كان الشتاء في ذروته، والريح تهبّ بعنف مع نهاية العام، فكان بردها يتسلّل عبر النافذة المفتوحة، بينما تعبق رائحة زهور الشتاء المتفتّحة عند حافتها بنفحات عطرة خفيفة. بعد أن أنهت إيلينا أعمالها بعد الظهر، قصدت غرفة الآنسة الصغيرة كما اعتادت مؤخرًا. فمنذ أن تقرّبت من أناشا، أصبحت تمضي معها وقتًا طويلًا كل يوم.
ويبدو أنّ اليوم كان مخصصًا لحصة في الرسم، إذ كانت الطفلة منحنية على طاولتها، تركّز بجدٍّ وهي ترسم شيئًا ما بعناية. عقدت حاجبيها، وعضّت شفتها السفلى وهي تغمس الريشة بالألوان، فارتسمت على وجه إيلينا ابتسامة رقيقة، وهي تتابعها بعين مليئة بالمودّة.
تجمّدت ابتسامة إيلينا في مكانها، واتّسعت عيناها الذهبيّتان وهي تحدّق مجددًا في الورقة، محاولة تصحيح خطئها، لكنّ الطفلة أسرعت تقول:
“لقد فات الأوان يا أختي الكبرى!.”
زمّت شفتيها بتدلّل ونفخت خدّيها الممتلئين، بينما حاولت إيلينا كتم ضحكتها بصعوبة وهي تفكّر في مدى طرافة هذا المخلوق الصغير أمامها.
‘ما الذي سأفعله مع هذه الفطيرة الصغيرة؟.’
كادت تمدّ يدها لتقرص خدّيها، لكنّها تماسكت وواصلت النظر إليها بعطف أكبر.
‘ترى، ما الذي قد يسعدها؟.’
وفي تلك اللحظة، انعكست أشعة الشمس على خصلات شعر الطفلة، فأضاءت وجهها، لتخطر فكرة لطيفة على بال إيلينا.
“يا صغيرتي، ما رأيك أن نخرج معًا حين تتحسّن الأجواء؟.”
رفعت أناشا حاجبًا بدهشة طفيفة.
“إلى الخارج؟.”
تظاهرت باللامبالاة لكن أذنيها ارتجفتا فضولًا، فابتسمت إيلينا وأومأت.
“نعم، إلى مقهى للحلوى! هناك مكان يصنع كعكًا شهيًّا للغاية!.”
“مقهى للحلوى؟.”
رفعت أناشا رأسها بسرعة، وعيناها الزرقاوان تتلألآن مثل نجمتين.
“أي إننا سنجوب الشوارع؟.”
“بالضبط. أودّ أن أخرج معكِ، فهل تودّين ذلك أيضًا، يا صغيرتي؟.”
“حسنًا، سأخرج معكِ يا أختي!.”
ظهرت فجوة صغيرة مكان أسنانها الأمامية، فازدادت ابتسامتها براءة، وجعلت إيلينا تضحك بخفّة وهي تلمس خدّها الناعم برفق.
وبعد العشاء، غلب النعاس على أناشا التي ظلت ترسم طوال اليوم. ولما رأت إيلينا الخادمة تحاول إيقاظها بتردد، قالت مبتسمة:
“دعيها لي، يمكنكِ الذهاب.”
اقتربت بخفّة من الطفلة النائمة على الطاولة، وهزّت كتفها بلطف هامسة:
“يا صغيرتي، هيا إلى السرير، ستؤلمين عنقكِ إن نمتِ هكذا.”
فتحرّكت أناشا ببطء، تمسح عينيها وهي تتمتم بنعاس.
“ممم… نعم يا أختي…”
ابتسمت إيلينا بحنان، وأزالت ورقة كانت ملتصقة بخدّها الصغير.
‘لا بدّ أنها أرهقت نفسها اليوم.’
وبينما كانت تجمع أدوات الرسم المبعثرة، وقعت عيناها على رسمة الطفلة، فابتسمت برفق. كانت الصورة تُظهر بطاطتين صغيرتين، إحداهما بشَعر فضيّ، والأخرى بشَعرٍ أسود. للحظة، خطر ببالها فتى مشاغب من طفولتها، فتأمّلت الرسمة طويلًا وهي تهمس:
“في الحقيقة… يشبهه قليلًا.”
بعد أن غطّت أناشا بالنوم، أخذت إيلينا حمامًا بمساعدة الخادمات، ثم ارتدت قميص نوم أبيض خفيف وجلست قرب النافذة، تاركة نسمات الشتاء الباردة تتسلّل من بين الشقوق. كان شعرها المبتلّ يتمايل مع النسيم، والسماء المظلمة فوقها تبعث في قلبها طمأنينة غريبة.
