في غرفة يغمرها ضوء القمر الخافت، وقف لوبيون بجانب النافذة مطلقًا تنهيدة ثقيلة. كان قد فرغ للتوّ من التعامل مع الجواسيس الذين تسللوا إلى قصر الدوق أثناء معاقبة معلّمة الموسيقى الخاصة بأناشا. وما إن تذكّر الحالة التي كانت فيها شقيقته الصغيرة، قبض كفّيه بقوة حتى برزت عروقه، يلوم نفسه بمرارة لأنه لم يدرك معاناتها في وقت أبكر.
حين كانت شقيقته تثرثر بفرح عن مدى استمتاعها بنزهتهما اليوم، وجد نفسه عاجزًا عن الرد. فبينما شعر بالارتياح لأنها بخير، ازدادت هواجسه عمقًا. كان يخشى أن تتأذى أناشا يومًا بسبب تلك المرأة التي ستغادرهم لا محالة. وحين خطرت صورة إيلينا بباله، عقد حاجبيه بقلق غامض.
كانت علاقته بإيلينا روهينباك علاقة شكلية بحتة، لا أكثر ولا أقل. وبما أنّ ماركيز روهينباك حدد فترة خطوبتهما بعامين، بدا من غير المرجّح أن تنتهي بزواج فعلي. لقد كانت صفقة عائلية لا أكثر، ونوى لوبيون أن يحافظ فيها على الحدّ الأدنى من اللباقة والواجب.
ولذلك وافق على طلبها بالبقاء في الشمال طيلة فترة الخطوبة.
‘لكنني لا أستطيع فهمها.’
لم يكن قادرًا على استيعاب سبب إصرارها على المجيء إلى هنا. فمع ما يشاع عن أوضاع أسرته، لم يكن من المنطقي أن ترغب بالارتباط برجل ترددت حوله إشاعات بالعجز. وكان عازمًا على معرفة مقصدها الحقيقي.
وحين عرض عليها مكافأة لقاء ما قامت به، فاجأه طلبها الغريب:
“لوبيون، أيمكنك أن تعدني بشيء؟.”
“بماذا؟”
“عدني ألّا تمرض أبدًا، وأن تبقى بصحة جيّدة!.”
تذكّر كلمتها تلك وهو ينظر إلى ذراعه.
‘هل أبدو واهيًا إلى هذا الحد؟.’
لقد اعتاد سوء الفهم، فمنذ صغره نُعت بالبارد وعديم المشاعر، ونسج الناس حوله الشائعات. غير أنّ هذه المرة كانت مختلفة، إذ شعر باضطراب خفي، كأنّ إيلينا روهينباك، خطيبته، قد كوّنت عنه صورة خاطئة أثارت حيرته.
—
في الجهة الأخرى، كانت إيلينا تتنهد محدقة بكومة من الرسائل على مكتبها. فقد انتشر خبر إقامة السيدة النبيلة المخطوبة لدوق الشمال في قصره بسرعة، مما دفع النبلاء الفضوليين إلى إرسال دعوات متلاحقة. لقد أثارت خطوبة دوق ديفونشاير من ابنة ماركيز روهينباك موجة من الأحاديث في أرجاء إمبراطورية فالديون.
ذلك الاتحاد بين زعيم الفصيل المحافظ وأميرٍ مخلوع لفت أنظار الجميع. أما الإمبراطور الحالي وحزبه التقدمي، فظلّا صامتين على نحو مريب. ورغم أنها كانت قد هيّأت نفسها لمواجهتهم، فإن هذا الهدوء لم يكن مريحًا.
‘ربما لا يروننا جديرين بالاهتمام بعد.’
كان الفصيل المحافظ قد فقد كثيرًا من نفوذه، بينما انشغل لوبيون مؤخرًا بشؤون الشمال دون أن يظهر نشاطًا سياسيًا يُذكر. وربما كانوا يحيكون أمرًا في الخفاء… لكنها رأت أن تجاهلهم أفضل من لفت أنظارهم الآن.
قطعت تأملاتها وعادت تردّ على الرسائل بعناية، ثم سلّمت الأظرف إلى كبير الخدم، وقررت أن تتجوّل قليلًا في أرجاء القصر التي لم ترها بعد.
“يا له من مكانٍ فسيح!.”
كان قصر ديفونشاير، بوصفه حصن الشمال وحامي حدوده، هائلًا بحق. قبل أن يُدمج الشمال في إمبراطورية فالديون، كان دوكاليةً قائمة بذاتها، وما زال القصر يحتفظ بعظمة ذلك العهد. وكان الخادم، غايل، قد رسم لها خريطة بسيطة لتتجنب الضياع، لكنها رغم ذلك تاهت أكثر من مرة.
“لولا غايل، لضعتُ تمامًا!.”
وأخيرًا وصلت إلى المكتبة، حيث رحّب بها أمينها بأدب.
دخلت بخطوات متأنية، وعيناها تتأملان الأرفف المهيبة الممتدة حتى السقف. كانت أكبر مكتبة تقع عليها عيناها، مملوءة بسجلات دقيقة عن علوم وموضوعات لم تسمع بها من قبل، فاشتعل الحماس في نفسها.
‘سأعود إلى هنا كثيرًا، بلا شك!.’
كانت تبحث اليوم عن كتب تتناول الأعشاب المستخدمة في الكيمياء. ورغم أنها أحضرت معظم أغراضها من قصر عائلتها، إلا أنها لم تستطع جلب الأعشاب التي كانت تزرعها بنفسها هناك، إذ تتطلّب ظروفًا خاصة للنمو، ولا يمكنها تركها تذبل.
