت أكثر وهي تلاحظ كيف حاول إنكار الأمر بوجه محمرٍّ وعيون متوترة. كان في ملامحه وقار غريب رغم صغر سنّه، ومع أنّها هي من تولّت معظم الحديث، إلا أنها استمتعت بحديثه أكثر مما توقّعت.
سألها الفتى فجأة:
“وما اسمكِ؟.”
“أنا إيل…”
كانت على وشك أن تقدّم نفسها باسمها الحقيقي حين خطر في بالها خاطر طريف.
‘سيكون الأمر مملًا إن أخبرته باسمي الحقيقي…’
ترددت قليلًا، ثم وقعت عيناها على وردة متفتّحة في الحديقة، فابتسمت وقالت بحماس طفوليّ:
“روزي! نادِني روزي من الآن فصاعدًا!.”
“إنه اسم جميل.”
تجمّدت إيلينا لوهلة، وهي تحدّق فيه مأخوذة بكيفية نطقه للكلمة. وما إن التقت نظراتهما حتى احمرّ وجهها بشدّة وغطّت وجنتيها الصغيرتين بكفّيها.
‘يا إلهي، لم أقصد التحديق هكذا!.’
ضحك الفتى بخفّة على خجلها، فحاولت إيلينا تغيير الموضوع.
“وأنت، ما اسمك؟.”
“اسمي سايمون.”
‘سايمون… أين سمعتُ هذا الاسم من قبل؟.’
أحسّت بأن الاسم مألوف، لكنها لم تتذكّر مصدره، فهزّت رأسها بخفة متجاهلة الفكرة.
خلال حديثهما، علمت أنه يكبرها بعامٍ واحد، وتساءلت للحظة إن كان يجدر بها أن تخاطبه بصيغة رسمية، لكنه بدا غير مكترث لذلك، مما جعلها تشعر بالراحة.
هبت نسمة لطيفة حرّكت خصلات شعره الأسود، فمدّ يده يمسحها عن جبينه، لتلمع عيناه الزرقاوان تحت أشعة الشمس كجوهرتين نادرتين. انحبست أنفاس إيلينا للحظة.
‘واو…!.’
كان أجمل فتى رأته في حياتها القصيرة، فوجدت نفسها تتساءل أيّ رجل وسيم سيصبح حين يكبر.
“لماذا تنظرين إليّ هكذا؟ هل على وجهي شيء؟.”
“لا! فقط كنت أفكر بأنك… جميل جدًا!.”
صمت لحظة، ثم احمرّ وجهه حتى أذنيه.
تداركت نفسها بسرعة وقالت وهي تضحك بخجل:
“كنت أتمتم مع نفسي فقط!.”
‘إنه يخجل بسهولة فعلًا…’
فكّرت وهي تكتم ضحكتها، أما هو فعبس قليلًا.
“وما المضحك في ذلك؟.”
هزّت رأسها نافية، فلم ترد أن تزيده حرجًا بوصفه بـ’اللطيف’.
وبينما مالت الشمس نحو الغروب، خفت صوت الطيور في الحديقة. نظرت إيلينا إلى الأفق، فشعرت بقلق مفاجئ.
“يا إلهي! لقد تأخر الوقت! لا بد أن أبي قلق جدًا!.”
وضعت يديها على خديها مذعورة، وهي تتخيل توبيخ والدها. ضحك سايمون قليلًا وهو يرى ارتباكها، ثم قال بنبرةٍ هادئة:
“لا تقلقي، سأرافقك حتى تعودي.”
سارا معًا بخطوات بطيئة، وكأنّ كلٌّ منهما يتمنى لو يطول هذا اللقاء أكثر. وعلى عكس ما ظنّت، لم تكن قد ابتعدت كثيرًا عن مكان العربة، فقد وصلا خلال وقت قصير إلى حيث تتجمّع العربات النبيلة.
توقف سايمون عند طرف الطريق وقال بنبرة منخفضة:
“يمكنكِ العودة من هنا، أليس كذلك؟.”
لاحظت كيف بدا متوتّرًا قليلًا أمام الحشود، فابتسمت له بثقة.
“نعم، شكرًا لأنك أوصلتني!.”
وبينما بدأ النبلاء يغادرون القصر بعد انتهاء الاجتماع، وقعت عيناها على والدها في البعيد.
‘آه! إنه أبي! يجب أن أسرع!.’
لكنها توقفت فجأة قبل أن تركض، وأمسكت طرف كمّه بخجل واضح.
“أم… عندما نلتقي مرة أخرى، لنتصرّف وكأننا نعرف بعضنا، حسنًا؟.”
ضحك سايمون برفق، وأومأ برأسه موافقًا. ثم أخرج شيئًا صغيرًا من جيبه ووضعه في كفّها.
“ما هذا؟.”