وأثناء تأملها الهادئ، خطر ببالها شيء، فمدّت يدها إلى صندوق خشبي صغير وأخرجت منه دمية صغيرة.
‘كنت قد نسيت أمرها لفترة طويلة…’
ابتسمت ابتسامة خفيفة وهي تعبث بشريط مخمليٍّ أزرق يزيّن عنق الدمية. كانت هدية من صديق طفولتها، ذكرى عزيزة وإن لم تعد سوى بقايا من ماض بعيد.
“أظنّه لم يعد يتذكّرني…”
لم تكن تعلم إن كان لوبيون ما يزال يذكر أيام طفولتهما، لكنها كانت تحتفظ بتلك الذكريات ككنز ثمين. ظلّت تلامس الشريط الأزرق بلطف، تتأمل اللحظة التي التقيا فيها لأول مرة…
—
كانت إيلينا يومها في الحادية عشرة من عمرها، قد بدأت حديثًا دراسة فنون الكيمياء. وكانت مفتونة آنذاك بالسحر المتعلق بتبديل المظهر، الذي يُغيّر لون الشعر والعينين مؤقتًا. بدت لها التجربة كأنها لعبة، لكنها ذات مرة أخطأت في المكوّنات، فاستيقظت بشَعر أشقر فاتح وعينين خضراوين لبضعة أيام.
ضحك الدوق بصوت عال، وهزّ رأسه مستسلمًا لمشاغبات ابنته. كانا يخططان لزيارة السوق ذلك اليوم، لكن رسالة عاجلة من القصر الإمبراطوري غيّرت مسار الرحلة.
كان هناك اجتماع طارئ استُدعي الدوق لحضوره، وقد امتلأ القصر بالنبلاء بالفعل.
قال لابنته وهو يمسح على رأسها بحنان:
“سأعود سريعًا، ابقي في العربة بهدوء، حسنًا؟.”
“حسنًا، أبي!.”
لكنّ البقاء بهدوء في العربة لم يكن مهمة سهلة لطفلة فضولية. راحت تتأرجح ساقاها القصيرتان وهي تنظر من النافذة، ثم تمتمت بضجر:
“آه، كم هذا ممل!.”
رأت السائس يغفو في مكانه، والحراس يلهون بالتراب، فوسوست لها نفسها:
‘لن يحدث شيء إن استكشفت المكان قليلًا…’
قفزت بهدوء من العربة وغابت عن الأنظار. لصغر حجمها ورشاقتها، لم يلاحظ أحد خروجها.
‘نجحت!.’
ركضت بمرح عبر ممرات القصر، تتأمل الحدائق الفسيحة والتماثيل العالية. كانت قد زارت القصر من قبل برفقة والدها، لكن هذه المرة كانت مغامرتها الأولى وحدها. أخذت تدندن بأغنية صغيرة وتلاحق الفراشات، إلى أن تذكّرت فجأة تحذير والدها:
“هناك وحوش في القصر…”
تجمّد الدم في عروقها، وشعرت بقشعريرة تسري في جسدها الصغير. أرادت العودة إلى العربة، لكنّها لم تتذكّر الطريق، فبدأ قلبها يخفق بعنف.
‘إلى أين أذهب؟.’
وبينما كانت على وشك البكاء، سمعت صوت حفيف بين الشجيرات.
صرخت بخوف وركضت إلى الأمام دون أن تلتفت، لكنها تعثّرت بحجر وسقطت أرضًا. ومع اقتراب الصوت أكثر، رفعت رأسها بخوف، تتلفّت حولها.
خلف أوراق الشجر الخضراء، كان الضوء يتسلّل برفق، وصوت العصافير يمتزج بعبق الأزهار المتطايرة. وفجأةً…
قال صوتٌ ناعمٌ قربها:
“هل أنتِ بخير؟.”
ظهر فتى من بين الأشجار، فتدفّق الارتياح في صدرها، وانفجرت باكية.
“وااه! انت إنسان!.”
وقف الفتى حائرًا، لا يعرف كيف يتصرّف أمام بكائها، ثم جلس قربها يربّت على كتفها بخجل.
وبعد أن هدأت قليلًا ومسحت دموعها بطرف كمّها، سألها بنبرةٍ هادئة:
“ما الذي أتى بكِ إلى هنا؟.”
حكّت خدّها بإصبعها، وقد فهمت سبب دهشته لرؤيتها وحدها في القصر، ثم قالت:
“أبي جاء إلى هنا من أجل عمل مهم.”
“أهو يعمل هنا؟.”
“لا، جاء لاجتماع في القصر، وطلب مني أن أبقى في العربة، لكنني خرجت قليلًا…”
أصغى الفتى لكلامها، ثم نظر إلى شَعرها الأشقر وقال متفكّرًا.
التعليقات لهذا الفصل " 6"