‘لا يمكنني الاستمرار في طلب الأعشاب من قصر الماركيز.’
قررت إنشاء حديقة أعشابها الخاصة هنا في الشمال. وإن تعذّر تهيئة بيئة مناسبة للنباتات الحساسة للبرد، فستزرع الأنواع التي لا تتأثر به. ولحسن الحظ، وجدت في المكتبة كتبًا عديدة متعلقة بطبيعة الشمال، فابتسمت راضيةً وهي تحمل بعضها.
“سآخذ هذه وأعود.”
لكنها ما إن استدارت حتى كادت تسقط الكتب من يدها بتفاجؤ حين رأت لوبيون واقفًا أمامها.
“ما الذي أتى بكِ إلى هنا؟.”
ابتلعت ريقها بتوترٍ أمام نظراته الثابتة، ثم حاولت أن تتحدث بنبرةٍ عادية.
“أتيت لأقرأ بعض الكتب.”
“يبدو أنكِ تهوين الكتب القديمة.”
ولما انخفض نظره إلى الكتب في يدها، أومأت بخفة.
“ويبدو أنك جئت للقراءة أيضًا، لوبيون.”
“كنت أبحث عن شيء.”
نظرت إلى الكتب التي يحملها، فارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة. كانت تلك الكتب قصصًا للأطفال.
‘لا بد أنه ينوي قراءتها لأناشا.’
تدفقت في صدرها مشاعر دافئة وهي تتخيله جالسًا يقرأ القصص بصوته العميق لطفلة صغيرة. بدا اليوم مختلفًا قليلًا، أقلّ صرامة من المعتاد. غير أنها لاحظت أنّ كل كتبه تدور حول مغامرات ضخمة.
‘لا أظنّ أن أناشا ستحبّ هذا النوع كثيرًا…’
مدّت يدها واختارت كتابًا من رف قريب.
“يبدو أن نسخة من ‘مذكرات الخادمة سالي’ موجودة هنا أيضًا؟.”
حدّقت في غلافه الباهت، وشعرت بذكريات الطفولة تتدفق. كانت تملك نسخة مماثلة أحبتها كثيرًا ثم فقدتها، ولم تجد مثلها بعدها قطّ، إذ نفد طبعها منذ زمن. رؤيتها هنا أشعلت فرحة في قلبها.
‘تذكّرت الآن، لقد أريته هذا الكتاب ذات مرة.’
“أتحبين تلك القصة إلى هذا الحد؟.”
“بالطبع! فالأمير فيها تمامًا كما أتخيله مثالًا للرجل المثالي.”
ثم احمرّ وجهها حين أدركت ما قالت، فبادرت.
“ما بالك تحدّق هكذا؟.”
ابتسمت وهي تستسلم لتلك الذكرى الدافئة، لكن عيني لوبيون الزرقاوين العميقتين ومض فيهما شعور غامض قبل أن يختفي سريعًا.
“أتعرف هذا الكتاب؟.”
سألته.
“طبعًا، إنه من قصصي المفضلة.”
كانت ‘مذكرات الخادمة سالي’ تحكي عن أميرٍ أصيب بلعنة جعلته يفقد مشاعره، حتى التقى خادمة علّمته معنى الحب الحقيقي. غير أنه كان يشكّ بها مرارًا فيؤذيها، لكنه في النهاية يتعلم كيف يحبّ بصدق.
‘كنت مفتونةً بتلك القصة حينها…’
ربما بدت طفولية الآن، لكنها تثير الخيال الدافئ للأطفال. كانت واثقة أن أناشا ستحبّها أيضًا.
“لوبيون، ما رأيك أن نختار هذا الكتاب للآنسة الصغيرة؟.”
فأجابها بعد لحظة صمتٍ قصيرة.
“حسنًا.”
‘حقًا؟.’
أشرق وجهها بابتسامة خفيفة شعرت معها بأنها اقتربت منه قليلًا… ولو أنه مجرد وهم لطيف.
—
بعد عودتها من المكتبة، بدأت إيلينا بفرز الأعشاب اللازمة وأعطت أوامرها لهايدن بإحضار ما نقص منها. ثم أخرجت أدواتها البحثية ورتّبتها على الطاولة.
“رائع… مضى وقتٌ طويل منذ آخر تجربة أجريتها.”
ارتدت معطفها الأبيض وأطلقت طاقتها السحرية داخل الأدوات الزجاجية بدقّة واحتراف. وبعد قليل، عاد هايدن بالأعشاب المطلوبة، ومنها عشبة “ساباني” المنتشرة في الشمال. كانت تبدو كأنها نبتة عادية، لكنها في نظر العارف كنزٌ ثمين.
قالت وهي تراجع مكوناتها:
“هذا يكفي لتحضير جرعة تعزيز المناعة.”
سكبت محلول الجرعة في وعاء زجاجي وأضافت جذور الساباني. وما إن لامست الجذور السائل حتى أزهرت النبتة بألوان صفراء زاهية، وانتجت بذورًا كثيرة. إذا تُركت هذه البذور في محلول شفائي قوي لثلاثة أيام، تحولت إلى إكسير فعّال يعيد الحيوية والنشاط.
“الخطوة الأولى هي تقوية مناعته… لضمان سلامته.”
تلألأت عيناها بالعزم، وعاهدت نفسها على أن تتحمّل مسؤولية تحسين صحة لوبيون. غير أنّ شيئًا واحدًا لم تنتبه له:
أنّ تأثير تلك الجرعات اليومية التي تُعطيه إياها، سيتجلّى يومًا ما… في موضع غير متوقّع تمامًا.
التعليقات لهذا الفصل " 5"