“شريط مخملي أزرق… ارتديه عندما نلتقي مجددًا.”
تأملته بدهشة، فابتسم بخجل وهو يضيف:
“كان من المفترض أن أهديه لأختي الصغيرة… لكنها لم تولد بعد.”
شعرت بحرارةٍ لطيفة في صدرها من عذوبة الموقف، فابتسمت بامتنان.
“شكرًا لك، سايمون.”
أشاح بوجهه جانبًا وهو يحكّ شعره بتوتر، فقالت له بخفة قبل أن تركض نحو والدها:
“إلى اللقاء!.”
التفتت في منتصف الطريق لتنظر خلفها، لكنها لم تجده في مكانه.
‘لم أخبره باسمي الحقيقي بعد…’
كان قد اختفى بين العربات، ولم تعلم أنها ستلقاه مجددًا، لا في القصر، بل في مكان آخر تمامًا. حين تعرفه باسمه الحقيقي.
لوبيون سايمون أرجنتا، ولي عهد إمبراطورية فالديون.
—
كانت إيلينا تتأمل الشريط المخملي الأزرق بعد كل تلك السنين، وقد خيّم على ملامحها حنين ممزوج بمرارة خفيفة.
‘يا لتلك الأيام التي لن تعود…’
وضعت الشريط على الطاولة مبتسمة بسخرية حزينة. فبين لوبيون الذي عرفته في طفولتها، والرجل الذي يقف أمامها اليوم، امتدّت هوّة سحيقة لا يمكن تجاوزها.
كانت تعلم أن تغيّر الناس أمر لا مفرّ منه، ومع ذلك لم تستطع منع نفسها من التساؤل:
‘هل ما زال يتذكرني؟.’
حتى لو فعل، فلن يتخيّل أبدًا أن الطفلة التي التقاها في الحديقة صارت الآن هي نفسها إيلينا.
‘ترى… هل أريده أن يتذكّرني حقًا؟.’
زفرت تنهيدة طويلة، ورفعت نظرها إلى السماء المظلمة. نسمة الليل الباردة لامست بشرتها، فارتجفت وأغلقت النافذة، لكن طرقة خفيفة على الباب أوقفتها.
“هل لي بالدخول؟.”
تجمّدت للحظة، فقد عرفت الصوت فورًا. كان لوبيون بنفسه.
“تفضّل.”
دخل بخطوات ثابتة، مرتديًا زيه الرسمي، وكتفاه العريضان يضفيان عليه هيبة مهيبة. كان شعره الأسود مصففًا بعناية، وعيناه الزرقاوان اللتان كانتا تلمعان يومًا ببريق صاف، بدتا الآن خاليتين من أي دفء. كتمت ابتسامة حزينة وهي تتأمل التغيير الكبير فيه.
“أردت مناقشة أمر يخصّ الحفل.”
رأت الأوراق بين يديه، ففهمت أنّه يقصد مراسم خطبتهما الرسمية.
‘كما توقعت…’
أومأت بهدوء وجلست على الأريكة المقابلة له، وأخذت تتفحّص الأوراق بصمت. قطع لوبيون السكون بصوته العميق.
“أود أن يكون الحفل بسيطًا قدر الإمكان.”
“أتفق معك تمامًا.”
كان ارتباط دوقية ديفونشاير بماركيزية روهينباك أمرًا كفيلًا بإثارة حسد النبلاء وإزعاجهم. لم ترغب أن تمنحهم فرصةً للطعن أو الانتقاد، لذا أضافت بهدوء.
“سأدعو أفراد العائلة فقط.”
“افعلي ما تشائين.”
وخزها بروده كإبرة خفية، لكنها أخفت انقباض قلبها بابتسامة صغيرة.
‘هل يعني أنه لن يدعو أحدًا من جانبه؟.’
نظرت إليه مترددة، فلاحظ نظراتها وسأل ببرود دون أن يرفع عينيه عن الأوراق.
“هل لديكِ ما تودين قوله؟.”
ترددت لحظة، ثم تلاشت الابتسامة من وجهها تدريجيًا، إذ أدركت الحقيقة المؤلمة.
‘بالنسبة له… تلك الذكريات لم تكن جميلة.’
ربما لم تبقَ في ذهنه إلا كذكرى مؤلمة يودّ لو تُمحى. شعرت بأنها عبثت بجرح لم يلتئم بعد، فخفضت رأسها قائلة بهدوء:
“لا، لا شيء يا صاحب السمو.”
رفع رأسه قليلًا وأضاف بصوت بارد كالصقيع.
“ليس لدي من يمكن أن أصفه بـ’صديق المقرّب’.”
“…”
أومأت كما لو أنّ الأمر لا يعنيها، لكن قلبها كان يعتصر ألمًا.
التعليقات لهذا الفصل " 7"